الجمالية في القرآن

د. أحمد ابراهيم

 

القرآن الكريم يؤكد الرؤية الجمالية للكون والعالم والطبيعة، كما يؤيد بأن الله الخالق سبحانه وتعالى جميل ويحب الجمال، هو أساس نظريات الإسلام عن الإنسان وعمله وعالمه أيضاً بل هو أساس كل شيء خلقه الله.

والقرآن الكريم يشير إلى هذه الجمالية التي تبدو في صفحات الكون لم يكد يلمها أي كتاب، فنبحث عن الجمال ونتواصل معه ونتحقق بمعناه ومغزاه عبر تجوالنا اليومي في الأرض والطبيعة أو في الكون والحياة كلها عبر تفكرنا الدائم.

والقرآن يشير إلى تحسين خلق الإنسان كما يشير إلى تزيين الأشياء العديدة المتنوعة في هذا الكون.

والقرآن هكذا يشير إلى التجميل في العلاقات المتناسبة بين هذه الأشياء وفي القيم المنضبطة والموزونة التي على ضوئها وإلزامها يتحرك الإنسان.

إننا نتلو القرآن فنقرأ فيه عن تزيين السماء بالمصابيح الزرق، وتجميلها بالضوء الشفيف، تأملوا هذه الآيات (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {6}) (الصافات)، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ) (الملك:5)، (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ {16}) (الحجر)، (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ {6}) (ق).

هكذا تأملوا ما قال الله تعالى في القرآن عن تجميل الأرض بالخضرة الواعبة، وعن البهجة الجميلة التي يعطيها للإنسان الأشجار والأزهار والزرع والمرعى: (فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا) (النمل:60)، (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {5}‏) (الحج)، (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7}) (ق)، (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {99}) (الأنعام)، (الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ {80}) (يس)، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) (الحج:63)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (فصلت:39).

أما عن عالم الحيوان الجميل فنقرأ في القرآن عن جمال الألوان المثيرة والتركيب المدهش والوظائف البديعة والغرائز المحكمة والحركة التي تأخذ ألف إيقاع وإيقاع:

(وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ {6}‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {8}) (النحل)، (إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ {69}) (البقرة).

هكذا يثبت الله تعالى علاقة الإنسان بكل شيء جميل في هذه الطبيعة؛ حيث إنه هو مخلوق واسع الأفق ومتعدد الجوانب ومنها مادي أو حسي ومعنوي، أما الجانب المادي يرى منافع الأشياء مثل اللحم في الطعام، وأما الجانب المعنوي يرى الجمال في هذه الأشياء مثل ما يرى في الأنعام حين تريحون وحين تسرحون، حقاً يدفع القرآن الإنسان إلى أن يتعلم كيف يستخدم الطبيعة بوجهة نظر جديدة، وهو اندماجه في الطبيعة حباً وشوقاً وإعجاباً بجماليتها، والإنسان دائماً يتلذّذ بلقاء هذا الكون الجميل والحبيب مع مختلف أحواله ومناظره.

هذا اللقاء يلذ نفسه ويمتع حسه ويطلق روحه نشيطة طليقة نسبح لله كما يلذّ القرآن ذاته قلب المؤمن، مجرد سماعه أو سماع لحنه يلذ نفوس السامعين ويمتّع أذهان المفكرين وهو في ذاته كتاب جميل وممتع، لا ينتهي منه قارئه أو مستمعه حتى يحب أن يعود إليه من جديد، ومن ثم كان هذا اللقاء دائماً متجدداً في داخل النفس، وفي صفحة الكون، لا ينفد، ولا يسأم ولا يزول.

انظر إلى ما قاله القرآن عن جمال هذه الطبيعة الأرضية في تركيب لغوي جميل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) (فاطر)، ويؤكد القرآن بتوجيهاته الجمالية حقائق تراكيب الكون العجيبة وجمال تنظيم هذه الطبيعة والعالم الأرضي المزين سطحه وإلى نفس الإنسان نفسه.

