هدم الدين باسم الدين.. من “القرامطة” إلى “داعش”

يقول المستشرق “بيرنارد لويس” عن الحركة الإسماعيلية الباطنية التي نشأت في أواسط القرن الثاني الهجري: إنها من أشد الحركات سرية وتنظيماً في التاريخ الإسلامي خصوصاً، والإنساني عموماً، وإن الماسونية قد أخذت تنظيماتها السرية منها، وقد تشعبت من هذه الحركة ل

 

د.سنان أحمد

يقول المستشرق “بيرنارد لويس” عن الحركة الإسماعيلية الباطنية التي نشأت في أواسط القرن الثاني الهجري: إنها من أشد الحركات سرية وتنظيماً في التاريخ الإسلامي خصوصاً، والإنساني عموماً، وإن الماسونية قد أخذت تنظيماتها السرية منها، وقد تشعبت من هذه الحركة لاحقاً الدولة الفاطمية (297هـ)، والحركة القرمطية، وحركة الحشاشين في القرن الخامس الهجري التي دوخت العالم الإسلامي والشرق بالاغتيالات باسم الدين.

ولقد أثبتت الدراسات التاريخية الجادة لاحقاً بأن الحركة الإسماعيلية الباطنية ذات جذور مجوسية فارسية، والتي نذرت نفسها لهدم الإسلام بشتى السبل الفكرية والعسكرية! وباسم الإسلام، وبخطط بالغة الدقة والخبث والذكاء.

والحركة القرمطية هي الجناح العسكري للإسماعيلية الباطنية، وقد اتخذت شعارات دينية براقة؛ لتمرير أقذر مخطط؛ بهدف إرجاع مجد الديانات الفارسية الغابرة كالمانوية والزرادشتية والمزدكية، وكان هدم ركن الحج الذي يجمع المسلمين في مكان واحد وزمان واحد من أهم الأهداف التي سعوا لتدميرها؛ فكانت قوافل الحج هدفاً مركزياً لهم، واستباحة الكعبة وتجريدها من قدسيتها أهم الأهداف التي سعوا إليها.

وكان الخداع والتدليس أهم سمات هذه الحركة، فرأس هذه الحركة هو حمدان بن الأشعث الملقب بـ”قرمط”، وكان داعي الدعاة ورأس الحركة، ويتظاهر بأنه أكار وينسج الخوص ويأكل من كسب يده ويكثر من الصلاة، واستطاع هو وأتباعه الذين يتلقون تعليماتهم من “طالقان” في فارس من جذب الطبقات الفقيرة والفلاحين؛ بحجة إقامة دولة العدل الإلهي، تحت راية سوداء كتب عليها (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5}) (القصص)، وتحت راية إرجاع الحق لأهله والدعوة للأئمة من آل البيت من نسل إسماعيل بن جعفر الصادق (ت 138ه)، عاث القرامطة فساداً في الأرض؛ فنهبوا وقتلوا الحجيج، وأخذوا الضرائب والخمس من أتباعهم؛ بحجة أن الجميع في هذه الدولة لا حاجة لهم بالأموال الموجودة، كون العالم بأكمله سيكون لهم، وأن كل إمام فاطمي يحتكمون إليه هو نموذج للمهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً ورخاءً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وحتى الأطفال ممن هم دون الثانية عشرة استغلوهم بأبشع الأعمال وسموهم بـ”العرفاء”.

لقد كان الحلاج (ت 309ه) أشهر دعاة القرامطة تحت غطاء التصوف الحلولي، والذي أعدم بسبب ثبوت التهمة عليه، والغريب أنهم كانوا يستعيدون الألقاب الإسلامية ويطبقونها عليهم، فكانوا يطلقون على أنفسهم “المؤمنون المنصورون بالله”، رغم تأكيد كل المصادر على إباحيتهم ومشاعتهم للنساء، وكانت لهم ليلة كل سنة تسمى بليلة “المحبة والألفة”، يختلط بها الرجال بالنساء، وبعد أن يطفئوا الأنوار ويشفي كل منهم غليله بما يعثر عليه، وهو ما اتفقت عليه كل المصادر التاريخية التي تحدثت عنهم، ومازالت بعض رواسب هذه الحركة تمارس هذه الطقوس كالنصيرية في سورية!

في عام (317ه) وفي يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) دخلوا الكعبة، وأعملوا السيف بأهلها، وقتلوا كل من كان بالحرم الشريف، وسرقوا نفائس الكعبة، وكسروا الحجر الأسود ونقلوه إلى عاصمتهم هجر، وردموا بئر زمزم بالجثث، واستهزؤوا بالمسلمين، وقالوا لهم: لو كان هذا البيت آمناً لحماه ربه، واتهموا المسلمين بعبادة الحجر الأسود، وأنهم مشركون، وأنهم جاؤوا ليخلصوهم من عبادة الأوثان! وخرج قائدهم أبو طاهر الحفازي وهو ينشد:

لو كان هذا البيت لله ربنا        لصب النار من فوقنا صبا

ويستهزأ بالأحياء ويقول: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟

ويقول المستشرق الهولندي “دي خويه” عن غزو الكعبة هذه بأنها أكبر نكبة في تاريخ المسلمين، والتي ظلوا يتحدثون عليها بالتياع.

