الإسلام.. واحترام المقدسات

في صدر الإسلام.. في أول لقاء بين الإسلام والنصرانية، عندما استقبل رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وفد نصارى نجران، بالمدينة المنورة

في صدر الإسلام.. في أول لقاء بين الإسلام والنصرانية، عندما استقبل رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وفد نصارى نجران، بالمدينة المنورة سنة 10هـ/ 631م، كان احترام الإسلام لمقدسات الآخرين الدينية معْلماً من المعالم البارزة التي أرساها الإسلام، في النظر وفي التعامل مع هؤلاء الآخرين.

ولم يكن ذلك مجرد سماحة من رسول الإسلام “صلى الله عليه وسلم”، ولا محض سياسة في التعامل مع هؤلاء الآخرين، غير المسلمين.. وإنما كان – فوق ذلك وقبله – انطلاقاً من الإيمان الديني الإسلامي، الذي لا يكتمل إلا بالاعتراف بكل الشرائع والكتب التي يتعبد بها هؤلاء الآخرون.

 

فالمسلمون يتلون في قرآنهم الكريم قول الله سبحانه وتعالى وصفاً لهم: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”285″}(البقرة)، فهذا الوحي القرآني هو الفصل الخاتم والجامع والمفضّل في سلسلة الوحي الإلهي على مر تاريخ الرسالات والنبوات، وفيه يصلي المسلمون ويسلّمون على كل الأنبياء والمرسلين، ويعظّمون الهدى والنور الذي أنزل الله على موسى في التوراة، وعلى عيسى في الإنجيل، ويؤكدون الانتماء إلى ملة أبي الأنبياء إبراهيم.

لهذا الإيمان الإسلامي الذي أسس للسماحة الإسلامية كان احترام المسلمين لكل مقدسات أصحاب المقدسات الدينية، منذ اللحظة الأولى للقاء الإسلام بأهل الكتاب وطوال تاريخ الإسلام.

بل إن هذه القاعدة الإسلامية قد طبقها المسلمون مع أهل الديانات الوضعية ومع مقدساتهم من المجوس والبوذيين والصابئة، والهندوس، وغيرهم؛ انطلاقاً من حديث رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «سُنّوا فيهم سنة أهل الكتاب»(رواه الإمام مالك في «الموطأ» مع أهل الديانات السماوية).

وعندما جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة المنورة في عام الوفود سنة 10هـ/ 631م؛ فتح رسول الله “صلى الله عليه وسلم” مسجد النبوة لهم فصلوا فيه صلاة عيد الفصح الذي حان موعده وهم ضيوف على الرسول “صلى الله عليه وسلم”(1).

كما تم التقنين تفصيلياً لاحترام جميع المقدسات غير الإسلامية في الوثيقة الدستورية (العهد) التي جاء فيها: «ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملّتها، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وأعجمها، جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، ومن تبعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.. وأن أحرس دينهم وملتهم أينما كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملّتي.. لأني أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم».

لقد أعطى الدين الإسلامي غير المسلمين جميع حقوق المواطنة، مثلهم في ذلك مثل المواطنين المسلمين، مشترطاً عليهم ما هو مشروط على المسلمين: أن يكون الولاء الكامل والانتماء الخالص لدولة الإسلام – التي هي دولة الجميع – وبنص هذا «العهد».. عهد الرسول لنصارى نجران:

«واشترط عليهم أموراً يجب عليهم في دينهم التمسك والوفاء بما عاهدهم عليه منها: ألا يكون أحد منهم عيناً ولا رقيباً لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين في سره وعلانيته، ولا يأوي منازلهم عدوٌ للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا يزالون أوطانهم ولا ضياعهم ولا في شيء من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدون أحداً من أهل الحرب على المسلمين بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعونهم.. ولا يظهرون العدو على عورات المسلمين، ولا يخلون شيئاً من الواجب عليهم»(2).

