متى نصر الله؟

لقد قدم لنا نبينا “صلى الله عليه وسلم ” خير قدوة وأحسن أسوة، فلم يألُ جهداً في نصح أهل مكة ودعوتهم إلى الله تعالى، لكن رؤوس القوم من المشركين فيها لم يتخطوا ذلك الامتحان.. امتحان الإيمان واليقين، ولم ينجحوا فيه أو يحصلوا على أدنى درجة تؤهلهم لهذا الن

 لقد قدم لنا نبينا “صلى الله عليه وسلم ” خير قدوة وأحسن أسوة، فلم يألُ جهداً في نصح أهل مكة ودعوتهم إلى الله تعالى، لكن رؤوس القوم من المشركين فيها لم يتخطوا ذلك الامتحان.. امتحان الإيمان واليقين، ولم ينجحوا فيه أو يحصلوا على أدنى درجة تؤهلهم لهذا النجاح، بل لم يخوضوا تجربته أصلاً فضلاً عن ممارسته.

حيث لم يعطوا أنفسهم وقتاً لقراءة أسئلته فربما فقهوها، لكنهم رسبوا وسقطوا بكل المقاييس التي يعرفها البشر، ذلك لأنهم قاسوا نجاح المرء في حياته بما يملك من مال وعبيد، وزينة ورياش، وظنوا أنهم أحق بهذا النجاح لما لهم من سطوة وسلطان، وجاه وعشيرة، يُحْدِثُ هذا أو ذاك منهم في قلوب العباد وأجسادهم التخويف والإرهاب، والتقتيل والتشريد، والبطش والإفساد، لقد ظنوا أنهم ملكوا الرقاب وأخضعوا الدنيا لأنفسهم فأرادوا أن تتوقف عجلتها أمام شهواتهم وأطماعهم فلا تدور إلى غيرهم؛ {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ“31”}(الزخرف)، لقد حاولوا جاهدين أن تظل الحال كما هي عليه حتى تكون لهم السطوة والكلمة، والحكم والرياسة فلا يتفلت الكرسي من تحتهم وهم لا يشعرون، ولو أدى ذلك لمعاداة أهليهم الذين أسلموا مع النبي “صلى الله عليه وسلم “، بل وإبادتهم إن تطلب الأمر ذلك، وأعلنها أبو جهل دونما حياء أو خجل: «والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش.. والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه». 

رؤية قاصرة

وللأسف فقد تمسكوا بكراسيهم المتأرجحة، ومناصبهم الخادعة، وأحلامهم الهشة، ورؤيتهم القاصرة، وظنوا أنهم ملكوا الدنيا بمن فيها فسلطوا أسلحتهم على رقاب الضعفاء الذين لم يستسلموا ولم يضعفوا، فهذا بلال يعجزهم بقوله: «أحَد أحَد»، وخبّاب يوهنهم بآثار الحرق والتعذيب الظاهرة على كل ظهره، وصهيب يقهرهم بنبذ الدنيا إليهم فيضحي بماله، أما المرأة فكانت كبش الفداء الأول للتمسك بدعوتها والتضحية في سبيل دينها، فسمية أول شهيدة في الإسلام تقتل على يد سيد من أسياد مكة الأشقياء المحسوبين عليها والذين نزعت من قلوبهم الرحمة «ولا تنزع الرحمة إلا من شقي»، فانظر أين سمية الآن منه، «صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة» أما هو فقد ألقي به منبوذاً ذميماً في مذبلة التاريخ تلحقه اللعنات أينما وحيثما ذكِر، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى“127”}(طه).

وبالرغم من كل تلك الحماقات منهم ودعواتهم الباطلة للنيل من الرسالة وصاحبها وأهلها، ومع كل هذا الضجيج والصراخ والصخب والضوضاء لم يهن النبي “صلى الله عليه وسلم ” وأصحابه، ولم ييأس لحظة من وعد الله أن النصر قادم، وأن اليسر سينفجر من رحم العسر وإن طال الزمان، فظل “صلى الله عليه وسلم ” على عهده وصبره ودعوته وثباته حتى خضعت له الرقاب وفتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وجاءه النصر والفتح المبين.

ثمن النصر 

وقد تكبد النبي “صلى الله عليه وسلم ” في سبيل ذلك النصر الكثير، وتلك سُنة الله عز وجل، مصداقاً لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ“214”}(البقرة).

