الانتهازية السياسية.. ودعاة السلفية

سعد سعيد الديوه جي

رغم تحفظنا الشديد على استخدام المصطلحات الدينية وأسماء الفرق، ورغم عدم إقرارنا بتاتاً بمصطلح السلفية التي تصف بعض الفرق نفسها به لأسباب عديدة، أهمها تشرذم هذه الفرق إلى أحزاب وحركات تحت نفس المصطلح، وكلها تؤكد بأنها تمثل السلف الصالح، وهو مصطلح فضفاض خصوصاً من الناحية السياسية.

أما مصطلح الانتهازية، فإن الأستاذ أحمد تهامي عبدالحي فإنه يعرفها بأنها سرعة التغير في المواقف والسياسات من لحظة لأخرى، والتقلب مع الأحداث بصورة بهلوانية تستدعي مثل هذه التناقضات والتقلبات السريعة، وهي غير مقبولة اجتماعياً ولا أخلاقياً في كل المجتمعات.

وفي هذا المجال، فهي تصب في مجرى البرجماتية التي تتبنى مواقف وسياسات تحقق مصلحة الفاعل السياسي، وسنرى ملامح التقاء هذين المصطلحين وأسباب ذلك في وقتنا المعاصر.

ولعله من المحير والمخيف أن نجد هنالك أحزاباً وجماعات إسلامية تدعي السلفية والاقتداء بالمهاجرين والأنصار، ثم تقف مواقف متصلبة ومعادية لحركات إسلامية أخرى كحركة الإخوان المسلمين، وهي حركة لها اجتهاداتها الخاصة، ومن غير الجائز مخاصمتها بصورة سافرة حرصاً على وحدة المسلمين، وخصوصاً في الأحداث الأخيرة التي عصفت بمصر، ثم تقف مع جماعات معادية للنسيج الإسلامي عموماً، ولا ندري ما المبررات السلفية الشرعية لذلك؟! ولا تزال المشكلة مستمرة حتى الآن؛ حيث تحولت فيه مصر إلى بلد يعيش على “الشحاذة”، علماً أن الجميع يعلم علم اليقين أن الحركة وصلت للحكم بطرق مشروعة وديمقراطية.

هذه التساؤلات تدفعنا لتساؤلات أخرى معقدة عما يسمى بالحركة السلفية وارتباطاتها السياسية هنا وهناك، خصوصاً بالأنظمة التي تعتاش على الدعاية لهذا المبدأ، وتمتلك الأموال الطائلة لنشره هنا وهناك، وتبرير مواقفها السياسية، وهذا أمر مؤسف جداً أن تكون لمثل هذه الحركات مثل هذه الصلات.

هذا السؤال يطرحه المستقلون الإسلاميون؛ لأن العقل يقول: إنه مهما كانت الاختلافات بين الفرق الإسلامية، فإنه من غير المبرر أن ينحاز أحدهما للتحالف مع أعداء الدين ضد الطرف الآخر مهما كانت المبررات، فما بالك بالذين يدعون بأنهم “الفرقة الناجية”؟ أليس حرياً بهم أن يدعوا مخالفيهم بالتي هي أحسن ليأخذوا بيدهم إلى الطريق الذي يعتقدون بصحته، بدل النزول لمستنقع المهاترات والمكائد التي تخلق إحباطاً شديداً لدى عامة المسلمين الذين ينخدعون بمظاهر اللباس واللحى وغير ذلك؟ لأن هذه الظواهر تخفي وراءها أموراً أبعد من ذلك بكثير، فالحركة السلفية الحديثة التي ظهرت على يد محمد بن عبدالوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي لم تطفُ على السطح إلا بالتأييد السياسي والطموح العسكري لمحمد بن آل سعود.

وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها على الإطلاق، ويجب أن تؤخذ في كل الحسابات رغم كل الادعاءات بتكريس التوحيد ومحاربة الشرك، فالمسلم قد يخطئ ولكنه لا يكون مشركاً أبداً.

إن هذا النقد ليس من أجل النقد أو للوقوف مع هذه الحركة ضد تلك، فهذه مسألة يجب أن تتجاوزها العقليات الإسلامية بكافة اتجاهاتها، حيث يجب أن تصب الأمور بمصلحة المسلمين عموماً، وتقليل الهوة بين الفرقاء بالحوار وبالتي أحسن وبالفهم الصحيح للدين.

