معينات فهم القرآن (3 من 3)

إن استظهار القرآن واستحضاره يجعل العقل أقدر على تفهم قضاياه

وهذا أيضاً من الأبواب التي تمهد للفهم وتعين عليه؛ فإن استظهار القرآن واستحضاره يجعل العقل أقدر على تفهم قضاياه،  والربط بين محاوره، ولعل لمحة من لمحات الإضاءة،  أو إلماعة من إلماعات التوفيق ساعة مراجعة أو استذكار رأي لا تكون إلا كصيد الخاطر،  أو طير سارح،  يحتاج إلى ربط وتقييد،  فهذا الكتاب لا تنتهي عجائبه،  ولا تبلى على الزمان جدته،  ومن الأمور المجربة أن المرء يكون قد تلا الآية أكثر من مرة ويتلوها من جديد فيتبين له معنى ما كان قد وقف عليه من قبل.. إن الاتصال الدائم بالقرآن: تلاوة،  وترتيلاً،  ودراسة، وحفظاً، من الأمور التي لابد للمسلم من أن ينصب بها، وحفظ الداعية خاصة للقرآن والاتصال الدائم به يعينه في تفسيره القرآن بالقرآن،  ولا تسد المعاجم الموجودة مسد الحفظ أبداً.

إن إمعان النظر في هذا الكتاب الكريم يكشف كل يوم عن كل جديد، وسيظل معطاءً زاخراً ما توالى الجديدان، وتتابع الحدثان، فكل عصر من العصور يضيف إلى فهوم السابقين فهماً جديداً، وكل لمسة من مفسر تضيف جديداً، وتفيد حميداً من هذا الكنز الذي لا يذهب رواؤه، والمعين الذي لا ينضب ماؤه، وهي معجزة من معجزات الله – تعالى – للبشر على مر الأيام، وتتابع السنين.

صلاة الليل

قيام الليل بالقرآن من أقوى الطرق الموصلة إلى فهمه ومعرفته، ولم لا؟ والليل باب الخشوع والخضوع، فيه يستأنس المحبون بمحبوبهم، حين يستوحشون من زحمة الدنيا في نهارهم، حتى ما يجدون راحة أنس، ولا حلاوة مناجاة، إلا في تلكم الأوقات التي لا أنيس فيها ولا جليس، ولا رقيب ولا حسيب، إلا علام الغيوب – سبحانه وتعالى – فيفرون من زحمة الدنيا، وصخب الحياة، وضجيج الناس، وتكالبهم على الحياة، ومتعها، وزخارفها، إلى هدأة الليل وسكونه؛ فإنه للصوت أسمع، وللقلب أخشع، وللعين أدمع، وإلى ستر العيوب عن الخلق أقرب.

ولأمرٍ ما كان قيام الليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة الأولى فرضاً، حتى نزل التخفيف عن الأمة، وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً إلى أن مات، ولك أن تعيش قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً {2} نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً {4} إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً {6}) (المزمل).

«فإن مغالبة هتاف النوم، وهتاف وجاذبية الفراش، بعد كد النهار، أشد وطئاً، وأجهد للبدن، ولكنه إعلان لسيطرة الروح، واستجابة لدعوة الله – تعالى – وإيثار للأنس به، ومن ثم فإنها أقوم قيلاً؛ لأن للذكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها، وإنها لتسكب في القلب أنساً، وراحة، وشفافية، ونوراً، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره، والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه، وما يوقع عليه وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحاً، واستعداداً، وتهيئاً، وأي الأسباب أعلق به، وأشد تأثيراً فيه، والله – تعالى- وهو يعد عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لتلقي القول الثقيل، والنهوض بالعبء الجسيم، اختار له قيام الليل؛ لأن ناشئة الليل هي أشد وطئاً، وأقوم قيلاً، ولأن له في النهار مشاغله ونشاطه، الذي يستغرق كثيراً من الطاقة والالتفات»(1).

«وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله – تعالي -: «وَأَقْوَمُ قِيلاً»، قال: هو أجدر أن يفهمه القرآن، ويقول ابن حجر- رحمه الله – عن مدارسة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان: المقصود من التلاوة الحضور والفهم؛ لأن الليل مظنة ذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية»(2).

