الباحثون في الحياة

قلت: سؤال رائع.. فعلاً قد يمارس الإنسان حياته متوجهاً نحو رغبات كثيرة باحثاً عن إشباعها؛ فليس هذا المقصود، إنما هي حاجة يبحث عنها الإنسان كأولوية توجه سلوكه تجاهها في الغالب وتسيطر على محور قراراته.

 

صباح الخير دكتورة.

صباح الخير أبنائي، كيف حالكم؟

نحن بخير طالما أننا نبحث عن السعادة في الدارين الدنيا والآخرة بكل الطرق والوسائل العلمية المتاحة والمشروعة.

فأنتم إذاً من عالم الباحثين الذي سنتكلم عنه اليوم!

وقبل أن تسألوا عنه؛ هو عالم يدرس أنماط الشخصية من حيث انشغال الإنسان وبحثه الدؤوب عن شيء ما يمثل بالنسبة له أولوية.

قال: هل نوعية بحث الإنسان تحدد شخصيته؟

قلت: إن بحث الإنسان عن شيء باستمرار وبلهفة يعبر عن جزء من شخصيته، وتفصح عن اهتماماته وأولوياته ومدخل شخصية ونمط تفكيره.

قالت: وهل شخصية الإنسان تُختزل فقط في بحثه عن شيء، فقد يبحث عن أشياء كثيرة؟

قلت: سؤال رائع.. فعلاً قد يمارس الإنسان حياته متوجهاً نحو رغبات كثيرة باحثاً عن إشباعها؛ فليس هذا المقصود، إنما هي حاجة يبحث عنها الإنسان كأولوية توجه سلوكه تجاهها في الغالب وتسيطر على محور قراراته.

أربعة أنواع

قال: من هم أولئك الباحثون، وأنواعهم؟

قلت: هكذا أنت عجول في البحث عن المعلومة والمعرفة، فلنبدأ بك.

قال ضاحكاً: ولتبدئي بي!

قلت: الباحثون أربعة.. باحث عن المتعة، وباحث عن الذات، وباحث عن المعرفة، وباحث عن الأمن والاستقرار.

قالت: الباحث عن المعرفة ألا تشمل الباحث عن الذات؟

قلت: لا، وسنعرف ذلك بعد قليل.

الباحث عن المعرفة هو إنسان دائماً يدور حول علامة الاستفهام «ماذا»؟ فالمعلومة لها قيمة خاصة عنده، وقصص الآخرين من حوله وأحوالهم تستحوذ على تفكيره، وتجد عنده أخبار معظم من يعرفهم.

قال: هل يتساوى في ذلك الرجل والمرأة؟

قلت: نعم، إن الأنماط بشكل عام يتساوى فيها الرجل والمرأة، وإن كانت بعض التفاصيل الصغيرة تترك بصمتها وأثرها كونها كأنثى لها تشريحها الخاص، وكذلك الذكر قال تعالى: {وليس الذكر كالأنثى} (آل عمران:36).

قالت: وكيف يفيدنا هذا في حياتنا العامة والخاصة؟

قلت: هذا هو مربط الفرس في الموضوع، لكن نؤجله قليلاً حتى ننتهي من شرح الأربعة جميعهم، وأثر تجاهل هذا في التعامل.. فالباحث عن المتعة إنسان ملول يحب التجديد، حساس؛ فكل ما يُحدث له متعة وسعادة يسعى إليه، ويستميت عليه، حتى ينفذه؛ لذا فهو متقلب المزاج؛ لأنه باحث عن متع الحياة كلها لو تمكن من هذه ينتقل لتلك، تجد حديثه عن الأكلات والمطاعم وأنواع الجوالات وماركات السيارات وغيرها.

طريق السعادة

قال: كل الناس يطلبون السعادة ويسعون لها سعياً حثيثاً ولا أحد يكرهها.

