جذور الرابطة اليهودية الفارسية

من المحتم بأن المصالح الاقتصادية هي ليست المحرك لحوادث التاريخ فقط, فالجوانب العقائدية والعواطف التاريخية لها دورها الفعال، خصوصاً عندما تلتقي المصالح المشتركة.

من المحتم بأن المصالح الاقتصادية هي ليست المحرك لحوادث التاريخ فقط, فالجوانب العقائدية والعواطف التاريخية لها دورها الفعال، خصوصاً عندما تلتقي المصالح المشتركة.

والعلاقة اليهودية الفارسية علاقة متجددة بشكل فعال في التاريخ, تشهد على ذلك أسفار التوراة، وكما سنذكرها من نصوصها الأصلية.

فمن الثابت تاريخياً بأن اليهود قد تعرضوا لجملة من النكبات في تاريخهم كان أقساها الغزو الآشوري لمملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة عام 721 ق.م، وبعدها للغزو البابلي لمملكة يهوذا عام 597 ق.م، ثم عام 587 ق.م وما صاحبه من دمار للهيكل وسبي معظم أهل يهوذا إلى بابل بعد أن قتلوا الملك الذي تمرد على أسياده البابليين.

تقول التوراة: “فأسروا الملك واقتادوه إلى ملك بابل المقيم في ربلة, وحرضوه على القضاء عليه ثم قتلوا أبناء صدقيا (ملك يهوذا) على مرأى منه وقلعوا عينيه وقيدوه بسلسلتين من نحاس وساقوه إلى بابل, 6-7/25 ملوك ثاني”.

ويبدو المشهد مهيناً جداً, ثم تقول التوراة عن قائد الحرس الملكي للملك البابلي نبوخذ نصر: “وأحرق الهيكل وقصر الملك وسائر بيوت أورشليم وكل منازل العظماء.. وهكذا سبي شعب يهوذا من أرضه، 8-21 / 25 ملوك ثاني”.

إن صدى الإهانة  للغزو البابلي يرن داخل العقلية اليهودية وفي كل أسفار التوراة بشكل بارز لا لبس فيه, حيث يعتبر زوال الهيكل رمزاً لإهانة عميقة لم ولن تتجاوزها العقلية اليهودية أبداً, وهي التي كانت تعتقد بأنهم شعب الرب المختار الذين لن يتخلى عنهم أبداً.

في عام 539 ق.م استطاع الملك الفارسي الأخميني كورش القضاء على بابل، وسمح لليهود بالرجوع إلى أورشليم إن أرادوا؛ ذلك لاستخدامهم كقاعدة متقدمة ضد الفراعنة في مصر, بينما رفعته التوراة كعادتها إلى مصافي الأنبياء، رغم كونه وثنياً عبد آلهة بابل, تقول التوراة: “هذا ما يقوله كورش ملك فارس: الرب إله السماء وهبني جميع ممالك الأرض وأمرني أن أبني له هيكلاً في أورشليم التي في يهوذا وعلى كل واحد من شعب الرب أن يرجع إلى هناك وليكن الرب معكم، 23, 36 أخبار الأيام الثاني”.

والنص كما يبدو مفبركاً من ناحية إعطاء الحدث للصبغة الدينية.

في عهد الملك قمبيز الثاني (529 – 522 ق.م) خلف كورش والذي احتل مصر، قام بإسكان اليهود في إحدى جزر النيل المسماة الفانتين كحماية ضد تمرد المصريين عليه.

واستمرت الرابطة على أحسن ما يكون على عهد داريوس الأول (522 – 486 ق.م)، الذي تم افتتاح الهيكل في السنة السادسة من حكمه، وكان هزيلاً بالنسبة للهيكل الأول، حتى  “إن كثيراً من الكهنة واللاويين وكبار الرؤساء الذين شاهدوا الهيكل الأول رفعوا أصواتهم بالبكاء عند إرساء أساس هذا الهيكل، بينما راح بقية الشعب يطلقون هتافات البهجة والفرح، 12, 3 عزرا”.

واستمر العمل على تقوية مركز أورشليم العسكري المتقدم من قبل الفرس والذي ظن اليهود أن الفرس قد قاموا لخدمتهم؛ لأن الرب قد سخرهم لهذا العمل انطلاقاً من فكرة الشعب المقدس الذي لا ينساه إلهه.

أراد الملك إرثحششتا الأول (456 – 424 ق.م) تقوية أسوار أورشليم، وإرسال المزيد من اليهود إلى هناك، ولكن التوراة تضع القصة في إطار رباني، فتقول: “إن نبياً اسمه نحميا كان يعمل ساقياً للخمر عند الملك, فلاحظ الملك انقباضه, فأخبره هذا النبي المزعوم والذي لا يجيد غير سقاية الخمر! بأنه يريد العودة إلى أورشليم لتقوية أسوارها وزيادة هيبة الهيكل الصغير, فيقول الملك الفارسي: نفيدكم أن جميع الكهنة واللاويين والمغنين وحراس الهيكل والعاملون فيه معفون من أي جزية أو خراج.. وليحكم على كل من لا يطبق شريعة إلهك وشريعة الملك بالموت أو النفي أو بغرامة مالية أو بالسجن, 24-26/ 7 عزرا”.

