المفهوم الزمني لمصطلحي السلفية والعصمة

إن شمولية التعاليم القرآنية وما جاء به الإسلام أمر لا يمكن نقاشه, والشمولية تعني ملاءمة الأحكام التي فيه لكل زمان ومكان، مع استنباط الأحكام الملائمة ضمن حدود الشرع، وما يحفظ مصلحة المجتمع والفرد, حيث إن الحياة ليست ساكنة، والمجتمعات تتغير حسب المكان

 

 

 

 

د. سعد سعيد الديوه جي

 

إن شمولية التعاليم القرآنية وما جاء به الإسلام أمر لا يمكن نقاشه, والشمولية تعني ملاءمة الأحكام التي فيه لكل زمان ومكان، مع استنباط الأحكام الملائمة ضمن حدود الشرع، وما يحفظ مصلحة المجتمع والفرد, حيث إن الحياة ليست ساكنة، والمجتمعات تتغير حسب المكان والزمان، وتبقى الفكرة الرئيسة في الإسلام الإقرار بالتوحيد والعمل تحت مظلته.

وأُسس الإسلام العقائدي لا تنطلق على أساس حقبة زمنية معينة فقط، وإن كانت فترة نزول القرآن وسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم تشكل مرتكزاً أساسياً للعقيدة الإسلامية, فالمؤمنون والناجون وكذلك الجاحدون ومن أنكر الرسالة لا يقتصرون على فترة مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما بعده, وهنالك عشرات الشواهد القرآنية على ذلك؛ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30}) (فصلت)، فالمؤمنون هنا أتباع الدين الصحيح في كل زمان ومكان، ولا يستندون إلى جنس أو لغة، وفي الناحية الأخرى يقول تعالى عن الفئة الضالة: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5}) (الأحقاف).

وأعجب العجاب أن ينطلق فكر من داخل هذه المؤسسة القرآنية العظيمة ليضع المسلمين في دائرة تقليد فترة زمنية خاصة ومعينة، وهي الفترة المحصورة بالذات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما يسمى بفترة الصحابة والتابعين, وفي مكان محصور جداً هو حيز الدعوة النبوية الشريفة المحصور بين مكة والمدينة, وأن كل الأمور تتعلق بهذا الخبر وأياً كان مكان المؤمن وكيف يعيش!

وقد كان من أشد المغالين في هذا الاتجاه الشيخ الألباني (ت 1997م) والذي رفع فيه فئة المؤمنين آنذاك إلى درجة العصمة, في حين أن مبدأ العصمة البشرية المطلقة مبدأ يناقض القرآن تماماً, وأن الرسل والأنبياء فقط معصومون عصمة دينية مطلقة, وليس للأنبياء والرسل أي تجليات إلهية؛ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الكهف:110)، وقوله: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ {9}) (الأحقاف)، فنحن مجبرون على اتباعهم بما يخص الأحكام الدينية والعقائد, وأما في تصرفاتهم البشرية فالأمر متروك للاتباع ضمن إطار الشرع، ولا علاقة للأمر بما يسمى بالسُّنة النبوية الشريفة التي تتعلق بأمور تعبدية اختيارية مارسها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون أن تكون أحكامها كترك الفرائض.

ومفهوم السلفية (الأصولية – الظاهرية), مبدأ مطاط انحصر في مجموعة من المسلمين تدعي أنها على الطريق الصحيح وغيرها ليس كذلك، رغم أن كل الدلائل تشير إلى تحركهم بدوافع سياسية، وأن الألباني وهو أهم منظريهم يقول: “إنه من السياسة ترك السياسة”, بينما شخص الشيخ حسن البنا رحمه الله بعقلانية عندما قال: “أنا سلفي وأنا صوفي”.

والشيخ الألباني في تنظيراته يقع في مطبات تاريخية وعقائدية كثيرة, ربما لضعف معلوماته في هذا المجال، أو أنه يتعمد ذلك في سبيل تبرير آرائه؛ وهي تقديم الحديث على القرآن، وهو أمر معروف لديه, ويقدم شتى التبريرات لدعم آرائه رغم تناقضها الظاهري الذي لا يخفى على أحد.

فالسلف الصالح محصور عنده تارة بالحديث التالي: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، ثم يقول: “والسلفيون ينتمون إلى هؤلاء السلف وأما غيرهم فلا”.

وفي مكان آخر يقول الشيخ الألباني: “إن السلف الصالح هم المهاجرون والأنصار ومن تبعهم بإحسان؛ أي بإتقان في اتباعهم بأن يعرف منهجهم فلا يتبعهم عن جهل”، ولا يفسر لنا مطلقاً ما منهاج الاتباع في عالم متغير شديد التعقيد, وهو يقصد بدون أدنى شك بالتقليد الحرفي، استناداً إلى روايات وأحاديث عمل جاهداً لتأكيد صلاحيتها وصحتها.

