أنا وهي ورمضان…السفر

أسفارنا في هذه الحياة كثيرة ومتعددة

أنا..

 قال الإمام الشافعي:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفريج همّ واكتساب معيشة

وعلم وآداب وصحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة

وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد

فموت الفتى خير له من قيامه

بدار هوان بين واشٍ وحاسد

يسافر حول العالم أكثر من ألف مليون شخص سنوياً (حسب تقارير منظمة السياحة العالمية)، وتتعدد مقاصدهم وأسبابهم ونياتهم في السفر.

والمسلم في رمضان لا يسافر إلا في سفر طاعة مثل العمرة أو صلة الرحم أو زيارة مريض أو طلب علم أو طلب أمن أو شفاء، أو سفر مباح مثل التجارة والسياحة البريئة والصيد.

وقد رخص الله للمسافر قصر الصلاة الرباعية والجمع بين الصلاتين، وزيادة مدة المسح على الخفين، وعدم وجوب صلاة الجمعة، والفطر في رمضان؛ {  فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }(البقرة:184).

وعن جابر قال: كان رسول الله “صلى الله عليه وسلم” في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلَّ عليه فقال: «ما له؟»، قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «ليس من البر أن تصوموا في السفر»(رواه مسلم)، وزاد في رواية أخرى: «عليكم برخصة الله الذي رخص لكم».

يا زوجتي، حين أتذكر سفرنا الطويل، أتذكر معه أولئك المهجرين من المستضعفين، من الولدان والرجال والنساء، من أوطانهم قسراً.. كيف يصوم أهل سورية الكرام الذين تغربوا في سفر طويل وقد فقدوا أحبابهم وأهليهم وبيوتهم وأموالهم وذكرياتهم؟ طعام قليل، وماء غائر، وبيت لا يقي.. كيف سيكون صيامهم، أم هم في صوم دائم بلا إرادة؟!

وكيف نفطر على ما لذ وطاب وهم لا يجدون شربة ماء! أليس  هؤلاء هم «ابن السبيل» الذين انقطعوا عن وطنهم وأموالهم فتجوز لهم الزكاة؟

أتذكر السفر الآخر، سفرنا إلى الآخرة.. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله “صلى الله عليه وسلم” بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك»(رواه البخاري).

فالدنيا لمن تأمل ليست دار «إقامة»، ولئن كان ظاهرها يوحي بجمالها إلا أنها فانية، كالزهرة النضرة التي سرعان ما تذبل.

ولا يستطيع المسافر أن يصل بغيته ويصل إلى هدفه دون أن يهلك إلا إذا أعد زاداً للسفر من راحلة وطعام وشراب ومال وملبس وهادٍ، فالمسافر للآخرة زاده التقوى، والصيام يؤدي إلى ذلك! قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”183″}(البقرة).

من خلال عملي وعملك نرى أن هناك أُسراً يسافر الزوج أو الزوجة ويبقى أحدهما بعيداً عن سكنه في رمضان، مثل من يعتمرون في رمضان دون نصفهم الآخر!

ويحضرني الحديث في البخاري: «السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله»، والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة في ترك المألوف، وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة واستحباب استعجال الرجوع، لما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة. (فتح الباري باختصار).

والسفر بالوسائل العصرية – كما يقول العلامة القرضاوي – لا يسقط الرخص الشرعية، فالسفر بالقطارات والسفن والطائرات ونحوها من الوسائل المريحة لا تسقط الرخصة، فهي صدقة تصدق الله بها علينا فلا يليق بنا أن نرفضها.

وقد تفلسف بعض الناس وزعموا أن السفر الآن غير السفر في الماضي، ونسي هؤلاء أن الأحكام الثابتة وخصوصاً في العبادات لا تبطل بالرأي المحمود.

وقد ربطت نصوص الشرع رخصة الإفطار بأمر ظاهر منضبط وهو السفر ولم تربطه بالمشقة، على أن السفر – أياً كانت وسيلته – لا يخلو من مشقة، والإنسان إذا لم يكن في داره لا يخلو من قلق ومعاناة، وللسفر في عصرنا متاعب أخرى – عصبية ونفسية – يعرفها الذين يعانون من الأسفار.

ومن فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: «يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادراً على الصيام أو عاجزاً، وسواء شق عليه الصيام أو لم يشق، بحيث لو كان مسافراً في الظل والماء ومعه من يخدمه، جاز له الفطر والقصر».

ما أرحم الإسلام وأعدله!

فلنقم معاً، ولنسافر معاً، ولنَصُم معاً، ولنفطر معاً!

هي..