لقد انطلت هذه الخدع على السذج والمغفلين، وشاركهم اللصوص والقتلة، وكان من ورائهم عقول شريرة تدير الأمور بذكاء وخبث رهيبين، لذلك عندما دخل محمد بن محمد الحسن اليماني في أواسط القرن الخامس الهجري في الدعوة الإسماعيلية الباطنية، كتب في كتابه الشهير “الدعوة لآل محمد”، بعد أن اكتشف حقيقتهم بأن هؤلاء القوم لا يعملون إلا لهدم الدين باسم الدين، وأن غايتهم البعيدة إرجاع المجد المجوسي الماضي، حيث أراد الجنابي لاحقاً أن ينصِّب شاباً فارسياً اسمه الأصهاني على أنه “المهدي المنتظر”، ولكن محاولته باءت بالفشل، ومسألة ارتباط القرامطة بالجذر الفاطمي الإسماعيلي لا غبار عليه، فعندما أرجعوا الحجر الأسود بعد 22 عاماً من سرقته قالوا: “أخذناه بأمر ولا نرجعه إلا بأمر”.

في أيامنا هذه التي نعيشها بسوداوية مع الأسف، ظهر على حين غرة ما يسمى بـ”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) بممارسات لا داعي لبيانها من الإرهاب والجرائم، وتحت راية رسول الله زواً وبهتاناً.

والمتمعن الذكي للأحداث ومجرياتها؛ يدرك تمام الإدراك بأن اختيار الاسم يعطي انطباعاً لا لبس فيه؛ بأن ممارسات الدولة التي تتخذ الإسلام فكراً ومنهجاً كما ادعى القرامطة ذلك هو القتل والإرهاب والنسف والتخريب وقطع الرؤوس واستخدام الأطفال في القتل، وبالضبط كما فعل القرامطة، والإخراج الهوليودي لحفلات الجلد وقطع الرؤوس وحرق الناس في الأقفاص بشكل مقزز لا نظير له، فالزمن قد تغير وتبدلت السيناريوهات وطرق الإخراج تنوعت، هؤلاء الذين يدعون السلفية والسلفية الجهادية يقفون على نفس عتبة الشيعة الإسماعيلية الباطنية من ناحية هدم الدين باسم الدين، رغم دعوتهم بأنهم ضد الشيعة والتشيع.

وإذا كان التاريخ قد كشف عن المخطط الخفي الذي كان يدار من طالقان في فارس، ومن وقف وراء الإسماعيلية وكل الحركات الباطنية، فإنه سيكشف يوماً عن المخططات القذرة التي زرعت هذا التنظيم في ديار المسلمين، ويلهث خلفهم المغفلون والأغبياء، ومن يعتقدون أن شرع الله يقام تحت راية يلوحون بها في كل مكان بمناسبة ودون مناسبة لخداع الناس.

هدموا المساجد باسم الدين، وكل شيء فعلوه باسم الإسلام، ليخرجوا علينا أخيراً بعودة “المهدي” الذي سيعبر البحر المتوسط لفتح روما، ناسين أن المهدي المزعوم سيظهر في الشام حسب اعتقادهم، ولا يذكرون لنا كيف سيعبرون مع مهديهم البحر المتوسط إلى روما، وما هو عدد الطائرات والسفن والغواصات التي يحتاجونها لذلك، ليبدو النزول في نورماندي عام 1944م عند تحرير فرنسا والزحف إلى برلين لعبة أطفال أمام مسرحيتهم المزعومة، ولتكون أفكارهم هذه موضع سخرية واستهزاء، وأن السيناريو المعد لهم بدأ يأخذ أبعاداً سخيفة ومهترئة.

لتتوقف هذه المسرحية العبثية المقرفة، وليراجع مخرجوها أنفسهم، فالإسلام لن يهدم ولن يضعف أمام القوى الخفية التي تحرك “داعش” وغيرها، فالله تعالى قد حفظه بحفظه لكتابه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9}) (الحجر)، وكفى بالله شاهداً ونصيراً، فالإسلام محفوظ في القرآن وفي صدور المسلمين بتسامحه وسموه.

إن ظهور “داعش”، وما يسمى بـ”أنصار الله” في اليمن، وتماهي “حزب الله” في لبنان، وبروز عقدة “كورش” الفارسية في طهران تحت ستار ثورة إسلامية على غرار ثورة أسلافهم القرامطة، قد تزامنت كلها مع بوادر “الربيع العربي” الذي خرج بثوب إسلامي معتدل لا خلاف عليه، رفضته الأنظمة العربية الفاسدة بالتنسيق مع راعية الديمقراطية الأولى في العالم، فجاءت هذه الأيام السوداء.

لقد تبدلت السيناريوهات، ولكنها كلها لا تصب إلا في مصلحة بقاء “إسرائيل”، والإسلام لم ولن يتغير، واللعبة ستبدأ بالانكشاف.

 

Exit mobile version