الجزية.. وعدالة التطبيق

جاء الإسلام لينتقل بها من إطار «التمييز – الظالم» إلى إطار «العدل»

لم تكن الجزية التي فرضتها الدولة الإسلامية على الذين دخلوا في دولتها ولم يدخلوا في دينها، اختراعاً إسلامياً، وإنما كانت ضريبة معروفة فيما سبق الإسلام من دول وقوانين.. فجاء الإسلام لينتقل بها من إطار «التمييز – الظالم» إلى إطار «العدل»، الذي هو فريضة إسلامية، والروح السارية في حضارة الإسلام.

فالخراج على الأرض: ضريبة تتساوى فيها الرعية، المسلمون منهم وغير المسلمين.

وضريبة الجندية، وحماية الدولة، والدفاع عن رعيتها وأمتها كان المسلمون هم القائمون الأساسيون بأدائها، لاعتبارات أمنية اقتضتها المراحل الأولى من الفتوحات وتكوين الدولة.. وحتى لا يجبر غير المسلمين على الانخراط في جيش يخوض معارك قد لا تقتنع بها ضمائرهم وثقافتهم التي لم تكن قد توحدت مع الثقافة الإسلامية في تلك المرحلة المبكرة من تكوين الدولة الإسلامية.. فكانت هذه الجزية بدلاً من الجندية، ولم تكن بدلاً من الإيمان بالإسلام.. ويشهد على ذلك أنها لم تفرض إلا على القادرين على أداء الجندية، المالكين لما يدفعونه ضريبة لهذه الجندية.. ولو كانت بدلاً من الإيمان بالإسلام توجبت على كل المخالفين في الدين.. ولم يكن أمرها كذلك، فهي لم تفرض على الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء ولا العجزة ولا المرضى من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعاً مخالفون للمسلمين في الدين.. كما أنها لم تفرض على الرهبان ورجال الدين، وهم من هم في مخالفة الدين! وكل الفقهاء – باستثناء فقهاء المالكية – يقولون: إنها «بدل عن النصرة والجهاد»(1).

تطبيقات إسلامية

ولقد شهدت على ذلك أيضاً التطبيقات الإسلامية لضريبة الجزية:

– لقد فرضت على القادرين – بدنياً ومالياً – من نصارى نجران، وفي نظير ذلك كان إعفاؤهم من الجندية، فنص عهد رسول الله “صلى الله عليه وسلم” لنصارى نجران على أنه «لا يُكلّف أحدٌ من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، وأن يكون المسلمون ذُبَّاباً عنهم، وجواراً من دونهم»(2).

– وفي البلاد التي آثر فيها غير المسلمين أداء ضريبة الجندية مع المسلمين، لم تفرض عليهم الجزية، بل كانوا متساوين مع المسلمين في القتال وفي نصيبهم من غنائم هذا القتال، حدث ذلك في «جرجان»، ونصت معاهدة القائد «سويد بن مقرون» مع أهلها عليه، إذ جاء فيها: «ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضاً من جزائه»(3)، وحدث ذلك مع أهل «أذربيجان» ونصت عليه معاهدة القائد «عقبة بن فرقد» عامل عمر بن الخطاب (40ق هـ – 23هـ/ 584 – 644م)، مع أهلها، إذ جاء فيها: «.. ومن حُشر (أي استدعي للقتال) منهم في سنة وُضع عنه جزاء (أي جزية) تلك السنة…»(4)، وحدث ذلك أيضاً مع أهل «أرمينية» ونصت عليه معاهدة القائد «سراقة بن عمرو» (30هـ/ 650م) عامل عمر بن الخطاب مع أهلها، إذ نصَّت المعاهدة «على أن يوضع (يسقط) الجزاء (الجزية) عمن أجاب إلى ذلك الحشر (الحشد للقتال)، والحشر عوض عن جزائهم (جزيتهم) ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء (الجزية)»(5).

