شواهد تاريخية على أثر التسامح في تحول المسيحيين للإسلام

كثر الحديث في العقود الأخيرة عن «الإرهاب الإسلامي» في كل وسائل الإعلام الغربية والاستعمارية التي جعلت من تشويه صورة الإسلام هدفاً مركزياً لها، وذلك لكونه كياناً متكاملاً لا يذوب في المعطيات التي يريدون فرضها على أمم الأرض باسم العولمة والليبرالية وشتى المسميات الأخرى؛ وبالتالي حرْف الإسلام عن مقاصده الإلهية الرئيسة.

والكل يعلم بأنه في كل المعتقدات والأديان يوجد متطرفون ومعتدلون يمثلون نسباً متفاوتة، وأقل هذه النسب هي داخل الدين الإسلامي المرسوم أطره في القرآن الكريم وسُنة رسوله “صلى الله عليه وسلم” وسير أصحابه.

لقد تركت هذه الهجمة آثاراً سلبية على سمعة المسلمين لا يمكن إنكارها في عموم العالم، وخصوصاً الغربي، وصارت هذه التهمة ثقباً أسود يحاولون من خلاله امتصاص وبعثرة فضائل الإسلام وسموه، حتى إن أحد الدعاة في تركيا ممن يعملون في نشر الإسلام بين القادمين للسياحة من أوروبا، قال: إن أول سؤال يُطرح علينا في هذا المجال من قبل السياح عن صلة الإرهاب بالإسلام!

والآيات القرآنية التي تحث على التسامح والعفو كثيرة جداً، يقول تعالى: (وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20})(آل عمران)، (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {46})(العنكبوت)، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ {99})(يونس)، (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {256})(البقرة)، (وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {13}‏)(المائدة)، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ {199})(الأعراف)، والعفو كما هو معلوم هو أعلى درجات التسامح، وتبلغ درجة التسامح حد الأمر فيقول تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {89})(الزخرف).

والسيرة النبوية الشريفة مملوءة بشواهد العفو والتسامح، ولعل سنامها يكمن في فتح مكة عندما عفا النبي [ على من اعتدوا عليه وسبوه وحاربوه وأخرجوه من داره، وهذا الموقف يحتاج إلى بحث مستقل خارج السياق هنا.

والرسول صلى الله عليه وسلم وبعد أن أرسى دعائم التوحيد، فإنه كان مكلفاً بنشر رسالته إلى العالم أجمع، حيث يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107})(الأنبياء)، وقوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً {1})(الفرقان)، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ {87} وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ {88}) (ص)؛ أي أن إشاعة فكر التسامح والعفو من المهمات الرئيسة للرسالة الإسلامية، مع المساواة التي تكسبها صفة العالمية.

ولذلك يعمل الفكر الغربي وخصوصاً الاستعماري على ربط حركة الفتوحات الإسلامية بما يسمونه بـ«الإرهاب» هذه الأيام، وهو ربط متهافت لا أساس له من الناحية الموضوعية التاريخية.

كذبة السيف

وحتى نكون موضوعيين، فإن كثيراً من مفكري الغرب أدركوا هذه الجوانب في الإسلام، وكتبوا مدافعين عنها بشدة، ولكنها في غمرة التهريج الإعلامي تكاد لا تجد لهذه الأصوات آذاناً صاغية، ومن أهم من كتبوا بموضوعية السير «ت. و. أرنولد» في كتابه الذائع الصيت «الدعوة إلى الإسلام»، وهو من الكتب النادرة في هذا المجال؛ لاعتماده على مئات المصادر وبمختلف اللغات.

ولذلك فهو يؤكد أن هذه الفتوح الهائلة، لم تكن ثمرة حرب دينية قامت في سبيل نشر الإسلام، وإنما تلتها حركة ارتداد واسعة عن الديانة المسيحية، حتى ظن دائماً أن هذا الارتداد كان الغرض الذي يهدف إليه العرب الفاتحون!