فتوفيت زوجه خديجة متأثرة بحصار الشعب، طاردوه في الطائف وضربوه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه الشريفتين، منع من دخول وطنه مكة ولم يستطع دخولها إلا في جوار بعض أهلها، ثم أبعد عنها وخرج هارباً من البطش والظلم ومحاولة الاغتيال الآثمة التي أحبطها الله، ثم بعد ذلك هوجم من أعدائه، وكسرت رباعيته وشج وجهه الشريف، واستُشهد عمه حمزة ومُثِّل به، واستُشهد بعض أحبابه من الصحابة في غزواته مع المشركين، فما وهن، وكلما وجد اليأس إلى قلوب أصحابه سبيلاً أزاحه عنهم وبث فيها الأمل والبشرى: «ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدَرٍ ولا وبَرٍ إلَّا أدخلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذلّا يذِلُّ اللهُ به الكفرَ»(صححه الألباني)، «إنَّ اللهَ زوى لي الأرضَ؛ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها، وإنَّ أُمتي سيبلغُ ملكُها ما زُوىَ لي مِنها»(صحيح مسلم)، «واللهِ ليُتِمَّنَ هذا الأمرُ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتٍ، لا يخافُ إلا اللهَ، أو الذئبَ على غنمِهِ، ولكنكم تستعجلونَ»(رواه البخاري). 

أجود الناس

فلم تكن الدنيا بمناصبها وكراسيها وجاهها وسؤددها هي همّه وغايته، بل لم تحرك قلبه أو تشغله، ولو شاء لفعل ولأتته وهي راغمة، ولقد خُيِّر فاختار الآخرة، وكان أجود الناس لا يمسك شيئاً من رزق الله عن الفقراء والمساكين، ولو أراد الغنى والمال والدنيا لآتاه الله ذلك كما آتاه نبيه سليمان عليه السلام، وفي مسند الإمام أحمد: «جلس جبريل إلى النبي “صلى الله عليه وسلم ” فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك، قال: أفملكاً نبياً يجعلك أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد، قال: بل عبداً رسولاً»، لذا فلا عجب أن نامَ رسولُ اللَّهِ “صلى الله عليه وسلم ” على حصيرٍ فأثَّرَ في جنبِه فقالت لهُ عائشةُ رضيَ اللَّهُ تعالى عنها: يا رسولَ اللَّهِ، هذا كِسرى وقيصرُ في مُلكٍ عظيمٍ، وأنتَ رسولُ اللَّهِ لا شيءَ لَك تَنامُ على حصيرِ وتلبسُ الثَّوبَ الرَّديءَ؟ فقال لَها رسولُ اللَّهِ “صلى الله عليه وسلم “: «يا عائشةُ، لو شئتُ أن تسيرَ معيَ الجبالُ ذَهباً لسارت، ولقد أتاني جبريلُ بمفاتيحِ خزائنِ الدُّنيا فلم أُرِدْها، ارفعي الحصيرَ فرفعتُه فإذا تحتَ كلِّ زاويةٍ منها قضيبٌ من ذَهبٍ ما يحملُه الرَّجلُ فقال: انظري إليها يا عائشةُ، إنَّ الدُّنيا لا تعدلُ عندَ اللَّهِ منَ الخيرِ قدرَ جناحِ بعوضةٍ ثمَّ غارتِ القضبانُ»(أبو نعيم، حلية الأولياء). 

رسالة لكل مسلم: فالثبات الثبات.. والصبر الصبر.. {إوَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:64)، نعم.. هذه هي الرسالة التي يجب أن تصلنا جميعاً.. فالدنيا جميعها، بكل كنوزها وثرواتها، ومناصبها وكراسيها، وجواهرها ولآلئها، وأموالها وبنيها، الدنيا بزخرفها وزينتها، ومطامعها وشهواتها، وجاهها وملكها، الدنيا بأرضها وشمسها ومائها وهوائها لا تعدل عند الله جناح بعوضة! فأين أنت أيها الإنسان من جناح البعوضة؟ وما حجمك عند الله إن عصيته وبارزته بالحرب؟! 

فإن أردت أن تعيش مكرماً عزيزاً على الله عز وجل فتمسّك بإيمانك واتبع وحي ربك، ولا تأبه بما يقابلك في سبيل ذلك من عقبات، وانتصر على نفسك وعلى الشهوات المحيطة بك، واصبر وتصبَّر على ما يصيبك في سبيل ذلك من أذى وإيذاء؛ {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(ص:26)، وقد أُمِر من قبلك خير الناس وقيل له: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ“43”}(الزخرف).. ففي القرآن العز والشرف والسؤدد والجاه، وإن مال الميزان حيناً فرجحت كفة الظلم أو القهر والإيذاء فسترجح كفة العدل يوماً ما، ويعود الطريد لأهله والمتشرد لبيته والمظلوم لحقه، والأرض لأصحابها، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ “227”}(الشعراء).

Exit mobile version