أنا … وهي .. ورمضان

الشيخوخة

أنا..

يزداد كبار السن في العالم، وبعد ثلاثين سنة يُتوقع أن يصل عدد ما فوق الستين في العالم إلى مليارين (ألفي مليون) (منظمة الصحة العالمية عام 2012م).

بركة وخبرة وجذور، أم «موضة قديمة» و «عبء على الأولاد»، و«إيدك والقبر»؟!

يأتي شهر رمضان بعبق التاريخ والزمن الجميل والذكريات القديمة، وطوبى لمن بلغ والداه أحدهما أو كلاهما، الكبر عنده في رمضان فأحسن إليهما.

وتشعر أن الأب والأم والجدين في رمضان قد تجدد فيهم دم الآباء الأقدمين فصاروا أكثر قيمة وأحلى نضارة، نتذكر بهم ميراث الإيمان، ومدن الفتح، وصهيل الخيول العربية الأصيلة!

فقهوا الدرس.. فصار رمضان أعمق طعماً وأعظم وقتاً.. تحيط بهم هالات السكينة بالذكر والتسبيح وقراءة القرآن وحديث للنفس وحوار مع الروح!

تحكي تجاعيد السنين خطوط جوعهم وسهرهم وصبرهم وعرقهم وكدهم.. فالصوم لديهم ليس بأمر مستغرب!

ماذا تشعرين يا زوجتي، ورمضان يذكرنا بمرور السنين سريعة، إذا «كبرنا» وكبرت معنا مشكلات الشيخوخة؟ هل «سنصغر» في أعين من حولنا من الذرية، أم سيكون مصيرنا ركناً في بيت للمسنين؟

أدعو الله يا زوجتي في قيام رمضان «ألا أرد إلى أرذل العمر»!

وقد ثبت أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” كان يقول دبر كل صلاة: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر»(رواه البخاري)، والمراد بأرذل العمر هو بلوغ الهرم والخرف، أو هو حالة الهرم والضعف عن أداء الف رائض وعن خدمة نفسه فيكون كَلاً على أهله ثقيلاً بينهم يتمنون موته.  

ومن رحمة الإسلام للشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذين يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة أنهما يجوز لهما أن يفطرا في رمضان وعليهما فدية طعام مسكين عن كل يوم، قال ابن عباس: «رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه»(الحاكم).

كان لزاماً لمن ذكر الشيخوخة أن يتذكر أبا أيوب الأنصاري فهو لم يتخلف عن غزوة غزاها المسلمون في عهد رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، وكانت آخر غزواته حين جهز معاوية جيشاً بقيادة ابنه يزيد لفتح القسطنطينية، وكان أبو أيوب وقتها بلغ عمره ثمانين سنة! وقد طلب من يزيد أن يحمل جثمانه فوق فرسه ويمضي به أطول مسافة ممكنة في أرض العدو، وهناك يدفنه، وقد دفن رضي الله عنه مع سور المدينة ليكون صحابياً في أوروبا!

«شبابك قبل هرمك».. ولعل الشباب حينما يرون الكبار، يتذكرون قول النبي “صلى الله عليه وسلم”: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك..»، حيث يكون الشباب هو زمن العمل؛ لأنه فترة القوة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، فيبادرون بالطاعات خاصة في رمضان قبل فوات الأوان.

على المسلم أن «يوقِّر الكبير» ويحترم المسنين، ولا يهمشهم المجتمع، بل يوفر لهم سبل النشاط والرعاية، يعجبني هنا في بريطانيا كون الدواء يقدم بالمجان لكل من بلغ سن الستين، وهو أمر نحن أولى به!

وفي رمضان.. حبذا لو وسع المسلم على كبار السن من أقربائه وأصدقائه وجيرانه، أو أصدقاء والديه، يوسع عليهم بالسؤال والابتسام والهدايا والرحمات، وفي الحديث: «إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه»(رواه مسلم).

وقد سأل رجل النبي “صلى الله عليه وسلم” فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: «نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»(رواه أبو داود).

زوجتي.. حينما يوشك رمضان على الانتهاء يذكرني ذلك بالشيخوخة وقرب انتهاء الأجل.. قيل: لما حضرت محمد بن سيرين الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: «أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية»، والله سبحانه وتعالى قد قال عن أصحاب الجنة: «كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية».

 هي..  

إن الجذور – يا زوجي – لا غنى عنها مهما كبرت، وإن الأشجار التي تفتقد جذورها تقع وتذهب بها الريح ولا يقوم لها قائمة، فالجذور القوية الثابتة في العمق منتجة ومثمرة.

وما أجمل أن يكون كبار السن بالنسبة لذويهم بمثابة تلك الجذور، فهم وإن تقدمت أعمارهم قد قاموا بدورهم الكبير من حفظ النسل وبقائه، وإعمار الكون وبث الخير ونشره لا سيما مع صلاحهم وتقواهم.

بَيْدَ أن بعض الشباب لا يعي ذلك الدور العظيم الذي تكبده آباؤهم وأجدادهم حتى فنوا أعمارهم في سبيل تحقيقه في ذوات فلذات أكبادهم، فتعمقت جذورهم في الأرض وغاصت فيها ومر عليها الزمان وهي في كدّ ونصب وعناء حتى كادت تتفتت وتفنى من أجلهم!

