البَنَّا وإسلام المستشرقين

 لم يَمضِ غير عام واحد على سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924م حتى صدر كتاب لشيخ أزهري يتناول أمور الحُكم في الإسلام، وهو كتاب «الإسلام.. وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق(1)، وكان هذا أول كتاب يكتبه مسلم – بل وشيخ أزهري، يتولى منصب القضاء الشرعي – يزعم فيه أن الإسلام دين لا دولة، وأن الخلافة الإسلامية كانت دائماً وأبداً وعلى مرِّ تاريخها سلطة قهر، وأنها لا علاقة لها بالإسلام(2)، وأن الإسلام ليس إلا رسالة روحية، وأن محمداً ما كان إلا صاحب سلطان روحي على القلوب، ولم يُقِم دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يبلور جماعة سياسية(3).تسبب هذا الكتاب في صدمة كبيرة لمشاعر المسلمين، وأحدث ضجيجاً كبيراً، ونشبت معارك فكرية ضارية حول مضمونه المتأثر بكتابات الغرب عن الإسلام وتاريخه، وكان الإمام البنَّا واحداً ممن تصدوا للكتاب بتفنيد ما ورد فيه والرد عليه.

لقد استمد المؤلف أفكاره من أقوال المستشرقين من أمثال «توماس آرنولد»(4)، وهي أفكار عمل الاستعمار الغربي على تشجيعها ونشرها بين المسلمين حتى يعتقدوا أن الإسلام دين تعبدي لا علاقة له بالحكم والقوة والسياسة والجهاد، ولهذا أطلق الإمام البنَّا على هذا النوع من الإسلام القائم على فصل الدين عن الدولة اسم «الإسلام الاستعماري الخانع الذليل»(5)، وفَسَّر هذه التسمية في تأصيله لهذه الأفكار الغريبة على الإسلام والمسلمين في قوله: «إن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام، أو حينما أعياهم أمر وثباته في نفوس أتباعه، ورسوخه في قلوب المؤمنين به، واستعداد كل مسلم لفدائه بالنفس والمال، لم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته، ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواحٍ قوية عملية، وإن تركت للمسلمين بعد ذلك قشوراً من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغني من جوع، فأفهموا المسلمين أن الإسلام شيء والاجتماع شيء آخر، وأن الإسلام شيء والقانون شيء غيره، وأن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شيء والثقافة العامَّة سواه، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيداً عن السياسة»(6).

أدلة البطلان

فنَّد الإمام البنَّا هذه الأفكار، فأكد في البداية شمولية الإسلام، فقال: «إن الإسلام شيء غير هذا المعنى الذي أراد خصومه والأعداء من أبنائه أن يحصروه فيه ويقيدوه به، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوه، وخلق ومادة، وثقافة وقانون، وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعنى بكل شؤون أمته، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم(7)»، وهذا المعنى هو نفسه الذي وضعه الإمام البنَّا في الأصل الأول من الأصول العشرين التي يجب أن يفهم المسلم إسلامه في ضوئها(8).

ثم استشهد الإمام على بطلان أقوال علي عبدالرازق بأدلة من القرآن والسُنَّة النبوية المطهرة وسيرة السلف الصالح تدل على اهتمام الإسلام بالشأن السياسي، وأن أمور الحكم ورعاية شؤون البلاد والعباد من أخص خصائص الإسلام الذي «وضع الأصول الكلية، والقواعد العامَّة، والمقاصد الجامعة، وفرض على الناس تحقيقها، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يطبقونها بحسب ظروفهم وعصورهم، ويجتهدون في ذلك ما وسعتهم المصلحة وواتاهم الاجتهاد»(9).

وقسَّم الإمام البنَّا السياسة إلى داخلية وخارجية، وذكر أن الإسلام قد عني بالسياسة الداخلية التي تقوم على «تنظيم أمر الحكومة وبيان مهماتها وتفصيل حقوقها وواجباتها ومراقبة الحكام والإشراف عليهم ليطاعوا إذا أحسنوا وينقدوا إذا أساؤوا»(10)، كما أنه لا يتعارض مع الحكم الدستوري الشوري الذي تنادي به المجتمعات المتمدنة، فقد قال تعالى: {والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الشورى:38).

السياسة الخارجية

أمَّا السياسة الخارجية؛ فقد عرَّفها الإمام بأنها «تعني استقلال الأمة وحريتها، وإشعارها كرامتها وعزتها، والسير بها إلى الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شؤونها، مع تحديد الصلة بينها وبين سواها تحديداً يفصل حقوقها جميعاً، ويوجه الدول كلها إلى السلام العالمي العام وهو ما يسمونه القانون الدولي»(11)، ثم استشهد بأدلة من القرآن الكريم على اعتناء الإسلام بكل هذه التفاصيل، فقد قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية؛ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران:110)، وأرشدها إلى طريق صيانتها وإلى ضرر تدخل الغير في شؤونها؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } (آل عمران:118)، وأشار إلى مضار الاستعمار وأثره السيئ على الشعوب؛ {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ “34”} (النمل)، وأمرها بالمحافظة على سيادتها والاستعداد لحماية حقوقها بالقوة؛ {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } (الأنفال:60)، ووضع لها قواعد التعامل مع الأقليات والأجانب في السلم والحرب؛ { وإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ “58”} (الأنفال)، {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} (التوبة)، {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } (الأنفال:61).

ويسأل الإمام البنَّا أولئك الذين يريدون فصل الدين عن الدولة بعد أن بَيَّن لهم من القرآن والسُّنة النبوية اهتمام الإسلام بالسياسة: «هل كان رسول الله “صلى الله عليه وسلم” حين يأمر بهذا التدخل، يخالف تعاليم الإسلام فيخلط السياسة بالدين، أم أن هذه هي طبيعة الإسلام الذي بعث الله به نبيه “صلى الله عليه وسلم”؟»(12).

الهوامش

(1) الشيخ علي عبدالرازق، (1888 – 1966م)، شيخ أزهري وقاضٍ شرعي، ولد في محافظة المنيا لأسرة ثرية، حفظ عبدالرازق القرآن في قريته، وحصل على درجة العالمية من الأزهر، ثم ذهب إلى جامعة أكسفورد البريطانية، عمل عبدالرازق في المحاماة وتولى وزارة الأوقاف، كما انتخب في مجلسي النواب والشيوخ.

(2) محمد عمارة: معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنَّا، القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، عام 2006م، ص31، وانظر: علي عبدالرازق: الإسلام وأصول الحكم، الطبعة الثالثة، القاهرة، مطبعة مصر، 1925م، ص24، 29، 35، 83.

(3) المصدر السابق، ص64 – 80.

(4) الغريب أن المؤلف قد أحال في مزاعمه عن انعدام الأدلة على وجوب إقامة الخلافة الإسلامية إلى كتاب «الخلافة» The Caliphate للمستشرق السير «توماس آرنولد» Thomas W. Arnold، وقال: إن «فيه بيان ممتع مقنع»، وكأن قول المستشرق هو المرجع للمسلمين في قضية من أخص قضاياهم، انظر: علي عبدالرازق: الإسلام وأصول الحكم، ص15.

(5) حسن البنَّا: مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنَّا، القاهرة، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، 2002م، ص299.

(6) المصدر السابق، ص296.

(7) نفس المصدر، ص297.

(8) نفس المصدر، ص372.

(9) نفس المصدر، ص298.

(10) نفس المصدر والصفحة.

(11) نفس المصدر، ص300.

(12) نفس المصدر، ص299.

Exit mobile version