القيادة.. تُصنع أم تُولد؟

في هذه الأيام هناك اهتمام ملحوظ بعلوم الإدارة والقيادة وتنمية الشّخصيّة، وبصرف النّظر عن الموقف من بعض مفردات هذه العلوم وما يقدّم في برامج تدريبها ودوراتها، يبرز تساؤل تتباين فيه آراء المتخصصين وتختلف اختلافاً واسعاً؛ وهو: هل القيادة فطريّة يجبل عليها الإنسان، وموهبة يودعها الله تعالى فيمن يشاء من عباده، فلا قدرة على تطويرها وتعظيمها، أم أنّها مكتسبة تزداد وتنقص، يمكن أن تتعلم وتتأثّر بالجهد والتّدريب والممارسة؟، حسب موقع “الشبكة الدعوية”.

وهذا اختلاف يؤدّي إلى تباينات مهمّة في إستراتيجيّات التّربية والتّكوين والتّطوير والتّأهيل والرّيادة، ولعلّ جموع المتخصصين يميلون إلى أنّ القيادة فطريّة ومكتسبة، مع اختلافهم في نسبة الفطريّ والمكتسب.

ومن خلال تتبعي لأقوال النّبي صلى الله عليه وسلّم لفتت انتباهي بعض الإشارات النّبويّة والتي تنحاز إلى أنّ القيادة فطريّة ومكتسبة مع أنّ الشّق الفطريّ فيها أعظم، وقبل أن أسوق ما لفت انتباهي أرغب أن يكون مفهوم القيادة واضحاً في ذهن القارئ الكريم، فالقيادة يمكن أن تعرّف بأنّها القدرة على توجيه النّاس وتحريكهم لإنجاز الأهداف، وتختلف عن الإدارة، إذ الإدارة مجموعة المهارات والطّرق التي تؤدّي إلى تحسين الأداء والإنجاز من خلال التّخطيط والتّنظيم والمتابعة والسّيطرة.

أمّا الأحاديث التي تشير إلى الجانب الفطري من القيادة فهي:

1- صح عند البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: من أكرم الناس؟ قال: “أتقاهم لله”، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: “فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله”، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: “فعن معادن العرب تسألونني؟ الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا”، وله شواهد كثيرة أيضاً، وهناك زيادة منكرة: “الناس معادن كالفضة والذهب”، فهذا الحديث يدل على أنّ العرب معادن وطبائع متفاوتة بالأصل والفطرة والبيئة.

2- وقد صح في سنن أبي داود أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشج رضي الله عنه: “إنك فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة”، فقال الأشج: يا رسول الله، أنا تخلقت بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: “بل الله جبلك عليهما”، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله”، والحديث له شواهد كثيرة عند مسلم والتّرمذي وغيرهما، والحديث صريح بأنّ الحلم والأناة فطر عليهما الأشج ولم يتخلّق بهما ويتدرّب عليهما ويجتهد في طلبهما.

وفي مقابل ذلك يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى إمكانية اكتساب الصفات القيادة بالممارسة والتعلم والجهد، فقد صحح الألباني في جامعه قول النّبي صلى الله عليه وسلم: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه”، وقد حسّن الإمام ابن حجر العسقلاني قول النّبي صلى الله عليه وسلّم: “يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين”، وهما حديثان صريحان بأنّ التّعلم والتّفقّه والتّحري والاتّقاء أدوات كسب وزيادة.

وكلما قويت الصفات القيادية في الإنسان كان وصوله إلى القوة القيادية أسرع، وكان تأثير التدريب والتعلم والممارسة عليه أفضل، أما إذا ضمرت الفطرة القيادية في الشخص فإنه يحتاج إلى تدريب أشق ووقت أطول لكي يستطيع أن يكتسب الشخصية القيادية، ومع ذلك فيبقى التعلم والتدرب هو العامل الأهم في صناعة القائد، كما يقول “أديسون”: “العبقرية 99% عرق وجهد”.

وأما التفاوت بين مستويات القادة فيكون بحسب التكامل بين الجانبين الفطري والمكتسب، ويقرر الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى – في “الإحياء” هذه القاعدة فيقول: “الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهد أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم، وهم قرناء الخير، وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع، الشر والخير جميعاً فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذلاً بالطبع واتفق له قرناء سوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات، ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته”.

ويقول الأستاذ الراشد في وصف القيادة المسلمة: “وتجتمع القوة القيادية من موارد ثلاثة: صفات الطبيعية وفطرية عالية يهبها الله لمن يشاء من ذكاء وشجاعة وكرم، ثم الممارسة الخلقية والعبادية ثم التثقف الكثيف في علوم الإسلام والتاريخ والسياسة”.

وخلاصة القول: إنّ القيادة ترتبط بأمورٍ عديدة، من أهمها:

1- العوامل الفطريّة، كالنّواحي الجسميّة والقدرات العقليّة والطبائع النّفسيّة والقلبيّة كقوّة الإرادة والتّطلّع للمثل العليا، وهذه تولد مع الإنسان، وتتدخّل فيها عوامل وراثيّة.

2- بيئة الإنسان؛ فالإنسان نتاج بيئته، وأكثر تأثيرها في المراحل العمريّة المبكّرة من عمر الإنسان؛ لذا أبناء الأمراء والقادة مؤهّلون أن تبرز فيهم صفات القيادة، وتشمل البيئة الظّرف العام المحيط بالإنسان كالوضع السّياسي والعلمي والاجتماعي والدّيني والاقتصادي.. إلخ.

3- عوامل مكتسبة: كجوانب التّدين والتّعلّم والثّقافة وفنون التّعامل مع الآخرين وكسب قلوبهم والسّلوك والأخلاق وفنون التّأثير على النّاس وطرق اكتشاف الصّفات ومنهجيّة التّعامل مع المشكلات وغيرهم كثير ممّا يمكن أن يساعد ويدعم قدرة الإنسان توجيه غيره نحو الهدف.

Exit mobile version