قيمة العدل في عالم متغير

العدل مقصد صميم من مقاصد الشريعة، وأساس من أسس قيام المشروع الإسلامي، وعلامة كبرى

العدل مقصد صميم من مقاصد الشريعة، وأساس من أسس قيام المشروع الإسلامي، وعلامة كبرى من معالم الحضارة الإسلامية، وركيزة من ركائز الشهود الحق، في تطابق القول مع العمل، والنظرية والسلوك؛ لذلك يعبرون عن هذا بقولهم: الشريعة عدل كلها.

 

قال تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام:152)، وأمر بالعدل في الحكم، فقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)، وأمر بالعدل في الصُّلْـح، فقال تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

 (9)} (الحجرات).

معنى العدل

العدل ليس كلمة تذكر فقط، وليس فلسفة تردد؛ من أجل إشباع غريزة «المدن الفاضلة»، العدل استحقاقات تلمس، ووقائع تمثل الواقع، وتلبي حاجة النفوس التي تهفو لها، فبين العدل والفطرة تلازم مذهل، وترابط منقطع النظير، ولا يتخلى عن قيمة العدل، إلا من فقد إنسانيته، فالترابط بين العدل وإنسانية الإنسان وثيق.

ذكر بعض العلماء جملة معبرة تعكس اهتمام الإسلام بالعدل، ونبذ الظلم، فقال: «العدل جماع الحسنات، والظلم جماع السيئات»، فانظر إلى هذه القاعدة الجامعة الماتعة المانعة، فما من خير إلا وخلفه عدل، وعلى المستويات كافة، وما من شر إلا ووراءه ظلم.

العدل، هذه الكلمة الأنيسة الجميلة، التي تحمل في جرسها معاني كبرى، في منظومة القيم، وسلال الأخلاق، وحزم الفضيلة، وتراتيب حقوق الإنسان.

العدل حياة

العدل مشروع حياة، به تزهر الدنيا وتسعد، وهو عنوان أي حضارة، ففي العدل يبقى الخير ويدوم، وينمو ويرتفع؛ من هنا قال قائلهم: «دولة العدل تبقى ولو كانت كافرة، ودولة الظلم زائلة، ولو كانت مسلمة».

إذا غاب العدل كان الظلم، بكل ألوانه البشعة، وطقوسه القذرة، وتجلياته الشنيعة، وظلامياته الوبيلة، وغصصه المريعة، وويلاته الفظيعة، وإسقاطاته المخيفة، ولو أراد المرء أن يحصي نواتج الظلم وتداعياته؛ لوجد العجب العجاب، مما تكتب فيه المجلدات، لذا حذرنا من الظلم، ونبهنا على عواقبه، ويقول الرسول “صلى الله عليه وسلم” لمعاذ: «.. وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْـمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» (البخاري ومسلم)، وقال “صلى الله عليه وسلم”: «ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْـمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» (في السنن وهو صحيح بطرقه وشواهده).

العدل يجب أن يكون في كل حالة، وفي تفاصيل الشؤون جميعاً، فرداً وأسرة ومجتمعاً ودولة وإنسانية، ويجب أن يكون في الغضب والرضا، والصحة والمرض، مع القريب والبعيد، ومع المخالف في اللون واللسان والدين والبلد، ومن وقع في المحاباة، على حساب قيمة العدل، سقط في حفرة الظلم، التي لا يخرج المرء منها سالماً، ففي الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْـمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلاَ تَظَالَمُوا» (رواه مسلم).

صور الظلم

الظلم حصاد مر، بكل مستوياته، وكل ضروبه، وسائر صنوفه، ومما ابتلينا به في واقعنا المعاصر، انتشار الظلم، وغياب قيمة العدل، ومنظومته الأخلاقية، حتى صار سمة من سمات الحياة، لا تكاد تخلو منه شعبة من شعب الحياة، أو مفردة من مفرداتها، ولو أردنا إعطاء وصف مميز للعصر، لقلنا عنه: عصر المظالم، وأبرز سماته شيوع ظاهرة الظلم العالمي، في عالم يدعي التمدن والتحضر، ويزعم أنه يحفظ الحقوق، إنه نظام عالمي جديد.. جديد في تفننه في التمييز بين حدث وآخر، وبين بلد وبلد، وبين أتباع دين ومعتنقي دين آخر، بمهارة مدهشة يفرقون في المواقف بين شرق وغرب، وشمال وجنوب، ولون ولون، حقاً إنها في عالم الفروق، تستحق الصدارة.

ومن يتتبع تفاصيل هذا الشأن ويفتح ملفات قضية الظلم، وغياب العدل سيقف على حقائق مذهلة في هذا الشأن، وما التجويع والمحسوبيات ونهب الثروة، والفقر والمرض، ونقص فرص التعليم، والعيش الكريم، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، وانتشار الاستبداد، وطغيان الدكتاتوريات، ودعم الطغاة، ومساندة المستبدين، والاستقواء على الضعفاء والمساكين، والأخطر من كل ذلك، أن يتحول الجلاد ضحية، والضحية جلاداً، وتشيع رائحة الفتنة والجور، حتى ترى السجون وقد ملئت بالأحرار، ومورست عليهم شتى صنوف التنكيل والتعذيب، حتى يعلق من يعلق منهم على أعواد المشانق، وقصص كارثية يشيب لهولها الولدان، وتقشعر من سماعها الأبدان؛ إذ سجون الطغاة وما حوت، وقيودهم وما أنتجت، تبرهن على حقيقة ما نذكر، من هنا نشأ فن «أدب السجون»، وكتبت فيه الأسفار والروايات، وصنعت منه الأفلام، حقاً إنها «تراجيديا» لكنها واقعية.

