مسلمو الغرب.. أتريد أوروبا المزيد منهم؟

لم يدر بخلد سياسيي أوروبا وهم ينسحبون من بلدان استعمروها على مدى قرن أو يزيد، أن إرث الاستعمار سيلاحقهم إلى عقر دارهم

بتعداد سكاني يزداد سناً، وأزمة اقتصادية تهدد اليورو، وصعود اليمين المتطرف في بلدان مهمة كفرنسا وبريطانيا – وهو المعادي للأقليات بشكل عام والمسلمين على رأسهم – وهجوم من شعوب بلدان الجنوب، كإيطاليا واليونان وإسبانيا، على الدور القيادي لألمانيا والذي يحرّك دفة القارة بأكملها، وتباطؤ عملية اندماج شرق أوروبا في الاتحاد الأوروبي بعد الأزمة الأوكرانية، والتي كانت لتضخ عدداً لا بأس به من الشباب من الشرق إلى الغرب.. يبدو أن أوروبا بحاجة إلى شباب مهاجرين، ولكن الشرائح المحافظة والأكبر سناً من شعوبها، والتي تتزايد قوتها بتضاؤل نسبة الشباب، ترفض أن تصبح هجيناً إثنياً كالولايات المتحدة.. ماذا عسى قيادة الاتحاد الأوروبي أن تفعل إذن؟

شبح المستعمرات الأوروبية

لم يدر بخلد سياسيي أوروبا وهم ينسحبون من بلدان استعمروها على مدى قرن أو يزيد، أن إرث الاستعمار سيلاحقهم إلى عقر دارهم، وأن ما فرضوه من ثقافات ولغات باسم التحديث والتنوير، سيصبح رابطاً ثقافياً وجسراً يمر عبره المهاجرون إلى فرنسا وبريطانيا، وغيرها من بلدان أوروبا، وهي مجتمعات متجانسة نسبياً من الناحية الثقافية واللغوية، ولم تنظر لنفسها في يوم من الأيام باعتبارها بوتقة انصهار مهاجرين كما نظرت أمريكا لنفسها.

يلاحق “شبح” المستعمرات دول أوروبا الكبرى حتى اليوم، إذ تمثل الهجرة واحدة من أبرز التحديات التي تواجهها أوروبا في هذا القرن، بما في ذلك زيادة معدلات مواليد المهاجرين مقارنة بالسكان الأصليين، وازدياد حضور اليمين القومي المتطرف المعادي للأقليات في عدة بلدان، وما يمثله ذلك من تهديد للديمقراطية الليبرالية، وهم في صعود نظراً لتراجع شرعية المنظومة السياسية التقليدية المنقسمة إلى يمين ويسار، وتراجع مستويات المعيشة للأوروبيين لأول مرة منذ الثورة الصناعية نظراً للأزمة الاقتصادية العالمية عامة، وأزمة اليورو بشكل خاص (1).

حين فتحت أوروبا الباب أمام المهاجرين بعد الحرب العالمية، لم يكن يتصور أحد أن تبقى هذه العمالة الوافدة لعقود في بلدانها المضيفة، لتحصل على مميزات اجتماعية مثل الرعاية الصحية والتعليم، بل والجنسية أيضاً، ولكنها ضريبة الجغرافيا والتاريخ التي دفعتها ولا تزال تدفعها أوروبا.

شبح المستعمرات لا يلاحق أوروبا فقط، ولكن لاحق المهاجرين أيضاً، إذ عاش، ولا يزيل يعيش، الفقراء منهم في أحياء مهمّشة وضعيفة الخدمات أشبه بمستعمرات داخلية أو تجمعات “جيتو” تخدم باريس ولندن وغيرهما، بدلاً من آبائهم الذين خدموا في ذات المنظومة حين كانت بلدانهم هي المستعمرة، غير أن وجود المهاجرين في نفس البلد كان يعني أن هذا الوضع سيتغيّر تدريجياً بتوطينهم وحصولهم على التعليم وخدمات الدولة المختلفة، وهو ما أدى إلى صعودهم في سوق العمل مع الوقت، ودخولهم إلى الطبقة الوسطى.