ولقد بلغ احترام الإسلام وتقديسه للخصوصيات الدينية لغير المسلمين الحد الذي تجاوز «السماح»، بإقامة هذه الخصوصيات في الدولة الإسلامية، إلى «الأمر» بإقالة هذه الخصوصيات، ففي القرآن الكريم: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ }(المائدة:47)، وانطلاقاً من هذا خاطب الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة (35ق هـ – 30هـ/ 586 – 650م) «المقوقس»، عظيم القبط بمصر، عندما حمل إليه رسالة رسول الله “صلى الله عليه وسلم” سنة 7هـ/ 628م، فقال له: «… ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به»(3).

ولم تقف هذه السماحة عند دولة النبوة، بل كانت سمة عامة طوال تاريخ الإسلام؛ لأن الدولة الإسلامية، التي تحرس الدين، هي الدولة التي يسوسها الدين، ويعلمها القرآن الكريم أن التدافع والدفع ليس فقط لحماية المقدسات الإسلامية، وإنما لحماية جميع دور العبادة الخاصة بكل أصحاب الشرائع الدينية: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}(الحج:40).

فعندما فتح المسلمون القدس سنة 15هـ/ 635م، أعطى الفاروق عمر بن الخطاب (40 ق هـ – 23هـ/ 584 – 644م) أهل القدس من النصارى «العهد العمري» الذي ضمن لهم: «الأمان لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، ولا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنْتقصُ من حيّزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، لا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم…»(4).

وعندما فتح المسلمون مصر بقيادة عمرو بن العاص (50 ق هـ – 43هـ/ 574 – 664م)، لم يقف الفتح الإسلامي فقط عند تحرير الأرض من الاستعمار الروماني الذي امتد عشرة قرون، وتحرير الضمير الديني من القهر الروماني البيزنطي.. وإنما امتد هذا التحرير إلى حيث حرر المسلمون أيضاً كنائس النصرانية الأرثوذكسية التي كانت مغتصبة من قبل الرومان ومذهبهم الملكاني، حيث حرر المسلمون هذه الكنائس، لا ليجعلوها مساجد إسلامية، وإنما ليعيدوها إلى أقباط مصر يمارسون فيها عباداتهم النصرانية.

ويومئذ أعاد المسلمون البطرك القبطي «بنيامين» (39هـ/ 659م) بعد أن ظل هارباً من الرومان ثلاثة عشر عاماً، فتسلم كنائسه وأديرته التي حررها الإسلام، وبعبارة الأسقف القبطي «يوحنا النقيوسي» المعاصر لهذا الفتح والتحرير:

«… ودخل الأنبا بنيامين بطريرك المصريين مدينة الإسكندرية، وسار إلى كنائسه، وزارها كلها، وكان كل الناس يقولون: هذا النفي، وانتصار الإسلام، كان بسبب ظلم هرقل الملك (610 – 641م) وبسبب اضطهاد الرومان للأرثوذكسيين، وهلك الروم لهذا السبب، وساد المسلمون مصر، ولم يأخذ عمرو بن العاص شيئاً من مال الكنائس، وحافظ عليها طوال الأيام».. وفي مهرجان الفرح هذا بتحرير الإسلام لكنائس مصر، وإعادتها لأصحابها أعلن البطرك بنيامين أن الإسلام قد حقق أحلامه، فقال: «لقد وجدت في إسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما، بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون»(5).

ولم تقف هذه السماحة الإسلامية، التي تقدس مقدسات الآخرين، عند عهد الصحابة والخلافة الراشدة، وإنما ظلت عقيدة إسلامية يضعها المسلمون في الممارسة والتطبيق، حتى لقد شهد رجل الدين القطبي «ميخائيل السرياني» بعد قرون من الفتح الإسلامي قائلاً: «لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة، واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناء إسماعيل لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية، وعشنا في سلام»(6).