خذلان

ومن يتابع الظلم الذي يقع في سورية، على أبناء هذا الشعب المصابر المجاهد المحتسب، تأخذه الحيرة، من سكوت الساكتين، وصمت الصامتين، فالذي يقتل ويشرد مجرم، والذي يلقي البراميل المتفجرة على رؤوس الآمنين، ظالم، والذي قذف بالكيماوي على النائمين فجراً فقضى آلاف الناس من الأطفال والنساء والشيوخ محترف جريمة، هو ومن يسانده ويؤيده ويدعمه، ويقف إلى جانبه، ولو بشطر كلمة، أو رصاصة مسدس، كما أن الساكت والمجامل والصامت والمتفرج يلحقه من هذا الوصف بحسب قدرته، على المناصرة ولم يفعل، وما كان يقدر على دفعه من شر يقع على إخوانه هناك ولم يفعل، أليست هناك جرائم بالفعل، وأخرى بالترك.

هذا الخذلان العالمي لشعب سورية صفحة قبيحة في سجل دعاة التحرر، ومن يدعي مناصرة المظلومين، هذا الخذلان فاضح لدعاوى المدعين، وتشدق المتشدقين، لا عجب! فالثورة السورية هي الفاضحة.

الكيل بمكيالين

هذا العالم العجيب الغريب، وهذا المجتمع الدولي مع مؤسساته الكبيرة والصغيرة، كلهم شركاء في شيوع هذا الظلم، ونشر قيم غياب العدل، من خلال إذاعة فلسفات مزرية، وقواعد مؤسفة، ومقررات جارحة، حيث يقع التمييز بين الناس، والتفريق بينهم، من خلال ازدواجية المعايير، والكيل بأكثر من مكيال، والمحاباة الظاهرة والباطنة، والمجاملة التي تحمل في بطنها كل معاني التغييب لقيم العدل، فصار المرء يصيح: أين العدل؟ في زمن يكثر الحديث فيه عن حقوق الإنسان، ومنظمات رعاية الإنسان، وشعارات عدم التمييز بين البشر، في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإنصاف المظلوم من الظالم.

وبقدر ما نسمع عن هذه الحقوق المدعاة، بقدر ما نشاهد ونلاحظ عكس ذلك تماماً، بلد يقتل فيه شخص، فتقوم الدنيا ولا تقعد، وبلد مثل سورية يحرق من طرفه إلى طرفه، ويتم غزوه من قوى الظلام والطائفية، ويفعلون بالشعب السوري ما يفعلون، والقوى العالمية بكل مكوناتها ومنظماتها لا تسمع لهم ركزاً، ولا حساً، فعن أي عدل تتحدثون؟!

ازدواجية المعايير كارثة كبيرة، ومصيبة فظيعة، وهي عنوان الظلم في عصرنا الراهن، وهي الفصام النكد، بين النظرية والتطبيق، والقول والعمل، والقانون وانطباقه على جماعة دون أخرى؛ {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2)} (الصف)، وحثنا ربنا جل وعلا على العدل في كل حال، منعاً للازدواجية، وتأكيد الضرورة على التوازن، في كل حال، فقال: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:8)، فالعدل واجب، مع القريب والبعيد، والصغير والكبير، والمخالف في اللون والنسب واللسان والبلد والمذهب والدين، العدل واجب في حال الرضا والغضب، والحب والبغض، مع العدو والصديق، لكم ما نراه في عالمنا العجيب الغريب المدهش، يندى له الجبين، في هذا الشأن، من انحدار قيم، وضياع مفاهيم، وسلوك طريق الشيطان.

الحل

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: وما الحل؟ وما صوره؟ هذا سؤال كبير، ومن الحل أن تعقد لهذا السؤال ورشات عمل، وندوات تفكير، ومؤتمرات تواصل، حتى نخرج بنتائج مرضية في هذا الموضوع، لشيوع روح العدل، واستئناف الحياة على قيمة رفع الظلم عن المظلومين، ولكن الأكيد الواجب، أنه لا بد من حل، وأن السلبية، والنقد وحده، ولعن الظلام فحسب، لا يجدي نفعاً.

ومما يذكر حلاً في هذا الشأن:

– تفعيل المؤسسات الأهلية، التي تعنى بهذا الجانب.

– على الأحزاب السياسية المنصفة، أن تكون لها الصدارة من خلال برامج عمل، لتحقيق هذه الغاية.

– التركيز على دور الجماهير وتفعيله، فالجماهير هم مادة أي تغيير.

– المناصحة المستمرة مع الحكام، وقول الحق في وجوههم، دون الخوف من لائمة لائم، و«سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر، فوعظه ونصحه، فقتله»، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، وهذا الأمر يكو عاتقه بالدرجة الأولى على العلماء والمصلحين والدعاة.

– عقد تحالفات وشراكات، وعلى مستويات مختلفة، ومع جهات متنوعة، لمناصرة قيم العدل، ونبذ الظلم.

Exit mobile version