أعجب حين أسمع عمن يُفضل الهرب من والديه فيطير عنهما وقد بلغا من الكبر عتياً، وقد أتيحت له فرصة القرب منهما فابتعد! وقد جاء رجلٌ إلى النبيِّ “صلى الله عليه وسلم” فاستأذنهُ في الجهاد، فقال: «أحَيٌّ والِداكَ»، قال: نعم، قال: «فيهما فجاهد»(رواه البخاري)، وجاءه آخر يُبايِعُه على الهجرةِ، وترك أبويْهِ يبكيانِ، فقال: «فارجعْ إليهِما وأضْحِكْهُمَا كما أبكيْتَهُمَا»(رواه أحمد).

ومع مرور الوقت أفكر ملياً في ذلك الزمن القادم، زمن الشيخوخة – إذا قدره الله علينا – وأستشعر عظمة ديننا وقد أوصى بالكبير وصيته بالصغير، معاملة وبراً وتوقيراً وإجلالاً، لا سخرية وإهمالاً وتقصيراً وإذلالاً، فقال النَّبيَّ “صلى الله عليه وسلم”: «من إجلالِ اللهِ على العبادِ إكرامُ ذي الشَّيْبِ المسلمِ..»(رواه البخاري)، وجاءَه شيخٌ يريدُه فأبطأ القومُ أن يوسِّعوا لَه فقالَ: «ليسَ منَّا من لم يرحَمْ صغيرَنا ولم يوقر كبيرَنا»(رواه الترمذي).

إن فترة الشيخوخة يا زوجي مع ما فيها من ضعف فإن فيها العطايا والمنح، وذلك من كرم الله علينا، ألم يقل النبي “صلى الله عليه وسلم”: «من شاب شيبةً في الإسلامِ كانت له نوراً يومَ القيامةِ»(صححه ابن العربي)، وقال: «لا تنتِفوا الشَّيبَ؛ فإنه نورٌ يومَ القيامةِ، من شاب شيبةً؛ كتب اللهُ له بها حسنةً، وحطَّ عنه بها خطيئةً، ورفع له بها درجةً»(صحيح الترغيب)، وقال: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس، من طال عمره وساء عمله»(صححه السيوطي).

مُخطئ من يظن يوماً أن من بلغ من الناس سن التقاعد قد انتهى عمله وانقضت رسالته وصار صفراً، أو أنه عضو زائد على المجتمع فهو عالة وعبء عليه، ولو أنصفنا لقلنا لهؤلاء الكبار: إن بكم نمت المجتمعات وبجهودكم تقدمت، وعلى أيديكم تعلمنا ومن علمكم نهلنا ومن خبرتكم مازلنا نرتشف وننهل، أنتم لنا الآباء والأجداد والجذور القوية التي تثبتنا ونتقوى بها، وبصمتكم في حياتنا تتجدد مع الأجيال بقدر قوتها ووضوحها، وأنتم بخبرتكم وخلاصة تجاربكم في مدرسة الحياة تهدوننا كتاباً مفتوحاً جاهزاً للاستفادة مما فيه.

ولعلنا نقول للشباب: إياكم أن يكون نصيب والديكم منكم بقعة في دار للمسنين، أو منزلاً بعيداً منعزلاً يعانون فيه الوحدة، إنهم كالفاكهة المولية التي تنتهي بانتهاء موسمها فاغتنموا وجودها بين أيديكم، ولا تحرموهم لذة القرب منكم ومن أولادكم، لا تبخلوا عليهم بمشاعر الرحمة والحب والرعاية والولاء، أشركوهم في بعض أموركم وخذوا رأيهم استئناساً وإيناساً لهم وإشعاراً بقيمتهم وتواجدهم، فهذا ما تحتاجه تلك المرحلة من حياتهم أكثر من حاجتهم للمال والطعام، فقد كانوا يحتاجون المال من أجلكم أنتم، وقد استغنيم والحمد لله.

فلا تضيعوا ربيع أعماركم في الملهيات وسفاسف الأمور، فالنبي “صلى الله عليه وسلم” يقول: «لا تَزُولُ قَدَمَا ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ مِن عندِ ربِّه، حتى يُسْأَلَ عن خَمْسٍ: عن عُمُرِه فِيمَ أَفْنَاه؟ وعن شبابِه فِيمَ أَبْلاه؟ وعن مالِه مِن أين اكتسبه وفِيمَ أنفقه؟ وماذا عَمِل فيما عَلِم؟»(صحيح الجامع)، انظروا إلى رصيدكم من الأعمال الصالحة والنافعة تجدوا ثوابها إذا ما عجزتم عن أدائها رغماً عنكم.

كما ينبغي على الأبناء والأسر والمجتمع الاهتمام بتلك الشريحة من الناس – كبار السن – وأن يتبنوا المشاريع التي تخدمهم وتعطيهم الإحساس بأهميتهم، ولا سيما في هذا الزمان الذي ضاقت فيه بعض النفوس بضم الوالدين إلى الأسرة حال كبرهما ووحدتهما بغض النظر عن الأسباب، أو رفض الوالدين أيضاً ذلك الجمع لشعورهما أنهما عبء على الأولاد وأزواجهم.

أتذكر يا زوجي أبي وأمي وقد تحملا في تربيتي ما تحملا فأدعو لهما، ولا أنسى جلسات جدي وجدتي، والقصص الجميلة الإيمانية التي حفرت في عقلي ونقشت على قلبي، فأترحم على تلك الليالي، وأتمناها أن تعود، فما أجمل جلسة أسرية حانية تضم الجذور والفروع والثمار البشرية تتناجى تحت ضوء القمر أو على ضوء المصباح تحكي سالف عهدها وتسرد ذكرياتها وتمنح الخبرة وتبث الأمل وتعيد للأسرة بريقها المفقود.

Exit mobile version