قلت: نعم، صحيح ولكن طريق سعادتك يختلف عن طريق الآخرين؛ أي ما يُسعدك قد لا يُسعد الآخرين، والعكس طبعاً صحيح؛ فمثلاً قد تجد السعادة في تطوير نفسك والاهتمام بمهاراتها وثقافاتها، وآخر في الخروج والتنزه مع الآخرين وهكذا.

قالت: ألهذا السبب يختلف الزوجان ويختصمان؟

قلت: نعم، ولكن ليس هذا فقط، بل من ضمن أكبر الأسباب المفجرة لبعض المشكلات في الحياة عموماً، فتجد الباحث عن المعرفة مثلاً أكثر ما يستهويه المعلومة، ودائم التفكير في المستقبل والعمل له، أما الباحث عن الذات فهو يهتم دائماً بنفسه ويسأل: من أنا؟ وماذا سأفعل؟ ويقارن نفسه بغيرها، ويسعى إلى رفعتها سواء من الناحية الإيمانية أو الفكرية والعلمية أو التطورية عموماً، فهو دائم التفكير في الأنا من الناحية التطويرية وليس من الناحية التمتعية كالباحث عن المتعة، ويدعمها كأولوية على عكس غيره كالذي قد يتفوق في مجال ما لأنه يجلب له متعة وسعادة، وهم في النهاية كبعض في كل شيء، ولكن ترتيب المحركات النفسية لكل واحد يختلف عن الآخر.

المسالم وضعيف الشخصية

قالت: ماذا عن الباحث عن الأمن والاستقرار؟

قلت: الباحث عن الأمن والاستقرار شخص هادئ مسالم، أي شيء ممكن أن يعكر صفو حياته يتجنبه، فيتنازل عن حقه مقابل الحصول على جو يخلو من المشاحنات والخصام، وألا يتعرض للتهديد النفسي والعاطفي بالخصام أو الشجار، حتى لو كلفه ذلك تقديم بعض التنازلات، كالزوجة أو الزوج الذي يعتذر سريعاً وقد يترك حقاً من حقوقه مقابل ألا يغضب الطرف الآخر، حتى لا يكون المناخ والبيئة التي يعيش فيها مشحونة؛ مما تجعله غير مستقر نفسياً.

قال: هل هذا ما يجعل الناس يطلقون عليه ضعيف الشخصية؟

قلت: ليس بالضرورة أن يكون كل ضعاف الشخصية من الباحثين عن الأمن والاستقرار، ولكن قد يكون الباحثون ليس ضعاف الشخصية، بل ممن يُؤْثرون الاستقرار على حساب أنفسهم أحياناً كثيرة، فيعتقد الناس أنهم ضعاف الشخصية.

الرغبة والتفكير

قلت: سأرجع إلى سؤالكما: ما علاقة ذلك؟ أو ما الاستفادة منه؟ ولكي أجيبكم دعوني أذكر هذا المثال:

لو أن هناك مبلغاً من المال جاء للأسرة فجأة كمنحة أو مكافأة أو غيره؛ فماذا تتوقع أن يفعل به الأربعة الباحثون؟

قالا في صوت واحد: قد يتفسح، أو يشتري مستلزمات..

قلت: لا أريد ذلك، أريد تصرف كل واحد على حدة.

قال: أعتقد أنه قد يشترك الجميع في شراء مستلزمات ناقصة لبيته.

قالت: لا، ومن الممكن أن يدخره لشيء مستقبلي طالما أنه منظم حياته على دخله، وهذا زيادة.

قلت: هكذا هو تفكير كل واحد بناء على رغباته التي تحرِّك تفكيره، وسأقول لكم توقعات كل واحد كيف تتجه وإلى أي ناحية تصوب فكرهم.

الباحث عن المتعة قد يفكر في جوال حديث أو في وضعه لاستبدال سيارته أو الأكل في مطعم، وهكذا على حسب المبلغ تتوجه اختياراته نحو كل ما يسبب له سعادة.