– وحدث ذلك أيضاً مع «الجراجمة» – سكان الجرجومة – في شماليّ سورية، بالقرب من أنطاكية، عندما حاربوا وهم على نصرانيتهم، ومعهم حلفاؤهم وأتباعهم، في جيش المسلمين، تحت قيادة «حبيب بن مسلمة الفهري» (2ق هـ – 42هـ/ 620 – 662م)، وحدث ذلك أيضاً مع النصارى من أهل «حمص»، عندما حاربوا في صفوف جيش أبي عبيدة بن الجراح (40ق هـ – 18هـ/ 584 – 644م) في موقعة «اليرموك» ضد الروم البيزنطيين(6)، وحدث ذلك أيضاً مع بني تغلب – وهم نصارى – أسقطها عنهم عمر بن الخطاب «لأنهم عرب يأنفون من الجزية»(7).

بديلاً عن الجندية

ومن أمثلة ذلك ما جاء في مفاوضات «شهر براز» ملك «الباب» مع القائد المسلم عبدالرحمن بن ربيعة (32هـ/ 652م)، عند عقد الصلح بينهما سنة 32هـ، فلقد قال «شهر براز»: «أنا اليوم منكم، ويدي مع أيديكم، وصفوي معكم.. وجزيتنا إليكم: النصر لكم والقيام بما تحبون..»، ولقد أجيب إلى طلبه، بعد مشاورة القائد عبدالرحمن بن ربيعة مع سراقة بن عمرو (30هـ/ 645م).

ولقد استمر ذلك سُنة متبعة في علاقات الدولة الإسلامية بشعوب البلاد المفتوحة، حتى ليقول الطبري عن إسقاط الجزية عن الذين انخرطوا في الجندية غير المسلمين: «وصار ذلك سُنة فيمن كان يحارب العدو من المشركين»(8).

تلك هي حقيقة النظرة الإسلامية إلى القتال، إنه الاستثناء لا القاعدة، وهو الاستثناء المكروه، ولا يجوز اللجوء إليه إلا دفاعاً عن حرية الاعتقاد، وحرية الوطن، الذي بدون حريته يستحيل إقامة الاعتقاد الديني على النحو الذي أراده الله سبحانه وتعالى في شريعة الإسلام.

وإذا كان بعض المفترين لا يزال يردد أكذوبة انتشار الإسلام بحد السيف والقتل والقتال، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن كل المعارك التي دارت في الفتوحات الإسلامية إنما كانت ضد جيوش الغزو والاحتلال الرومانية والفارسية، ولم تدُر معركة واحدة بين جيوش الفتح التحريري الإسلامية وبين أهل البلاد المفتوحة، بل لقد قاتل أهل البلاد المفتوحة مع الجيوش الإسلامية – وهم على دياناتهم القديمة – ضد الروم والفرس، وشهد أساقفتهم الذين عاصروا هذه الفتوحات وشهدوها، على أن الفتوحات الإسلامية قد كانت إنقاذاً لهم ولدياناتهم من الإبادة التي مارسها ضدهم المستعمرون الرومان، فقال الأسقف «يوحنا النقيوسي»، وهو شاهد على الفتح الإسلامي لمصر: «إن الله الذي يصون الحق، لم يهمل العالم، وحكم على الظالمين، ولم يرحم تجرؤهم عليه، وردهم إلى يد الإسماعيليين (العرب المسلمين، أبناء إسماعيل عليه السلام)، ثم نهض المسلمون وحازوا كل مصر، وكان عمرو بن العاص (50ق هـ – 43هـ/ 574 – 664م) يقوى كل يوم في عمله، ويأخذ الضرائب التي حددها، ولم يأخذ شيئاً من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئاً ما سلباً أو نهباً، وحافظ على الكنائس طوال الأيام…»(9).