إحدى العوامل التي ساهمت في تبدّل الواقع الأوروبي وموقفه من الهجرة هو صعود الولايات المتحدة بمفاهيمها الثقافية والسياسية والاجتماعية على الساحة الدولية لنصف قرن أو أكثر؛ وهو ما يعني أن مفاهيم التعددية واختلاط الأعراق وغياب التعريف الإثني للدولة، خاصة في ظل اقتصاد رأسمالي صِرف يريد جلب أفضل وأكفأ الكوادر دون التقيّد بالقومية، كان ليهيمن تماماً ويؤثر على الخطاب العام والمنظومة السياسية الاجتماعية في أوروبا، لاسيما وأن القومية آنذاك كانت تحت الاتهام باعتبارها السبب في حربين عالميتين أذاقتا أوروبا الدمار، في حين كان النموذج الأمريكي على الناحية الأخرى من الأطلنطي، والمفتوحة أبوابه على مصراعيها أمام شتى أجناس الأرض، هو قبلة الاقتصاديين والسياسيين بنجاحاته الوليدة.

أضف إلى ذلك أن أوروبا المنهكة من الحرب العالمية، والتي قطعت وعوداً بالتنمية والالتفات إلى مجتمعاتها ونبذ الصراع ونقل المهام العسكرية إلى الولايات المتحدة، انتظر مواطنوها المنتصرون في القتال رخاءً يُرضيهم ويُنسيهم مرارة الحرب، وهو ما تحقق بالفعل بفضل إعادة البناء الداخلي والدعم الأمريكي، وأدى تباعاً إلى عزوفهم عن الوظائف “الدُّنيا” والحاجة لعمالة من الخارج لملء هذا الفراغ، ومن كان ليملأ هذا الفراغ في فرنسا سوى المتحدثين بالفرنسية في الجزائر وتونس والمغرب وغرب أفريقيا، وهم على بعد ساعات قليلة من باريس، ومن كان ليملأه في بريطانيا سوى الهنود والباكستانيين وأفارقة المستعمرات الإنجليزية، والذين لا تزال رابطة الكومنوِلث تجمعهم إلى اليوم؟(2)

بوتقة انصهار أم “جيتو”؟

على العكس من مسلمي الولايات المتحدة، الذين لا ينقسمون عبر الولايات طبقاً لأعراقهم ولغاتهم نظراً لتوحدهم تحت مظلة الإنجليزية كلغة عالمية، ونظراً لتعددية المجتمع الأمريكي وانفتاح الأقليات العرقية فيه بشكل كبير على بعضها بعضاً في كافة مجالات الحياة، تُعَد الأقليات المسلمة في أوروبا أكثر انقساماً بحسب أعراقها، فالأتراك والبلقانيون يتركزون أساساً في ألمانيا، وبعضهم في بلجيكا وهولندا، والمغاربة في فرنسا وهولندا وبلجيكا، والجزائريون في فرنسا، في حين الباكستانيون والهنود في بريطانيا (وإن كانت حدة الانقسامات في بريطانيا أقل من باقي أوروبا نظراً لوجود اللغة الإنجليزية كما الحالة الأمريكية)، في حين تتشكل أقليات دول إسكندنافيا بالأساس من مجموعات مختلطة انتقل الكثير منها نزوحاً أو لجوءاً، مثل مسلمي البلقان والسوريين والعراقيين والفلسطينيين (3).

يبدو أن المناخ الحضاري بشكل عام في أوروبا، وبلدانها المقسمة بشكل واضح إلى قوميات، قد انطبع على طبيعة المجتمع المسلم، بحيث يستحيل أن نتحدث عن مسلمي أوروبا كوحدة واحدة بشكل اجتماعي أو سياسي أو ثقافي، ولكن فقط عن مسلمي ألمانيا، ومسلمي بريطانيا، ومسلمي الدنمارك، وأحياناً نحتاج إلى تقسيم تلك المجموعات بحسب أعراقها، تماماً مثلما لا يمكننا الحديث عن المجتمع الأوروبي هكذا جملة دون التفرقة بين مزاج الجنوب المتوسطي وثقافة الشمال الإسكندنافية، على العكس، فإن طبيعة الحضارة الأمريكية وغياب المفاهيم الإثنية فيها وتعصبات العرق (باستثناء مسألة البيض والسود والتي تتلاشى تدريجياً) أدى إلى تكامل المجتمع المسلم عبر القارة بشكل كبير، وعضد من مفهوم الأمة على حساب الانتماءات الأضيق، لاسيما ومسألة البيض والسود منعدمة تقريباً بين مسلمي أمريكا.