 قال زين العابدين علي بن الحسين:

لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّأمِ واليَمَنِ

إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكفَنِ

إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتـِهِ على

الْمُقيمينَ في الأَوطــانِ والسَّكَنِ

سَفَري بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني

وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والمـوتُ يَطلُبُنـي

وَلي بَقايــا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها

الله يَعْلَمُهــا في السِّرِ والعَلَنِ

حينما أتفكر يا زوجي في أمر الدنيا وساعاتها وهي تجري بنا، أرى الوقت يتفلت من بين أيدينا من حيث نشعر ولا نشعر، أجدني أعيش إحساس المسافر الذي يستقل حافلة أو قطاراً فهو يسير به ومعه، طال ذاك السفر أم قصر، يسرع به تارة ويبطئ أخرى، لكنه في النهاية حتماً سيقف في محطة ما؛ لينزل منه ويستقله غيره بدلاً عنه.

أسفارنا في هذه الحياة كثيرة ومتعددة، لكن مجموعها في النهاية هو ذاك السفر اليقين إلى الله رب العالمين.. إلى الدار الآخرة والمنزل الأول حيث كان أبونا آدم وأمنا حواء.

حينما أتذكر السفر أشعر بتبعاته ومشقته وضرورة التجهز له، فأشتري الحقائب المناسبة، وأعد الملابس التي نحتاجها حسب حرارة الجو والمكان الذي سنسافر إليه، كما أشرع في تجهيز الأدوية الخاصة بنا، للتداوي والاستشفاء أو للاحتياط والأخذ بدفع البلاء، ولا أنسى إحضار بعض الهدايا للأهل والأحباب، أبدأ ذلك قبل سفرنا بوقت كافٍ حتى لا أفاجأ بتراكم الواجبات مع قصر الأوقات وقرب موعد السفر.. ولا يفوتني مع هذا وذاك إحضار ميزان لوزن الحقائب حتى لا أقع في المخالفة فأغرم الكثير من الجنيهات! فإذ كان هذا في سفر الدنيا حيث الرجعة للتزود وشراء ما ينقص، أفلا يكون استعدادنا لسفر الآخرة هو الاستعداد الأكبر والأهم.

ينتابني القلق مع كل رحلة سفر، ومع تجهيز حقائبنا، أتذكر حقائب أعمالنا، هل سنبلغ محطة الوصول بها وقد امتلأت بالصالحات كما هي مكتظة الآن بالملابس والحاجات، أم أنها ستثقل بالأوزار؟ وهل نعد لقلوبنا الدواء خشية إصابتها بالداء كما نفعل مع دواء الأبدان، فأدواء القلوب أعظم وهي بالإنسان أفتك.

أما عن الوزن فحدث ولا حرج، فإنني أبحث عن أخَفّ حقيبة فارغة حتى أملأها بأكبر وزن من أغراض السفر وما أكثرها! ومع ذلك أضطر إلى إخراج الزائد منها عن الوزن المقرر، فهل نزيد من أعمالنا الصالحة حتى يثقل ميزان أعمالنا، وقد سمح لنا فيها بما نشتهي من وزن وزيادة؟

ويأتي موسم السفر يا زوجي في رمضان كما يأتي في غيره، لكن مشقة السفر إلى الله في رمضان تسهل والوصول إليه يحلو، فالسفر فيه له مذاق آخر وطعم أحلى، وإذا كان السفر إلى الأوطان أكثر أمناً واطمئناناً في شهر الأمن إذ الناس صائمون والجرائم تقل والمنكرات تخجل أن تظهر إلا قليلاً، وهذا من بركة رمضان، فقد سلسلت الشياطين، وخفت صوتها مع صوت السلاسل، وانشغل الناس بالصيام والقيام وما بينهما، وتهيأت الأجواء لتجهيز زاد السفر إلى الله عز وجل، وملء حقائب الإيمان بالأعمال المناسبة لرحلة العودة إليه من قلوب عامرة بتوحيده وحبه، وأنفس طاهرة من الأحقاد والأدران، وألسنة لربها ذاكرة، وأعين من خشيته باكية، وجوارح صائمة إلا عن الخير، وأبدان صابرة في كل حال، فإن الثبات على ذلك واجب حتى الممات، وبذا تمتلئ الحقائب ويكفي الزاد للرحلة دونما نقص أو خسران.

ومع كل سفر أشعر بالقلق وعدم الاستقرار، وأحمد الله تعالى على رخصة الفطر وجمع الصلاة وقصرها، وأجد فيها راحة وتيسيراً، فأعيش سماحة الدين الحق وأشكر الله تعالى.

وفي سفرنا نتلاقى مع أحبابنا ونجتمع مع إخوتنا وأخواتنا فتجتمع الأسرة من جديد بعد فراق واشتياق، ومع تلاقي الأحباب وفرحة اللقاء أتذكّر لقاءنا -برحمة الله تعالى – في الجنة، وأتوق شوقاً للقاء الأحبة فأتمثل قول القائل: «غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه».

Exit mobile version