ويؤكد هذه الحقيقة أن القتال في الفتوحات الإسلامية إنما كان ضد الجيوش الغازية التي استعمرت الشرق وقهرته عشرة قرون، وأنه كان تحريراً لأوطان الشرق وضمائر شعوبه، الأسقف «ميخائيل السرياني» يشير إلى أن الكنيسة المصرية – اليعقوبية – كانت سرية، لا يعترف بها الرومان، كما كانت كنائسها مغتصبة من قبل المذهب البيزنطي – الملكاني – وأنها قد ظلت كذلك حتى حررها الفتح الإسلامي، فكان بقاؤها وحياتها «هبة الإسلام»! يشهد هذا الأسقف على ذلك فيقول: «إن الإمبراطور الروماني لم يسمح لكنيستنا بالظهور (أي لم يكن معترفاً بها!)، ولم يصغ إلى شكاوى الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نهبت، ولهذا، فقد انتقم الرب منه، لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة، واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناء إسماعيل لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية، وعشنا في سلام»(10).

تحرير الكنائس

ولقد حرر الفتح الإسلامي كنائس مصر من الاغتصاب البيزنطي، لا ليجعلها مساجد إسلامية، وإنما ردها إلى نصارى مصر، وأعطى عمرو بن العاص الأمان للبطرك الوطني «بنيامين» (39هـ/ 659م) فعاد بعد ثلاثة عشر عاماً من الهرب! عاد إلى شعبه، وتسلم كنائسه، وطاف بها في فرح عبَّر عنه الأسقف «يوحنا النقيوسي» بقوله: «ودخل الأنبا بنيامين بطرك المصريين مدينة الإسكندرية، بعد هربه من الرومان ثلاثة عشر عاماً، وسار إلى كنائسه، وزارها كلها، وكان كل الناس يقولون: هذا النفي، وانتصار الإسلام كان بسبب ظلم هرقل الملك، وبسبب اضطهاد الأرثوذكس، وهلك الروم لهذا السبب، وساد المسلمون مصر..»(11).

وغير شهادات هؤلاء الشهود الثقات على مقاصد القتال في الفتوحات الإسلامية، شهد الكثيرون من علماء الغرب على الانتشار السلمي للإسلام، ومن هؤلاء العلماء المستشرقة الألمانية الحجة «د. سيجريد هونكة»، التي كتبت تقول: «اليوم، وبعد مضي أكثر من ألف عام، لا يزال الغرب النصراني متمسكاً بالحكايات المختلقة الخرافية التي كانت الجدات يروينها، حيث زعم مختلقوها أن الجيوش العربية، بعد موت محمد، نشرت الإسلام «بالنار وبحد السيف البتار» من الهند إلى المحيط الأطلنطي، ويلح الغرب على ذلك بكافة الوسائل: بالكلمة المنطوقة، أو المكتوبة، والجرائد والمجلات، والكتب والمنشورات، وفي الرأي العام، بل في أحداث حملات الدعاية ضد الإسلام، لكن منهج الإسلام: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(البقرة:256)، تلك هي كلمة القرآن الملزمة، فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظل نصرانياً، ولليهودي أن يظل يهودياً، كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحد أن يؤدوا شعائر دينهم، وما كان الإسلام يبيح لأحد أن يفعل ذلك، ولم يكن أحد لينزل أذى أو ضرراً بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم، وبيعهم وصوامعهم وكنائسهم.