ويقول السيد «أرنولد»: إن العلاقات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب لم تحصل بفعل القوة والتسلط، وإنما نتيجة طبيعية لما رآه أهل هذه البلدان ورجال الدين من تسامح الفاتحين.

لقد أخذ بعض المؤرخين المسيحيين ينظرون إلى السيف على أنه أداة للدعوة الإسلامية، انطلاقاً من أحقادهم وبغضهم للديانة الجديدة، ولفقدانهم مكانتهم المتميزة التي اكتسبوها بفضل مراكزهم الدينية والكهنوتية.

ويردف السير «أرنولد» بأن كثيراً من القبائل العربية التي دانت بالمسيحية قروناً قد نبذتها في ذلك الوقت للتدين بالإسلام، وكان من أهم هذه القبائل بنو غسان «الغساسنة»، الذين بسطوا نفوذهم على معظم بلاد الشام، وقد قيل عنهم: «أرباب في الجاهلية نجوم في الإسلام».

ولقد انتبه الخليفة الراشد عمر “صلى الله عليه وسلم” إلى مسألة دخول هذه القبائل في الإسلام، فأمدهم بمن يلقنونهم مبادئ الإسلام، فعين في كل بلدٍ معلمين مهنتهم أن يعلموا الناس القرآن ويفقهوهم في الدين، وأمر عماله بحثِّ هؤلاء المسلمين الجدد صغاراً وكباراً على مواظبة حضور صلاة الجماعة، لا سيما في أيام الجمع وفي شهر رمضان، ولم ينصب على رؤوسهم «رجال دين»، أو «رجال كهنوت»، كما في الديانات الأخرى، ففي الإسلام لا يوجد سلم كهنوتي وإنما رجال علم وأهل ذكر.

وعندما عسكر أبو عبيدة “صلى الله عليه وسلم” في وادي الأردن، كتبوا له مسيحيو الشام بعد ما رأوا تسامح المسلمين وعطفهم: «يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا»، فقد كان أهل الولايات المفتوحة على المذهبين اليعقوبي والنسطوري؛ مما عرضهم للاضطهادات المذهبية من قبل البيزنطيين الذين ليسوا على هذين المذهبين!

فرية الجزية

أما ما يشاع عن عمر “صلى الله عليه وسلم” بأنه أجبر النصارى على بعض الممارسات كجز مقاديم الرؤوس وشد الزنانير، فإن السير «أرنولد» يشكك في صحتها؛ لأنه لم يعثر على نص بهذا الشأن يعود تاريخه لتلك الحقبة، وأن أول من ذكر هذه الوثيقة ابن حزم المتوفى حوالي منتصف القرن الخامس الهجري، بعد ظهور تيارات تعصبية حاولت إيجاد مبرر تاريخي لتصرفاتها.

وأما «الجزية»، وهي كلمة مرادفة لـ«الضريبة» من أي نوع يدفعها غير المسلمين لبيت المال نظير إعفائهم من الخدمة العسكرية الإجبارية المفروضة على المسلمين، وكانت قيمتها زهيدة، حيث كان على الموسر أن يدفع في السنة ثمانية وأربعين درهماً، وعلى الوسط أربعة وعشرين، بينما يؤخذ من المحتاج كالحراث والعامل بيده اثنا عشر درهماً.

وقد رد أبو عبيدة “صلى الله عليه وسلم” أموال الجزية لأهل الشام عندما ظن أنه لا يقدر على حمايتهم من الروم، فكتب إليهم: «إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعهم عنكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم».

وهنالك الكثير مما يؤكد عدم ممارسة عمر “صلى الله عليه وسلم” لأي نوع من المعاملات المتميزة ضد أهل الكتاب، ومن جاء بعده من المسلمين تجاه من بقي على دينه من المسيحيين، وعلى هذا النهج سار الخلفاء الراشدون وسائر عموم المسلمين.

ففي سنة 92هـ/ 711م، تم بناء كنيسة يعقوبية بإذن من الخليفة الوليد بن عبدالملك، وبنى خالد القسري الذي كان والياً على العراقين العجمي والعربي (105 – 120هـ) كنيسة لأمه النصرانية تتعبد فيها!

