المهتمون

 المهتمون بالمعلومات والأشياء دائماً ما يقعون تحت طائلة المنطقية والأدلة

العناد والأنانية دوامة خطيرة على الحياة الأسرية وفي الحياة العامة

دخلا عليَّ المكتب.. قلت مازحة: لقد تأخرتما عن موعدكما، فسوف أخصمه من وقتكما.

قال: كنا في اجتماع بالكلية؛ لتنظيم وتنسيق رحلة للزملاء.

قلت: وما التأخير في ذلك؟

قالت: كنا مختلفين على مكان الرحلة، وبين شد وجذب وإقناع وحوار؛ لم نتفق على مكان، وتأخرنا عن الموعد.

قال: كل له رأيه يا دكتورة، حتى أنا وخطيبتي، لكن شبه توافَقنا في النهاية أنا وهي، ولكن باقي الزملاء بين وبين.

قلت: طبيعي أن نختلف مع بعض، وأن الاختلاف وليس الخلاف ظاهرة صحية وطبيعية خلقها الله عز وجل للتكامل.قال: ولكن، لماذا ما يحدث غير هذا من خلافات وصراعات ومشاجرات تصل إلى درجات خطيرة في العمل والبيوت وداخل الأسر، حتى في الحياة العامة، لا نجني من وراء الاختلاف غير الشقاق؟

قلت: لأن علينا أن نعي أن الاتفاق يكون في العموميات، أما الاختلاف يكون في التفاصيل والفرعيات؛ مثلاً أنتم تريدون عمل رحلة في الجامعة للطلبة، عليكم بالعموميات؛ كبداية التوقيت والهدف من الرحلة ومن المستهدف، فأكيد رحلات الصيف غير الشتاء، والرحلات التعليمية غير الترفيهية، وهل تصحبون مرافقين أم لا؟ وأي الأعمار؟ وهكذا.. عموميات نتفق عليها أولاً، ثم ننتقل إلى مرحلة التفاصيل التي يراها كل إنسان من وجهة نظره مختلفة، وأن نضع اعتبارات التنازل من الطرفين أمام أعيننا؛ حتى يتم التوافق، وهذا هو مربط الفرس في تقبُّل الاختلاف بداية من الآخر على أنه طبيعة بشرية وليس سلوك فرض الرأي والتعنت والتشدد؛ مما يمتص شحنات الغضب من محاورك؛ فيحدث التنازل من الطرفين، وهنا علينا أن نعلم كيف ينظر كل منا للآخر ولنوعية الاهتمام الذي يشغله ويحرك تفكيره في بداية الأمر؛ مما لا يقود الحوار أو يجرف بالاتفاق إلى شقاق وعداوة.

قالت: هل ممكن أن تكون اهتمامات الشخص سبباً في هدم بيوت؟

قلت: نعم، ولكن ليس الاهتمامات بالمعنى العادي، إنما هو مدخل اهتمامي عند اتخاذ أي قرار أو سلوك من الشخص يجعل المدخل الاهتمامي هو البوصلة التي توجه خياراته وموقفه من الآخرين، بعد أن تنعقد عقدة فقدان التواصل الجيد.

اهتمامات الأشخاص

قال: اعتدنا عليكِ – دكتورة – تصنيف وتفصيل كل شيء حتى نصل إلى كامل أجزائه.

قلت: نعم، إن الناس مختلفون في المدخل الاهتمامي، فمنا من يهتم بالشخصيات أو الأماكن أو الأشياء والمعلومات أو الأنشطة التي تؤدي دوراً كبيراً في اختياراتكم مع بعض؛ وهذا هو السبب في عدم توافقكم في اختيار مكان الرحلة مثلاً.

قالت: فعلاً كان اختلافهم اليوم مبنياً على اعتبارات شخصية لكل منهم.

قلت: عند اختيار مثل هذه الرحلات ستجد البعض يسألك: من سيذهب معنا؟ ومن سيرافقنا؟ وأي الأشخاص سيصاحبوننا؟

وبعض آخر يهتم بالمكان وطبيعته، وليس لديه مانع أبداً أن يذهب لمكان ذهب إليه سابقاً؛ لأن له ذكريات وولاء له، مما يتعارض مع نوع أو صنف آخر من زملائكم.

وآخرون يهتمون بالتفاصيل والمعلومات عن هذا المكان، وماذا سيضيف لنا؟ وآخرون يسألون: ماذا سنفعل هناك؟

ويشتتون توجهك نحو الولاء لمكان قديم أو التغيير الذي يرغب به الآخرون، أو من يكون معنا؟ وماذا سنفعل هناك؟ وهكذا.

قال: فعلاً، هذا ما حدث، وبدأت الأمور تتشعب، لكن.. ألا يمكن أن نوفق الاهتمامات بيننا كأصدقاء، وأن تتوافق زوجتي مع ما أهتم به؟

قاطعته هي بعصبية: ولماذا لا تتوافق أنت مع اهتماماتي؟

ضحكت قائلة: سوف يدبُّ الخلاف من الآن والحياة لم تبدأ بعد، فمن يضحي؟ ومن يبدأ؟ ومن يتغير؟ وهذه الدوامة من العناد والأنانية دوامة خطيرة على الحياة الأسرية بين الزوجين ومع الأبناء وفي الحياة العامة.