وفي خضم هذه الفوضى الفكرية يربط السلفية بالعصمة، وهو ربط غريب عجيب فيقول: “فالسلفية تنتمي إلى هذا السلف”! وهذه ليست نسبة إلى شخص ولا إلى عشرات الأشخاص بل هذه النسبة هي نسبة إلى العصمة؛ ذلك لأن السلف الصالح يستحيل أن يجمعوا على ضلالة، وبخلاف ذلك الخلف, الخلف لم يأتِ في الشرع ثناء عليهم, بل جاء الذم في جماهيرهم، وذلك استناداً للحديث: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله, أو حتى تقوم الساعة”, ثم يعقب بأن هذا الحديث خص المدح في آخر الزمان بطائفة والطائفة هي الجماعة القليلة!

وهذا الكلام من العجب العجاب, فمن أين يدري بأن السلفية هي الانتماء الذي تخيله وأن لا سبيل للنجاة إلا بها وأيها أهم سيرة السلف أم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

وفي رأيه، فالفرقة الناجية هي التي تقلد المؤمنين تقليداً تاماً في فترة زمنية محددة، لها خصوصيتها الفكرية والديموجرافية، ونحن هنا لا ننكر أفضال الصحابة وأفعالهم الجليلة، ولكن تبقى أفضال الله عليهم أكبر بأن اختارهم وخصهم بصحبة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما مسألة استحالة إجماع السلف على ما سماه بالضلالة وهي مسألة محسومة لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي بينهم، ولكن ليس كل خلاف هو ضلالة.

 بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تغيرت الأمور، فهنالك اختلافات دنيوية عديدة حدثت بين الصحابة والتابعين ولا يمكن مطلقاً وضعها في إطار الضلالة، فسيدنا عثمان عاقب أبا ذر, والفتنة حدثت بين عليٍّ، ومعاوية، وهي ضمن الإطار القرآني؛ (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات:9)، وعلي رضي بالتحكيم حقناً للدماء، وكذلك فعل الحسن.

وقد يتساءل المرء عن الرابط بين كل هذه الأفكار وأفكار آخر الزمان؟ ومن أين جاء بهذه الفكرة المحبطة بأن الخلف “لم يأتِ ثناء عليهم”؟ فالمقصود بكل الآيات التي تخص المؤمنين والكافرين تفيد العموم، وهي مجردة عن ظروف الزمان والمكان، وإن ذكرا فذلك يعود لأسباب النزول وللتذكير، ولا تنفي صفة العموم؛ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ {30}) (فصلت)، وغيرها العشرات من الآيات التي لا تفيد غير العموم, فمحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ورسالته هي رسالة الأنبياء كلهم, فكيف يختص بالذم طائفة دون أخرى وضمن محل المقاييس الزمنية والمكانية، وإذا بقيت طائفة ظاهرة على الحق إلى يوم القيامة, فهل هذه الطائفة من الخلف أم من السلف؟

إن استحضار الماضي بحذافيره ومحاولة استنباطه استنباطاً مشوهاً لا يدل إلا على عقلية متحجرة، تخاف الحاضر، ويغيب عن بالها المستقبل، ولا تعيش إلا في أوهام مصطنعة.

لقد حفرت هذه الأفكار المشوشة عن نبوءات آخر الأيام والفرقة الناجية أخاديد عميقة في أفكار شبابنا، خصوصاً ذوي الثقافات الدينية السطحية, فتعلقوا بالسطحيات والشكليات كإطلاق اللحى وتقصير السراويل وكسر شواهد القبور فصارت أساسيات الدين، وتركوا ما هو أهم منها, فديننا أعمق وأشمل وأكثر سماحة وانفتاحاً من صبه في قوالب جامدة عقيمة تهمل تاريخاً عريقاً من الحضارة الإسلامية في مختلف النواحي، بناها رجال فكر عظام كأبي حنيفة، والشافعي، ومالك، والبخاري، ومسلم, وقادة عظام من الخلف لم يألوا جهداً في الحفاظ على هذه الحضارة، وزادوها تألقاً كنور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، ومحمد الفاتح، وغيرهم الكثير من العظماء وممن لا تحصيهم مجلدات.

لقد تعود الألباني وغيره ممن دعوا لهذه الدعوات المشبوهة استخدام التهديدات المبطنة لمخالفيهم بإرسالهم إلى جهنم إن لم يقروا بمنهجهم, فيستشهد بالآية القرآنية الكريمة: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115}) (النساء)، علماً أن الآية الكريمة وغيرها الكثير نزلت بحق أعداء الله من المشركين والكفار، وليس في حق المسلمين الذين يخالفون رأي الألباني وجماعته في أمور فرعية مفتعلة لأسباب سياسية لا تقدم ولا تؤخر، والله من وراء القصد.

* جميع الأقوال أخذت من موقع “شبكة سحاب السلفية” على الإنترنت

 

 

 

 

 

Exit mobile version