وإذا كان هذا هو موقف الإسلام؛ العقدي.. والفقهي.. والعملي، من مقدسات الآخرين، فماذا كان موقف الغرب؛ الكنسي.. والسياسي، من مقدسات الإسلام، ومساجد المسلمين، إبان فترات الاحتكاك بين الغرب وعالم الإسلام؟

إن القدس، التي جعلها الإسلام حرماً آمناً لكل أصحاب الديانات، عندما احتلها الصليبيون عام 492م، قد أبادوا كل من وجدوه فيها من المسلمين، ومن اليهود أيضاً، أبادوا سبعين ألفاً، في مجزرة وحشية ورهيبة استمرت سبعة أيام.

وإذا كانوا لم يرحموا البشر الذين استمر ذبحهم لهم «حتى كلّت أيديهم من الذبح والقتل»! فإنهم لم يحترموا المقدسات.. فمسجد عمر بن الخطاب.. عمر الذي سبق وأعطى الأمان لمقدساتهم، واحترم خصوصياتها قد احتمى بمسجده (مسجد قبة الصخرة) جمهور من المسلمين الهاربين من القتل والذبح والحرق، فاقتحمه الصليبيون، وذبحوا جميع من فيه. والمؤرخون يتفقون على أن المسلمين الذين ذُبحوا داخل أورشليم (القدس) بلغوا سبعين ألفاً، ثم إن اليهود قد كانوا داخلين في عدد المحكوم عليهم بالقتل، لأن ألفاظ الحكم كانت بالموت ضد غير المؤمنين، بدون تمييز المسلم من اليهودي.

وحسب تقرير «رايموند ده أجلاس»: فقد طاف الجامع من الدماء حتى أنه تحت القناطر التي عند بابه احتقن الدم وعلا إلى حدّ الرُّكب، بل إلى لُـجم الخيل.. وقال «روبارتوس» الراهب: إن جامع عمر قد استوعب من الدم المحتقن فيه كفي بحر متموج، وذلك مما فتكت به سيوف الجيوش الصليبية  رقاب المسلمين.

دماء المغلوبين

كانت المذابح رهيبة، جرت دماء المغلوبين في شوارع المدينة، حتى ارتفع مستوى الدم ووصل إلى رُكب من سار فيها، ولما حل المساء، اندفع الصليبيون يبكون من فرط الضحك! بعد أن أتوا على نبيذ المعاصر إلى كنيسة القيامة، ووضعوا أكفهم الغارقة في الدماء على جدرانها، ورددوا الصلوات!

لقد استحال منظر أورشليم، بغتة، إلى مشهد جديد، لأنها في أيام قليلة، انقلبت من ديانة إلى أخرى، ومن شرائع إلى غيرها، ومن مراسيم وعوائد إلى أخرى، ومن سكان إلى غيرهم، فالغالبون أضحوا أغنياء بالغنائم التي امتلكوها بين أيديهم، فالقائد «تنكريد» قد امتلك جميع الغنى الذي وجد في جامع عمر، وهذه قد كانت عظيمة المقدار والقيمة، حتى أنه لم تكفها ست عربات كبيرة لنقلها، وأنه قد استمر مدة يومين في إخراجها من ذلك الجامع»(7)!

ولم يكتفِ الصليبيون بهذا الذي صنعوا، وإنما قاموا باحتكار القدس لهم، دون كل أصحاب الديانات والمقدسات.. فحولوا المسجد الأقصى إلى كنيسة لاتينية، وجعلوا جزءاً منه اصطبلاً للخيول! بل إن الاستهانة والتدنيس والتدمير، التي ألحقها الصليبيون بالمقدسات، لم تقف عند المقدسات الإسلامية، واليهودية، بمدينة القدس، وإنما عمت مقدسات الكنيسة الشرقية في القسطنطينية! فعندما احتلوها عام 1203م:

«أخذوا يعيثون فيها فساداً كأنهم جراد منتشر، فانقضوا على المدينة الغنيمة في أسبوع عيد الفصح، وأتوا فيها من ضروب السلب والنهب ما لم تشهده روما نفسها على أيدي الوندال أو القوط، ووزع الأشراف اللاتين قصور المدينة فيما بينهم، واستولوا على ما وجدوه فيها من الكنوز، واقتحم الجنود البيوت، والكنائس، والحوانيت، واستولوا على كل ما راقهم مما فيها، ولم يكتفوا بتجريد الكنائس مما تجمع فيها خلال ألف عام من الذهب والفضة والجواهر، بل جردوها فوق ذلك من المخلفات المقدسة، ثم بيعت هذه المخلفات بعدئذ بأوروبا الغربية بأثمان غالية، وعانت كنيسة أيا صوفيا من النهب ما لم تعانه فيما بعد على يد الأتراك عام 1453م، فقد قطع مذبحها العظيم تقطيعاً لتوزع فضته وذهبه، وامتدت أيديهم إلى التماثيل، والأقمشة، والجواهر ونقلت الجياد البرونزية الأربعة التي كانت تطل على المدينة اليونانية، وجُمّل بها ميدان القديس مرقس بروما، وكانت هذه السرقات المنظمة مصدر تسعة أعشار مجموعات الفنون والجواهر التي امتازت بها كنوز كنيسة القديس مرقس عن سائر الكنائس»(8).

في العصر الحديث

لم تقف هذه الجرائم الوحشية التي ارتكبها الغرب الاستعماري في حق المقدسات الدينية عند عصوره الوسطى والمظلمة، بل لازمت غزوات هذا الغرب الاستعماري حتى في عصره الحديث والاستنارة والتنوير!

«نابليون بونابرت» (1769 – 1821م) إبان غزوته لمصر (1213هـ/ 1798م) اقتحمت جيوشه جامع الأزهر الشريف، حتى لقد ارتكبوا فيه جرائم القتل والنهب والسرقة وتمزيق المصاحف الشريفة وكتب الحديث النبوي الشريف.. بل لقد بالوا وتغوّطوا فيه!

ولقد تحدث مؤرخ ذلك العصر عبدالرحمن الجبرتي (1167 – 1237هـ/ 1754 – 1822م) عن هذه الجريمة، فقال:

«لقد دخل أولئك الوعول (التيوس!) إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول، وداس فيه المشاة بالنعالات، وهم يحملون السلاح والبندقيات، وتفرقوا في صحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا في الأروقة والبحرات، وكسروا القناديل السهَّارات، وهشموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، كل من صادفوه به عرّوه، ومن ثيابه أخرجوه، ووجدوا في بعض الأروقة إنساناً فذبحوه، ومن الحياة أعدموه، وفعلوا بالجامع الأزهر ما ليس عليهم بمستنكر، لأنهم أعداء الدين، وأخصام متغلبون، وغرماء متشمتون، وضباع متكالبون، وأجناس متباينون، وأشكال متعاندون، وأعطى تلك الليلة جيش الرحمن، فسحة لجيش الشيطان»(9).

جريمة الغرب مع الأزهر

هكذا صنع جيش الحملة الفرنسية، الذي كان يرفع أعلام الثورة الفرنسية، وشعارات الحرية والإخاء والمساواة ببيت من بيوت الله، وجامعة هي أعرق جامعات الإسلام، وصدق الجبرتي عندما وصفه بأنه «جيش الشيطان»، الذي حل محل «جيش الرحمن»!

وتتكرر جريمة الغرب الاستعماري مع الأزهر الشريف مرة أخرى على أيدي المستعمرين الإنجليز، إبان ثورة الشعب المصري عام 1919م، فيحاولون إغلاقه في 2 أبريل عام 1919م، ولكن شيخه الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوي (1263 – 1346هـ/ 1847 – 1927م) يرفض ذلك(10)، لكنهم يعودون فيقتحمونه ويدوسونه في 11 ديسمبر 1919م.