وهو يغري المسلم أن يقوم بالتزيين والتجميل في كل أعماله وتصرفاته وممارساته في الحياة حتى الدعوة إلى سبيل الله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف:31)، هذا الأمر الإلهي لم يكن محصوراً بالصلاة فقط، إنما يطلب من الإنسان التزين والتجمل في جميع نواحي الحياة، وهذا الأمر يليق لجميع توجيه قرآني أو نبوي، معنى هذا أن حياة المسلم كلها في مساربها كافة وعبر منعطفاتها جميعاً يتوجب أن تكون أنيقة، جميلة، نظيفة، مزينة في العبادة وفي العمل وفي المعاملات وفي العلاقات وفي الآداب وفي الأخلاق وفي كل تفاصيل السلوك اليومي الروحية والمادية سواء أهي في ملابسنا وفي أزقتنا وفي شوارعنا وفي دوائرنا وفي مؤسساتنا وحتى في تسريح شعرنا وتمشيط لحيتنا وفي نثر العطور الفواحة على رؤوسنا ووجوهنا، هذا هو تفسير الآية الكريمة (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، وفهمنا من هذه الآية أن المراد بكل مسجد هو كل مكان يجتمع الناس فيه؛ أي خذوا زينتكم في كل ممارسة، وأدرك المسلمون كيف يزينون حياتهم ويجملونها، فكان ذلك المهرجان المعماري الرائع من الجوامع والمساجد ومن المدن الجميلة، ومن التفنن في المأكل والملابس، كما أدرك المسلمون أن الله يلفت أنظارهم إلى ألوان الزهور وإلى الزخارف السماوية المشرقة بالمصابيح في الليالي.

أليس هذا لتقليده في أعمال الإنسان الفنية؟ وإلا ما معنى أن الله سبحانه يسألنا: “قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟”، فالخالق المصور يعلمنا التصوير الجمالي؛ أي الفنان العظيم يقدم إلينا نماذج الزينة بالصيغ والمواصفات الدقيقة المحسوبة، هو يحب الجمال في كل شيء، وقد وهب لنا ربّنا المصور الجميل الأوجه الأنيقة، فهل يحب تشويهها باسم رضاه وتقواه؟!

انظر إلى الإنسان نفسه كيف صوره الله تعالى وكيف أحسن هذا التصوير جسداً وعقلاً وروحاً، أليس هذا في “أحسن تقويم”، وفي أجمل تشكيل وتركيب؟ هل اكتشفنا حتى اليوم تركيباً آخر أحسن لائقاً له؟ وهكذا زود الله الإنسان فؤاداً يستشعر به ما هو الجمال، ويتمتع به جمالية الأشياء حوله من الأشجار ومن الأزهار ومن الطيور ومن الحيوان والخيل والبغال والحمير وأنواع مختلفة ومزينة بتلوينها، ويميز الجميل منها والقبيح، حيث يوجد لدى كل فرد ذوق خاص لهذا التمييز، كما يقوي الله هذا المفهوم الجمالي بالإشارات العديدة إلى كيف زيّن الله تعالى هذا الكون وما فيه من المخلوقات المختلفة والمناظر العجيبة في الطبيعة الأرضية أو السماوية.

انظر إلى المرأة أحد إبداعات خلق الله وآياته الجميلة في العالم، وقد شرع لكم أن تحترموا زينتها هذه بكل الاحترام والإكرام والمودة والرحمة، وأن تحفظوها بدون أي نوع من الإذلال أو هتك حرمتها؛ ذلك أنه يتوجب ألا ترخص وتبتذل لكل رائح وغادٍ، كما ترخص اليوم زينة المرأة وعرضها في حضارتنا الحديثة خاصة في الحضارة الأوروبية، كأنها هي أرخص المواد في السوق، ويتوجب أن تظل مصونة عزيزة كيلا تذبل بمسّ الأيدي المتعاقبة وتنسحق من وطء الأقدام، وكيلا يكون جمالها مجرد أداة حسية لإشباع رغبات الجسد وإطفاء شهواته، مع أن جمالها يمدح ويمجد في القرآن؛ (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ {70}) (الرحمن).

هكذا انظر إلى وصف الجمال في القرآن وهو يتعلق بالإنسان؛ (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً {21}) (الإنسان).

وأخيراً انظر إلى هذه الآية القرآنية الجميلة العجيبة يصف نفسه فيها ربنا الله جل جلاله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ) (النور:35).

 

Exit mobile version