لا يعاني المسلمون الأمريكيون من مشكلات اضطهاد أو تمييز، ومستويات معيشتهم متناسبة مع المتوسط الأمريكي حسب الدراسات في هذا الشأن، على سبيل المثال، ذكرت إحدى الدراسات أن نسبة أصحاب الدخول التي تتجاوز 100 ألف دولار سنوياً من المسلمين الأمريكيين مساوية لنسبتهم من الأمريكيين بشكل عام (4)، على النقيض، يملأ معظم المسلمون المهاجرون في أوروبا الشرائح الدنيا بشكل واضح، فهم سائقو التاكسي الجزائريون في فرنسا، وعمال النظافة المغاربة في هولندا، إلخ، ولذلك هم ربما الأكثر غضباً وقابلية للاستقطاب في ظل جو أوروبا المشحون حالياً ضد الأقليات.

المهاجرون والسياسة على ضفتي المتوسط

لا تتحسس الولايات المتحدة كثيراً في مغامراتها بالمنطقة العربية، والتي يفصلها المحيط الأطلنطي عن، ويحميها من، التأذّي بنيرانها مباشرة، وعلى النقيض تجلس أوروبا، حيث يُعَد انتقال أشكال العنف والصراع المختلفة من المنطقة العربية إلى أوروبا خطراً حقيقياً عليها.

كذلك، فإن المجتمع الأوروبي غير المبني على المهاجرين، تمثل الهجرة بالنسبة له خطراً أكبر نظراً لنفس السبب: قربه من المنطقة، فالمهاجرون لا يسعهم أن يستقلوا المراكب غير الشرعية عبر الأطلنطي، ولكنهم يفعلون عبر المتوسط صوب إيطاليا واليونان، وهي ربما البلدان الأقل قبولًا للمهاجرين في أوروبا، والأكثر تدهوراً اقتصادياً، وهو ما يزيد الطين بلة، ويدفع دولاً مثل ألمانيا إلى تحمّل مسؤولية الاتحاد.

يؤثر ذلك بشدة على المواقف السياسية بين أوروبا والولايات المتحدة، فالاتحاد الأوروبي كان ولا يزال ملتزماً بدعم التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، لما يمثله ذلك من فرصة للتنمية الحقيقية هناك التي يمكن أن تدعمهما أوروبا بخبراتها وقربها الجغرافي، وبالتالي تخفف عنها عبء المهاجرين الذين يتوافدون عليها لفقر الفرص في بلادهم.

أضف إلى ذلك أن الديمقراطية تعني الوصول بممثلين حقيقيين للشارع العربي للسلطة، وهو ما يعني فتح الباب أمام المعتدلين من الإسلاميين وتنحية المتطرفين، وهما هدفان مهمان لأوروبا، والهدف الأول تحديداً مهم لأنه يتيح التعامل مع الحركة الأبرز في المنطقة العربية عبر منظومة مؤسسية واضحة، وفي نفس الوقت، بالذات لقيادات أوروبا المحافظة، وجود رؤى متعامدة على ضفتي المتوسط؛ فالإسلاميون العرب لا يحبذون النظم الليبرالية المفتوحة على مصراعيها، وكذا أقرانهم المسيحيين الديمقراطيين، وهم على رأس السلطة في ألمانيا البلد الأهم، والمجموعة الأكبر بالبرلمان الأوروبي.

وجود منظومتين ديمقراطيتين ناميتين على ضفتي المتوسط سيتيح إذن لهذه الرؤية المحافظة أن تتحقق: مجتمعان مفتوحان نسبياً، ولكن كلاً منهما يشدد على إرثه الثقافي والديني، ولا يرمي يثقله الديمجرافي تجاه الآخر.

المحافظون بين اليمين واليسار.. مواربة باب الهجرة

تحتاج أوروبا إلى المهاجرين، لاسيّما ألمانيا، المركز الصناعي والاقتصادي للقارة، التي وصل متوسط عمر المواطن فيها إلى 45 عاماً، لتصبح هي واليابان البلدان “الأكبر سناً” في العالم، ولعل قرار فتح أبواب الجامعات الألمانية بلا مصاريف يأتي كدليل إضافي على رغبة ألمانيا في جذب الشباب إليها، وكذلك الضغط الذي تمارسه حالياً على دول الاتحاد الأوروبي ليكون تحمّل عبء اللاجئين موزعاً بينهم (5).