وقد رجع مع نحميا الشخصية الثانية في الدين اليهودي بعد موسى (عليه السلام) الذي أرسى الدعائم العنصرية الكاتب عزرا القائل: “والآن لا تزوجوا بناتكم من بنيهم ولا تزوجوا أبناءكم من بناتهم، ولا تسعوا في سبيل أمنهم وخيرهم, لكي تترسخ قوتكم وتأكلوا خير الأرض وتورثوها لأبنائكم إلى الأبد، 12,9 عزرا”.

وفي هذا النص دلالة على معاداة اليهود لجيرانهم وشعورهم بالتفوق, خصوصاً بعد أن أغدق عليهم الملك الفارسي من الذهب والفضة ما لا يحصى لاستكمال زينة الهيكل الثاني حسب ادعاءات التوراة.

لقد قفزنا متعمدين على عهد الملك أحشويروش (485 – 465 ق.م )، وكان ملكاً قاسياً وطاغية عاتية، وقد اغتيل من قبل أحد أعوانه، ولكن التوراة ترفعه لمراتب القديسين بسبب أستير!

وذلك لأهمية الوقوف على قصته مع اليهود خارج نطاق الهيكل.

ففي جلسة عاصفة بالخمر؛ “وكانت الأقداح التي تقدم فيها الخمور من ذهب, وآنية الموائد مختلفة الأشكال والخمور الملكية وفيرة بفضل كرم الملك 7, 1 أستير”.

يأمر الملك باستبدال الملكة التي عصت أمره بعدم حضورها مجلسه, فيتم جلب مئات النساء من مختلف أصقاع المملكة الواسعة؛ فاختار واحدة يهودية فائقة الجمال هي بنت شقيق مردخاي ساقي الخمر اسمها أستير.

وتقول الرواية: إن وزير الملك هامان أراد الإيقاع باليهود وتشريدهم وقتلهم، فعلم بذلك مردخاي, تقول التوراة: “فمزق ثيابه وارتدى مسحاً وعفر رأسه بالرماد وقصد إلى وسط المدينة لا يكف عن العويل والصراخ المرير، 1, 4 أستير”، فقد كانت عادة اللطم عادة يهودية متأصلة أخذها الفرس ومن تبعهم إلى يومنا هذا.

والتوراة مليئة بمثل هذه النصوص، ومنها حول موت أحد أنصار داؤود غدراً، فقد جاء: “أمر داؤود قادته وسائر الشعب الذي معه قائلاً: مزقوا ثيابكم وارتدوا المسوح والطموا وجوهكم نوحاً على أبنير، 31, 3 صموئيل الثاني”.

 فيستنجد مردخاي بابنة أخيه التي تتوسط عند الملك فيقوم بصلب هامان وأبنائه وجماعته؛ “وتأزر اليهود الباقون المنتشرون في أقاليم الملك ودافعوا عن أنفسهم واستراحوا من أعدائهم بعد أن قتلوا خمسة وسبعين ألفاً، 16, 9 أستير”.

ويقول سفر أستير الذي يخلو من أي ذكر للرب أو إشارة إلهية: “ودون مردخاي هذه الأحداث، وبعث برسائل إلى جميع اليهود القريبين منه والبعيدين يحثهم على الاحتفال في كل سنة في اليومين الرابع عشر والخامس عشر من شهر آذار، وهما اليومان اللذان استراح فيهما اليهود من أعدائهم 20 – 22, 9 أستير”.

ولا يزال اليهود حتى يومنا هذا يحتفلون بذكرى هذه الحوادث في عيد يسمونه عيد الفوريم.

أما مردخاي عم الملكة اليهودية أستير, فإن التوراة المتداولة كعادتها في المبالغة الشديدة ترفعه إلى مراتب خيالية، “وفرض الملك أحشويروش جزية على الأرض وجزر البحر، وصار مردخاي اليهودي في المرتبة الثانية بعد الملك أحشويروش وتمتع بمكانة مرموقة بين اليهود 1 – 3, 10 أستير”.

هذه هي فضائل الفرس على اليهود الذين تخيلوها كرسالة إلهية, وهي لم تكن إلا تبادلاً للمصالح ليس إلا.

إن علاقة الود الخفي بين اليهود والفرس أمر لا نقاش حوله, وما الصراع الظاهري في أيامنا هذه تحت ستار الجمهورية الإسلامية إلا نفاق سياسي تفرضه حرب المصالح المشتركة في المنطقة والسيطرة على خيراتها.

إن كثيراً من الساسة الغربيين الصهاينة قد تأثروا بشدة بهذه الأقوال, حتى إن الرئيس الأمريكي الأسبق “هاري ترومان” (1945 – 1953م) والذي تفاخر بأنه  قد قرأ التوراة اثنا عشر مرة قال: “أنا كورش”!

وأخيراً يقول المؤرخ الفارسي ناصر بوربيرار في كتابه “اثنا عشر قرناً من السكوت”: إن اليهود يقدمون الفرس الأخمينيين كمبدعين للثقافة والحضارة أو أي شيء يرغبون؛ وذلك بسبب الخدمة التي قدموها لهم بتحريرهم من سبي نبوخذ نصر, وإن 90% من مؤرخي التاريخ الإيراني هم من اليهود؛ قاموا بتصوير كورش كمنقذ رباني في حين أنه عاش ومات وثنياً إلى العظم!

Exit mobile version