يتحدث مؤرخ الوطنية المصري عبدالرحمن الرافعي (1306 – 1386هـ/ 1889 – 1966م) عن هذه الجريمة في حق المقدسات الإسلامية، فيقول:

«لقد وقع في يوم 11 ديسمبر 1919م/ 18 ربيع الأول سنة 1338هـ، حادث اهتزت له أرجاء القاهرة، وأثار عاصفة من السخط والاستنكار في أنحاء البلاد، وهو اقتحام الجنود الإنجليزية الجامع الأزهر، لقد دخلوه بنعالهم وأسلحتهم مطاردين للمتظاهرين، واعتدوا على من صادفوهم بالضرب والإيذاء، فحدث هرج ومرج في الجامع، واقتحم الجنود مكاتب الإدارة، وحاولوا كسر الأبواب ففزع الموظفون، وحدثت ضجة كبيرة داخل الجامع وخارجه».

ولقد احتج على هذه الفعلة الشنيعة – فعلة «اقتحام الجنود الإنجليز بنعالهم وعصيهم هذا المعهد الإسلامي المقدس والجامعة الإسلامية الكبرى، التي يؤمها طلاب العلوم من جميع الأقطار» – احتجوا على هذه البربرية التي تنتهك حرمات المقدسات، ووقَّع على هذا الاحتجاج أكثر من مائة من كبار علماء الأزهر الشريف(11).

ولا تنتهي فصول هذه الإهانات والاستهانات بمقدسات الإسلام والمسلمين، من قبل المستعمرين الغربيين.. ففي أحدث فصولها، وإبان الهجمة البربرية الأمريكية على مدينة «الفالوجة» العراقية في أكتوبر – نوفمبر 2004م، وهي مدينة صغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها الثلاثمائة ألف نسمة، ولا تزيد مساحتها على أربعة كيلومترات في الطول والعرض، دمر الجيش الأمريكي أغلب مساجدها، مرتكباً فيها جرائم الحرب والعداء للإنسانية!

فهل يكون هذا الفصل – فصل الخزي والعار الأمريكي بالعراق – هو خاتمة هذه الفصول، التي توالت على مر تاريخ الاستعمار الغربي للشرق الإسلامي؟! وهل يظل الضمير الغربي صامتاً – إن لم نقل ميتاً – إزاء الانتهاكات لحركات المقدسات، طالما أن هذه المقدسات خاصة بالإسلام والمسلمين؟!

 أما فصول الدنس الذي ألحقته – وتلحقه – الصهيونية بالمقدسات الإسلامية على أرض فلسطين.. فإنها بحاجة إلى حديث خاص، يجلي هذه الصفحة من صفحات الخزي والعار التي تتسابق فيها الصهيونية اليهودية مع الصليبية الغربية في هذا المضمار!

 

الهوامش

(1) ابن القيم: «زاد المعاد من هدي خير العباد»، ج3، ص 549، 550، تحقيق: شعيب الأرنؤوطي، عبدالقادر الأرنؤوطي، طبعة بيروت، سنة 7991م.

(2) د. محمد حميد الله، محقق: «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة» ص 111 – 128، طبعة القاهرة، سنة 1956م.

(3) ابن عبدالحكم: «فتوح مصر وأخبارها»، ص 46 طبعة ليدن سنة 1920م.

(4) «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة»، ص 345، 346.

(5) «تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي»، ترجمة ودراسة: د. عمر صابر عبدالجليل، طبعة القاهرة عام 2000م.

(6) المرجع السابق، ص 26.

(7) مكسيموس مونروند: «تاريخ الحروب المقدسة في الشرق، المدعوة رب الصليب»، المجلد الأول، ص 172، 176، ترجمة مكسيموس مظلوم، طبعة أورشليم عام 1965م.

(8) ول ديورانت «قصة الحضارة» المجلد الرابع، الجزء الأول، ص 46 -53، طبعة القاهرة.

(9) الجبرتي: «مظهر التقديس بزوالة دولة الفرنسيس»، ص 72، تحقيق: د. عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم، طبعة القاهرة، سنة 1998م.

(10) عبدالرحمن الفقي: «ثورة سنة 1919م، ج1، ص 175، طبعة دار الشعب، القاهرة.

(11) المصدر السابق، ص 76 – 78. 

Exit mobile version