وفي حكم المهدي العباسي (158 – 196هـ) بنيت ببغداد كنيسة للمسيحيين الذين كانوا قد أسروا خلال الحروب مع البيزنطيين، وفي عهد هارون الرشيد (170 – 193هـ) تلقى «سرجيوس»، مطران البصرة النسطوري، إذناً ببناء كنيسة في البصرة، كما بنيت في بابل كنيسة ضمت قبري النبيين دانيال وحزقيال.

لقد وجد المسيحيون في الشرق بعد الفتوحات الإسلامية ما لم يروه لقرون عديدة سواء تحت حكم الرومان أو الفرس، ففي القرن الخامس الميلادي مثلاً أغرى «برصوما» أسقف الناصرة ملك الفرس وتقرب منه وجعله يذبح 7800 من رجال الكنيسة الأرثوذكسية، كما قام الملك «خسرو» الفارسي بمذبحة أخرى للأرثوذكس بتحريض من اليعاقبة!

إن خرافة السيف والإرهاب تسقط أمام هذه الحقائق التاريخية، فكان أحد أسباب تحول المسيحيين إلى الإسلام التدهور الذي أصاب الكنيسة الشرقية من الناحيتين الخلقية والروحية، فراحوا يلتمسون جواً روحياً صافياً حيث وجدوه في صفاء التوحيد.

ويرى «كيتاني»، وهو أحد كبار المستشرقين في القرن التاسع عشر، أن انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس الشرقية إنما كان نتيجة شعور باستيائهم من السفسطة المذهبية التي جلبتها الروح الهيلينية الإغريقية إلى اللاهوت المسيحي.

ويعقب بأننا – أي الغربيين – لم نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي، ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها «فرديناند» و«إيزابيلا» دين الإسلام من الأندلس.

لقد كانت هذه هي القواعد العريضة لمعاملة أهل الذمة من قبل المسلمين، وإن كانت بعض الحالات التاريخية خروجاً على هذه القاعدة فهي من النوادر، عندما أبدى المتوكل العباسي (847 – 861م) نوعاً من القسوة مع جميع مخالفيه حتى من المسلمين!

وحتى في أيام الحروب الصليبية فمن المعلوم أن الصليبيين عندما دخلوا القدس (493هـ/ 1099م)، دنسوا المسجد الأقصى وبنوا حائطاً أمام المحراب، وحولوا قسماً آخر منه إلى كنيسة ورفعوا الصليب عليها، والقسم الآخر أطلقوا عليه «معبد سليمان»، وجعلوا مربطاً للخيل بجانبه، لطائفة منهم بفرسان الهيكل.

إسلام «البوجوميل»

ومن التاريخ الحديث سنضرب مثلاً واحداً للتذكير؛ ألا وهو إسلام أهل البوسنة، فهؤلاء أصلاً صربيون ينتمون لطائفة دينية تسمى «البوجوميل» (Bogomiles)، وقد عدتهم الكنيسة الكاثوليكية من الخوارج، وأمرت بشن حروب صليبية ضدهم، لأن كثيراً من معتقداتهم قريبة من المسلمين كتحريم شرب الخمور، ورفضهم عبادة مريم العذراء والتعميد وإنكارهم للصليب رمزاً دينياً، واعتقدوا أن المسيح نفسه لم يصلب، ولذلك عندما دخل المسلمون الأتراك صربيا دخل هؤلاء في الإسلام، ومن ثم صاروا مادة للمذابح والقتل والتهجير إلى يومنا هذا، ولم يشفع لهم انتماؤهم القومي بشيء، وهذا ما لم يحدث مطلقاً في التاريخ الإسلامي الطويل، ولا تزال المذابح التي تعرضوا لها، والاغتصاب الجماعي لنسائهم في تسعينيات القرن الماضي وصمة عار في مجمل التاريخ الغربي الذي وقف موقف المتفرج منها، ولم يصفها بالإرهاب المنظم أو غير ذلك من المسميات المتداولة.

Exit mobile version