ألمانيا، التي تعج بكبار السن، والأبعد عن التمسّك بأي رؤية إثنية للهوية (مثل فرنسا ربما) نظراً لتاريخ القومية المرير والشائك هناك، هي الأكثر رغبة في فتح الباب ولو قليلاً، وهي الأبعد نظراً فيما يخص المهاجرين، إذ لا يبدو أن أوروبا وحدها دون مهاجرين ستسمر صعوداً، كما ظلت تفعل حتى السبعينيات، إلا بمعجزة ديمجرافية.

على الناحية الأخرى، تحتج البلدان التي يعلو فيها صوت اليمين، مثل فرنسا وهولندا، على المهاجرين بشكل عام – حتى أولئك القادمين من أوروبا الشرقية الفقيرة نسبياً – والمسلمين بشكل خاص، أشهر أولئك وأكثرهم جذباً للانتباه هي “مارين لو بِن”، زعيمة حزب الجبهة القومية في فرنسا، والتي تريد انسحاباً كاملاً من الاتحاد الأوروبي، و”نايجل فاراج”، البريطاني الذي يريد الشيء نفسه لبريطانيا.

على الناحية الأخرى من الطيف، يجلس اليسار الأوروبي في حالة إفلاس، كما تجسّد رئاسة هولاند في فرنسا، ورئاسة “إد ميليباند” لحزب العمال في بريطانيا، وتراجع اليسار عموماً في أوروبا في السنوات الماضية (باستثناء دول الجنوب المتوسطية التي رفعت الأزمة الاقتصادية فيها من أرصدة اليسار، ودول إسكندنافيا).

لوقت طويل، اعتمد اليسار على المهاجرين، واعتبرهم هدية من السماء، إذ إن المهاجرين يصوّتون دوماً لليسار، لاسيما المسلمين، نظراً لاهتمام اليسار بهم، وحرصه على أصواتهم في مواجهة اليمين الذي يركز دوماً على حماية الثقافة المسيحية لأوروبا.. كان المسلمون عاملاً مهماً في فوز هولاند برئاسة فرنسا وهم 5٪ من السكان، أضِف إلى ذلك أن المهاجرين غالباً ما يكون أغلبهم من الطبقات العمالية، وهو ما يسهّل حشد أصواتهم عبر النقابات والاتحادات العمالية (6).

تقبع إذن قيادة الاتحاد الأوروبي، وهي مسيحية محافظة ديمقراطية كما أظهرت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، بين يمين متطرف يريد طرداً غير واقعي للأقليات، وهدماً للمشروع الأوروبي، ويسار يعتمد على الأقليات والمهاجرين والعمال في دخول السلطة، ولا يبدو أنه سيعير اهتماماً لأصوات تخشى زحف الأقليات.

بين هذا وذلك، يقدّم المحافظون (المسيحيون الديمقراطيون) ربما الرؤية الأوقع والأشمل، فهُم يدركون تماماً أنه لا يمكن غلق باب الهجرة، ولا يمكن فتحه على مصراعيه أيضاً، وأن مواربة الباب، مع بذل كل الجهد في دعم التغيير بشكل عام في المنطقة العربية، هو ما سيخلق توازناً “يوروعربي”.

***

كانت كلمات وزير الداخلية الألماني، “توماس دي مازيَر”، كاشفة في أحد المؤتمرات التي تحدث فيها عن اللاجئين قائلاً: إنه يجب تحديد عدد الوافدين على أوروبا؛ حتى لا تغضب الشعوب الأوروبية، بيد أنه قال أيضاً: يجب أن تكون الأولوية هي تحسين أوضاعهم (الوافدين) في تلك البلدان بشكل جذري لتقديم فرص جيدة لهم في أوطانهم.

 

(*) الهامش

(1)        http://www.foreignaffairs.com/articles/141733/yascha-mounk/pitchfork-politics

(٢) http://www.meforum.org/2107/europe-shifting-immigration-dynamic

(٣) http://news.bbc.co.uk/2/hi/europe/4385768.stm

(٤) http://www.economist.com/news/united-states/21615611-why-muslims-fare-better-america-europe-islamic-yet-integrated

(٥) http://www.spiegel.de/international/germany/germany-to-urge-shift-in-eu-refugee-policy-a-993076.html

(٦) http://www.dissentmagazine.org/article/islam-and-social-democrats

 

 

Exit mobile version