حضارة الفاتحين

لقد كان أتباع الملل الأخرى – وبطبيعة الحال من النصارى واليهود – هم الذين سعوا سعياً لاعتناق الإسلام والأخذ بحضارة الفاتحين، ولقد ألحوا في ذلك شغفاً وافتناناً، أكثر مما أحب العرب أنفسهم، فاتخذوا أسماء عربية وثياباً عربية، وعادات وتقاليد عربية، واللسان العربي، وتزوجوا على الطريقة العربية، ونطقوا بالشهادتين، لقد كانت الروعة كامنة في أسلوب الحياة العربية، والتمدن العربي، والمروءة والجمال، وباختصار: السحر الأصيل الذي تتميز به الحضارة العربية، بغض النظر عن الكرم العربي والتسامح وسماحة النفس، كانت هذه كلها قوة جذب لا تقاوم.. إن سحر أسلوب المعيشة العربي ذاك قد اجتذب إلى فلكه الصليبيين إبان وقت قصير، كما تؤكد شهادة الفارس الفرنسي «فونشير الشاروني»: «وها نحن الذين كنا أبناء الغرب قد صرنا شرقيين! أفبعد كل هذا ننقلب إلى الغرب الكئيب؟! بعدما أفاء الله علينا، وبدّل الغرب إلى الشرق؟!» بهذا انتشر الإسلام، وليس بالسيف أو الإكراه..»(12).

وشهد بذلك أيضاً المستشرق الإنجليزي البارز «ألفريد جيوم» (1888 – 1965م) فقال: «لقد استُقبل العرب على الأغلب في سورية ومصر والعراق بترحاب، لأنهم قضوا القضاء المبرم على الابتزاز الإمبراطوري، وأنقذوا البِيَعَ المسيحية المنشقة من الضغط الكريه الذي كانت تعانيه من الحكومة المركزية (البيزنطية)، وبرهنوا بذلك على معرفة بالمشاعر والأحاسيس المحلية أكثر من معرفة الأحزاب»(13).

حقيقة القتال

تلك هي حقيقة القتال في الإسلام.. وتلك هي مقاصده:

– رد العدوان عن حرية الاعتقاد والضمير، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين والتدين كله لله.

– رد العدوان عن حرية الوطن، الذي بدون حريته لا يمكن أن يكون هناك مواطن حر، والذي بدون حريته لا يمكن أن تتحقق حرية إقامة فرائض الإسلام.

إنه مجرد شعبة من شعب الجهاد، وهو الاستثناء لا القاعدة، والضرورة التي تُقَدَّر بقدرها، وهو الفريضة المكروهة، وليس الجِبِلَّة التي تقود إلى التقدم، كما زعمت فلسفات وثقافات خارج نطاق الإسلام!

الهوامش:

(1) القرطبي: «الجامع لأحكام القرآن»، ج2، ص 411، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.

(2) «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة» ص 125.

(3) المصدر السابق، ص 326.

(4) المصدر السابق، ص 328.

(5) المصدر السابق، ص 339، 340، وانظر كذلك «تاريخ الطبري» ج4، 152، 155، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، طبعة دار المعارف، القاهرة، سنة 1970م.

(6) أبو يوسف: «كتاب الخراج»، ص 138، 139، طبعة القاهرة سنة 1352هـ، وانظر كذلك: البلاذري «فتوح البلدان»، ص 189، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، طبعة القاهرة، سنة 1956م.

(7) أبو عبيد القاسم بن سلام: «كتاب الأموال»، ص 156، طبعة القاهرة، سنة 1968م، وأبو يوسف «كتاب الخراج»، ص 120.

(8) «تاريخ الطبري» ج 4، ص 156.

(9) يوحنا النقيوسي: «تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي، رؤية قبطية للفتح الإسلامي»، ص 201، 202، ترجمة ودراسة: د. عمر صابر عبدالجليل، طبعة القاهرة، سنة 2000م.

(10) د. صبري أبو الخير سليم: «تاريخ مصر في العصر البيزنطي»، ص 62، طبعة القاهرة، سنة 2001م.

(11) «تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي»، ص 220.

(12) «الله ليس كذلك»، ص 40 – 43.

(13) جيوم: «الفلسفة وعلم الكلام»، دراسة منشورة بكتاب «تراث الإسلام»، تصنيف «أرنولد»، ص 363، ترجمة: جرجيس فتح الله، طبعة بيروت سنة 1972م.

Exit mobile version