قال: هي ليست أنانية أو عناداً، فقط أحياناً قد تأخذ الإنسان سلامة النية فيما يطلب ويقول، ولكن تصل الرسالة للآخرين غير ذلك.

قلت: ابني العزيز، ما تقول بعضه صواب بالتأكيد، لكن لتعلم أن ما نتفوَّه به نابع من القناعات الراسخة عند الإنسان؛ فتظهر طواعية وعفوية في المواقف، فقد تلقى بسببها صدوداً في بعض الأحيان عند الطرف الآخر.

قالت: هذا ما يستفز المرأة أحياناً في اعتبارها جزءاً هامشياً أو نقطة على هامش حياة الرجل.

قلت: لا تؤخذ الدنيا هكذا أبنائي، فإن اختلاف الاهتمامات من البرامج العقلية التي يفكر بها الإنسان وتحكمه ضوابطها في توجهاته نحو الاختيار، ولا يعني ذلك أنه لا يعبأ ما دونها، إنما مدخل لفهم ما يدور حوله، وكيف يتصرف، فعندما نعلم ذلك لا تأخذنا العزة بالإثم والغضب من الآخرين، وأن الجهل بها قد يتسبب في وعكات أسرية وبين الأبناء وبعضهم، وقد تكون سبب تكوّن ائتلافات في البيت ضد بعضهم بعضاً تبعاً لتصنيف المدخل الاهتمامي.

أشكال التوافق

قال: أخشى أن أكرر سؤالي فيتكرر الغضب؛ فعليَّ أن أعكس السؤال: هل ممكن أن يتوافق طرف مع اهتمامات طرف آخر؟

قلت: نعم، وهذا هو المهم عمله بإصرار.

قال: هل التوافق بين أي طرفين يتم بناء على نوع السلطة أم نوع الشخصية أم نوع الاهتمام؟

قلت: التوافق بين الطرفين المتساويين كالزوجين يكون بناء على تفاهم وتنازل متبادل في مواقف متبادلة تقدر حسب الأهمية أو حسب حالة كل طرف، أما إذا كان بين أطراف مختلفة في العمل والجامعة وغيرها يحكمها ضوابط العمل ومدى علاقتك وعمقها والرابط بينكما.

قالت: وكيف يكون بين الأبناء؟

قلت: في أشكال عدة منها قد تبدو في رغبة أحد الأبناء في تنسيق غرفة مثلاً، أو شراء أي شيء؛ تجدين المهتم بالأشخاص يريد أن يصطحب أحداً؛ لأنه لا يريد أن يكون منفرداً، حتى في المذاكرة يفضل الصحبة، خاصة مع من يرتاح لهم، وفي كل مكان هو هكذا؛ مما يسبب مشكلات أو قلقاً في البيت أحياناً.

حتى لو المرأة من هذا النوع إذا دخلت المطبخ تريد من يدخل معها لأجل الأنس بأحد أكثر منه مساعدة، وكذلك الزوج قد يريد أن يصطحب أحداً في كثير من خروجاته التي قد لا يتسنى للزوجة في معظم الأوقات مرافقته أو أحد الأولاد؛ فيتوجه تلقائياً للآخرين بطلب صحبتهم له، حتى العمل ممكن أن يحاول الارتباط بأحد الأصدقاء للصحبة في السيارة أو المواصلات أو غيرها؛ ذلك مما يشعر الزوجة بالغيرة، وعمل مشكلات، والعكس لدى الزوجة في حبها الدائم للذهاب لأهلها وإشراكهم في حياتها بشكل كبير مما يزعج الزوج.

الاهتمامات تحكم الاختيار

أيضاً المهتمون بالمعلومات والأشياء دائماً ما يقعون تحت طائلة المنطقية والأدلة ومجال الاستفادة من الشيء، فلو أنه سيختار مكان رحلة فسيركز على الاستفادة منه أكثر من أي شيء آخر، فهو يتعامل بالعقل وأدلته المعرفية أكثر من العواطف في خياراته.

على عكس المهتمين بالأنشطة؛ يهمهم ماذا سيمارسون هناك في الرحلة أكثر ممن سيذهب أو المكان قديم أو مثير ومفيد أم عادي.

وهكذا، لكل منا مدخل اهتمامي يحكم خياراته، فلا نحجر على بعض في ذلك، ونعذر بعضنا ليعذرنا الآخرون.

قال: الآن وضعنا أولى خطوات التفاهم الصحيح لردود أفعالنا المختلفة حتى لا نغضب من بعضنا.

قالت: علينا تعليمه لأبنائنا كذلك في المستقبل أيضاً إن شاء الله تعالى.

لذا عليكما الآن أن تحددا من أي الأصناف كليكما، وكيف ستتوافقان لتقسيم الأدوار في حياتكما المقبلة تبعاً للاهتمامات؛ لأن ذلك سيساعد ويسهل إنجاز مهمة كل واحد داخل الأسرة.

Exit mobile version