والفكر السلفي أو كما يدعي من يحلو لهم التمسك بهذه المصطلحات وبأنهم الفرقة الناجية، قد انقسموا سياسياً إلى جماعات شتى، وكمثال على ذلك فحزب النور المصري الذي كان حاضراً ومؤيداً لمشهد الانقلاب الأخير في مصر، وبالرغم أنه خلال حكم الرئيس المصري “محمد مرسي” كان قد تمسك بـ(المادة 219) من الدستور واعتبرها مكسباً كبيراً للهوية الإسلامية في دستور 2012؛ لأنهم كانوا في اللجنة التأسيسية، فأي سلفية بين الموقفين ونحن في غنى عن ذكر الجماعات والفرق التي خرجت من تحت إبط ما يسمى بالسلفية والاختلافات العميقة بينها؟ وكل ذلك يدل على أن هذه الحركة شأنها شأن كل الأحزاب والفرق حيث تولد وتفترق الطوائف شتى، وأن مسألة تمثيلها للإسلام دون غيرها مسألة عاطفية اعتباطية ذات جذور واهية، لقد نشأ الاختلاف بعد أن شعر السلفيون بأن تحريم الحزبية والديمقراطية ورفض العمل الجماعي في الجمعيات والمؤسسات والسمع والطاعة للحكام وعدم جواز الخروج عليهم بأي صيغة من الصيغ هي مسائل عفا عليها الزمن، ويجب أن تدرس من منظور حديث لا يمكن عكس النصوص الدينية المقدسة للقرآن الكريم والسُّنة النبوية عليها، وعليه فإن الأسس الدينية لما يسمى بالسلفية التقليدية صارت أثراً بعد عين.

إن وقوع السلفيين في الفخ الفكري والعقائدي يأتي أصلاً من استحضار جزء محدد من الماضي واستنساخه كمسألة تاريخية محسومة، وهو أمر خيالي ينم عن جهل مطبق بمسار التاريخ والإقرار بالاختلاف الدنيوي الذي تعالجه الشورى، كما جاءت في القرآن وكمسألة حتمية نتيجة تعدد الآراء في المجتمعات البشرية قاطبة؛ (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {119}) (هود).

إن على السلفيين أن يقرؤوا التاريخ الإسلامي بتمعن وتجرد حتى لا يقعوا في مطبات فكرية ثم يكونوا مطية للحكام الظلمة وهم يتصورون أنهم وحدهم على الطريق الصحيح! فإن ذلك لا يعني إلا خلط الأوراق وبداية الطريق نحو الانتهازية.

وعليهم ألا يتعصبوا لآراء بعض أئمة المسلمين كالإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ)، فهم بشر يخطئون ويصيبون، والكثير من تصوراتهم جاءت في فترات تاريخية معينة، ثم تجاوز التاريخ تلك الحقب لتخرج لنا معطيات وحقائق لم يكونوا يعرفونها، ووضعت التاريخ الإسلامي في مسارات مغايرة لما تصوره.

فابن تيمية تصور سقوط بغداد عاصمة الخلافة 656هـ نتيجة وجود الفرق الإسلامية وخصوصاً الصوفية، علماً أنه لم يفرق بين تصوف الزهد وتصوف الحلول والاتحاد الذي يعد أمراً مرفوضاً من الناحية القرآنية، وهو جزء من الحركة الباطنية، بينما الأول فكر إسلامي أصيل له قواعده وشيوخه.

فالمسلمون قبل سقوط بغداد أحرزوا انتصارات باهرة على الصليبيين وحرر صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس 587هـ، وكان قبلها قد قضى على الباطنية 583هـ، وكان للزهاد المتصوفة اليد العليا في حشد المسلمين وحثهم على الجهاد، في نفس الوقت الذي شن فيه صلاح الدين حرباً شعواء على دعاة صوفية الحلول والاتحاد ولم يتردد في مطاردتهم وتشريدهم، وبعد وفاة ابن تيمية حقق المسلمون (العثمانيون) ما بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم من فتح القسطنطينية عام 1453م على يد محمد الفاتح، وكان لشيوخ المتصوفة اليد الطولى في تأجيج المشاعر الدينية، وهي إحدى البشارات العظمى في التاريخ الإسلامي.

هذا هو التاريخ وفي كل الأمم والعصور بين صعود وهبوط، ولا يشكل المسلمون استثناء للأمر، ويحب أن نقر بذلك ونعمل على تحسين أوضاعنا ضمن دائرة الاختلاف المشروع، والذي لا يضمن نجاحه إلا باتباع الشورى أو ما يسمى بالديمقراطية بصورة أو بأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات المكانية والزمانية ضمن دائرة الحس القرآني، وأن البيعة إذا ما قامت بها الأكثرية فهي لا تعني في المصطلحات الحديثة إلا الديمقراطية فلا تخدعنا المسميات.

إن على جميع الفرق الإسلامية أن تتخلى عن العصبية، وأن تلجأ للحوار والعقل والمنطق حتى لا تدفعنا العصبية إلى تبني مواقف سيئة ليس أسوأها إلا الانتهازية.

 

 

Exit mobile version