“صرخة الحرف”.. سفر الروح والقلم في محطات الزمن

“صرخة الحرف”.. ديوان جديد للشاعر المبدع عبدالعزيز المدفعي، في 130 صفحة من القطع المتوسط، وقدم له الشاعر المتميز بحري العرفاوي، الذي أكد في تقديمه أن المدفعي من بين كثيرين غمرتهم سطوة الدكتاتورية الثقافية المتحالفة مع الاستبداد السياسي، وهو يتحدث عن فترة ما قبل الثورة ، ليخلص إلى القول: إن المدفعي لسان حال الثورة المغدورة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبقسوة، يقرر العرفاوي على طريقة الشعراء التشاؤمية ثورة انطلقت من الأحلام وانتهت إلى الأوهام، أو هكذا يخيل للشعراء.

الشابي الجديد:

يمكن القول: إن الشاعر عبدالعزيز المدفعي هو النسخة الثانية من أبي القاسم الشابي، فهناك تشابه في الأسلوب، وإن اختلفت الملابسات والمواضيع التي تجمع الطرفين في خانة النضال والشهادة على الناس.

أنا لست بالشاعر الزئبقي      ولا صنعتي أن أقول المديح

وما قلت شعراً أرجي جهولا     ليرضى بقولي أو يستريح

من هنا يحدد الشاعر شخصيته، فهو يعلن هويته واضحة نقية، ولا يتوارى شاعرنا خلف الأسماء التي تتقي المواجهة أو الانكشاف، بل يصدع بما يراه صواباً، وقد بدأ ديوانه كما سلف بالتعريف بهويته، ثم تأكيد انتمائه الإسلامي الواضح، وولائه لله ورسوله.

صلى عليك الله يا خير الورى    يا سيدي يا قدوتي يا طاهرا

والمدفعي داعية إسلامي في شعره، لم يغفل الرقائق، والجمع بين العقيدة والسلوك.

دع الله يقضي الذي قضى     وكن مؤمناً واستغنِ بالرضا

قصيدة “النفير إلى القدس”.

يا قدس إنا قادمون بالألوف      في صفوة الفدا تلو الصفوف

ولى زمان الحاكمين تجبرا       الراكنين الأمر في غبش الرفوف

إلى أن يقول:

نزل الضراغم للوغى ما همهم     صوت القنابل فتية شم الأنوف

قوم يرون الموت فيك نعيمهم      أسد عتاة ليس تفزعهم حتوف

لم ينسَ شاعرنا في ديوانه صلة الرحم ومن حق علينا حبهم وطاعتهم كالوالدين، ولا المناسبات الإسلامية كرمضان والعيدين، وتنتابه حالات غضب شعري لأن الشعب لم يحقق انتظاراته في حين كان عليه أن يوجه أبياته للزعامات المعنوية وصناع الرأي كأمثاله.

رابعة في شعر المدفعي:

يفرد عبدالعزيز قصيدة لرابعة نختار منها هذه الأبيات:

ماذا أقول وذي الحقيقة ساطعة     هل سجل التاريخ مثلك رابعة؟

فيك الدماء تسيل فجراً أنهراً     والشاهد المصدوق ثم الصومعة

ثم (بنصب الميم) استبيح الطفل في أحضانها    أم تقتل في صلاة راكعة

وحافظ القرآن يقنص ساجداً      فتراه يروي من دماء موضعه

والطائرات تطوف بالردى       مثل الكواسر إذ تحوم جائعة

حتى يقول:

يا أيها السفاح إنا هاهنا        ذو اليمن منا من يلاقي مصرعه

فينزف في ركب الشهادة مسعداً    تأتي ملائكة الجنان لترفعه

شاهت وجوه الظالمين فجرمهم    ما عاد يخفى من وراء الأقنعة

وسينع الميدان من أشلائنا      لن تمضي الأرواح هدراً ضائعة

وسيسأل المقتول ظلماً قاتلاً    والموعد المحتوم يوم القارعة

الإنسانية في شعر المدفعي:

وحظيت الشام بقسط من ديوان “صرخة الحرف”، ففي قصيدة “يا شام”، نقرأ الأبيات التالية:

لك الله يا شام فاسترجعي   ومدي أكف الدعا واضرعي

وقومي إلى قتلة كل يوم   ونامي على جرحك الموجع

عشرات القصائد ضمنها الشاعر عبدالعزيز المدفعي ديوانه البديع، صرخة الحرف، هجا فيه من هجا ومدح فيه من مدح، ومن بينهم الأهل والأحباب.

هم أهل وأحباب      وهم في القلب ما غابوا

وهم يعطون لا منا   وهم في الجود أقطاب

وإذا نادتهم لبوا      فلا شكوا ولا ارتابوا

وهجا أهل الفجور معتداً بشاعريته، معتبراً الشعر صنواً للروح التي تسكنه، ومدح شاعريته التي اعتبرها صنواً للروح.

أنا والشعر يا صاح      كبستان وبستان

به تخضوضر الدنيا     فأجني ثمره الداني

حتى يقول:

فإن الشعر لو تدري    غدا والروح صنوان

وقد ركب الشاعر في ديوانه، صرخة الحرف، صهوة الإصلاح منادياً بالكف عن الفتن في البلاد، والتي يعمل بعض السماسرة على إلحاقها بدول الخراب في غياب العقل ومحاولة كل طرف بناء مجده على أجساد خصومه، داعياً إلى انتهاج العدل والكف عن الظلم.

آراها أمنا تبكي      بمر الدمع من حزن

تنادي اليوم أبنائي   ألا ما همكم شجني

ويذكر الشعب في قصيدة، نداء الثورة، بميراث الاستبداد، وأن ذلك الميراث ليس أرشيفاً، وإنما أصحاب مصالح ووكلاء للأجنبي، وآلات للإيجار أمام من يدفع:

ستون عاماً في المظالم لم نر   منهم سفيها ذات يوم قد رشد

صنعوا زعيماً أوحد متألهاً      ملك الرقاب فليس مثله من أحد

وينتقد الشاعر بأسلوبه الساخر دعوة، المصالحة المالية والاقتصادية في تونس فيقول:

حساب الخسر والربح     مشى بالقوم للصلح

فسوى بين جلاد         ومن قد شد للذبح

فيا من قمت تدعوني     إلى النسيان والصفح

أحقا شئت إنصافي      ومن أدراك ما قرحي

فسل زنزانة تحكي       وسل من زار في الصبح

فدك الباب لم يرحم       بكا الأطفال أو جرحي

أجئت اليوم ترثيني      تدواي الجرح بالملح

فلا والله لا أنسى       وإن أنسى فيا ويحي

ولن أبقى هنا رقماً     بعد الجمع والطرح

وديوان “صرخة الحرف”، لعبدالعزيز المدفعي، ديوان لشاعر متمكن يعيد سيرة الشابي، ولكن في سياقات نضالية وفدائية وجهادية جديدة تعمل على استكمال الاستقلال سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وهي مهمة الأجيال الحالمة والحاملة لمشروع الأمة رغم الانكسارات والعقبات، إذ إن الصباح يأتي بعد حلكة الليل، أو كما قال المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم      وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها     وتصغر في عين العظيم العظائم

Exit mobile version