الباحث عن الذات قد يأخذ به «كورساً» تطويرياً، أو ينتسب لدراسة معينة، أو لشراء كتب وغيرها.

الباحث عن المعرفة قد يدخره أو يشتري به مستلزمات أو يسدد أقساطاً وهكذا.

الباحث عن الأمن الاستقرار قد يمنحه كقرض، وقد يرجع – أو لا يرجع – لأحد الأصدقاء أو الأقارب وغيرها.

قال: ألهذا الحد الاختلاف حاد بينهم؟

قالت: الآن عرفت لماذا جيراننا الشجار دائماً على الماديات مع بعضهم بعضاً.

قال: لكن ليست هذه كل تصرفاتهم بالتأكيد؟

قلت: نعم، ولكن قس عليها طريقة تفكيرهم، وما يوجه سلوكهم إلى هذا التصرف دون غيره، ورغبتهم في إشباع شيء هو أولوية لديهم لا شعورياً، وقد يتهم البعض بالأنانية أحياناً أو الإسراف أو الضعف وغيرها.

الأولاد والباحثون

قالت: أين الأولاد في قضية البحث هذه؟ لماذا كل الأنماط بحثت لنفسها فقط؟

قلت ضاحكة: تريدين الاطمئنان على المستقبل، أليس كذلك؟

ضحكت قائلة: لا، لكن أسمع شكاوى كثيرة عن أنانية الزوج.

قاطعها قائلاً: لا، لا بالعكس، الكثير من الزوجات أكثر أنانية، وتريد من الرجل العطاء والصبر، ويجد الإهمال من قِبَلها بعد ذلك.

ضحكت: هكذا ستختلفان قبل البداية؟

قالت: لا أبداً، هو سؤال فقط.

قلت: سأريحك بمثال آخر مع الأولاد؛ الباحث عن المعرفة يسعى لهم في تأمين مستقبلهم مادياً، والباحث عن الذات فتعليمهم شيء محل اهتمام كبير جداً لديه، والباحث عن المتعة يبذل في سبيل سعادتهم في الفسحة والتنزه وغيره الكثير، والباحث عن الأمن والاستقرار يحرص على مشاعرهم وألا يؤذيهم أحد، ولا يكسر خاطرهم مهما كانت طلباتهم.. والآن، هل اطمأننت على مستقبل الأولاد؟

 

أسباب الطلاق

ضحكا، ثم قال: وهل مثل هذه الأمور تكون سبباً قوياً للخلاف الذي يؤدي إلى الطلاق مثلاً؟

قلت: ليس بشكل مباشر، لكن تفتح الطريق أمام اختلاف عادي، ثم خلاف، ثم يتحول إلى شجار كبير مع وجود خزان ممتلئ من المشكلات المتكررة، هكذا يولِّد انفجاراً كبيراً، واتهامات متبادلة بعدم التفاهم بينهما قد تصل للطلاق.. حتى في مجال العمل، فكل واحد يأخذ قراراً تبعاً لمحركاته النفسية، ويتوجه به في أدائه إن لم تكن هناك لائحة تضبط الأمور في مجملها.

قال: نعم هكذا الحياة اختلافات ليكمل بعضنا بعضاً.

أكملت هي: طبيعي ألا نكون نسخاً كربونية من بعض.

قلت: هكذا الكلام، لكن وقت التطبيق شيء آخر، دعونا نرى ماذا ستفعلون.

وحتى ألقاكم عليكم أن تحددوا من أي نوع كل واحد منكما؛ حتى تعلما ما هو توجهه النفسي وتوجه الطرف الثاني؛ وبالتالي قد تعرف اختياراته مسبقاً قبل أن ينطق بها؛ فإما أن تتنازل مرة وأنت تعرف أنه لا يعاندك باختياره إنما هو محرك داخلي، ومرة أخرى يتنازل الطرف الآخر حتى تتجنبا كثيراً من الخلافات في المستقبل سواء العملي أو الأسري.>

Exit mobile version