وهناك من الشواهد ما يدل على اقتران قراءة القرآن بالليل، فمنها قوله تعالى: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ) (آل عمران: 113) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه؛ فقرأ فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل»(3).

التحلي بأخلاق القرآن قولاً وعملاً

والتحلي بأخلاق القرآن، والتطبع بصفاته التي أرشد إليها، باب من أبواب التفاعل مع هذا الكتاب الكريم، الذي لا يفتح كنوزه بحق إلا لمن عاشه، وعايشه معايشة فعلية، لا معايشة ثقافية، ولا فكرية فحسب، فكم رأينا من ومضات وتذوقات لأفراد بضاعتهم في علوم القرآن وأصوله ليست كبيرة، ولكن طباعهم وأخلاقهم مصدرها القرآن، ومراجعها هذا الدستور الإلهي الكريم، وهذا ما عاشه بحق سلفنا الصالح حياة حقيقية.

«فالمرء لا يستطيع بمجرد فهم ألفاظ القرآن، وإدراك معاني جمله فقط أن يصل إلى إدراك التفاعل النفسي الذي ينطوي عليه رجال السلف الصالح، عندما تعاملوا مع هذا الكتاب.. هناك أشواق، وتذوقات، وإشراقات، وومضات، ونفحات، وفتوحات، لا يتوصل إليها المرء بمعرفة الألفاظ والمعاني، بل لابد له من أن يعيش نفسه في نور تلك التذوقات والومضات، ولن يكون ذلك إلا بالإيمان العميق النامي، والعمل الصالح والخلق الحسن..»(4).

«إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحدهم يتلقى القرآن؛ ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته، إنما كان يتلقى القرآن ليلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها، هو وجماعته، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي؛ ليعمل به فور تلقيه، ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة؛ لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، وهذا الشعور شعور التنفيذ كان يفتح لهم من القرآن آفاقاً من الانتفاع، وآفاقاً من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع، وكان ييسر لهم العمل، ويخفف عنهم ثقل التكاليف، ويخلط القرآن بذواتهم ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى نهج واقعي، وإلى ثقافة متحركة، لا تبقى داخل الأذهان، ولا في بطون الصحائف، إنما يتحول آثاراً وأحداثاً، تحول خط سير الحياة. إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح، روح المعرفة المنشئة للعمل، إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ، وإن كان هذا كله من محتوياته إنما جاء ليكون منهاج حياة، منهاجاً خالصاً، وكان الله – سبحانه – يأخذهم بهذا المنهج مفرقاً يتلو بعضه بعضاً»(5).

وهذا التطبيق العملي الصادق، والطلب الجاد في تنفيذ تعاليم القرآن في الحياة هو ما جعل الجيل الأول الرائد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس فهماً لهذا الدين، حتى تجاوبوا معه وقت نزوله، فتلفظوا بألفاظه، وألهموا أحكامه، وتوقعوا توجيهه وإرشاداته، وما موقف عمر وإلهاماته منا ببعيد، ليس ذلك فراسة عمرية فحسب، ولا حدساً عربياً ذكياً فقط، لكن أيضاً شعور خالطه توجيهات القرآن؛ فكانت أوامره ونواهيه مصبحهم وممساهم، يتفكرون فيها في خلواتهم ويستذكرونها في جلواتهم، وكم مرة يخطر ببالي أن هذا الجيل الرائد كان أنموذجاً طبق عليه ربنا – عز وجل – ما ينبغي أن يتحلى به الجيل الذي يعمر الحياة، وينير الأرض، ويوقظ خيرها بمنهاج الله – عز وجل -، فمن أراد أن يفهم كما فهموا، فليعش كما عاشوا، وليعمل بما عملوا، فهذه هي الجادة، فأين السالكون؟!

(*)أستاذ التفسير وعلوم القرآن

————————————————————

الهوامش:

(1) الظلال: ج6، ص 3745، و3746

(2) فتح الباري: 9 – 45

(3) رواه مسلم، من حديث عمر بن الخطاب: ج1، ص515، برقم 747

(4) بحوث في أصول التفسير: 34، و35.

(5) معالم في الطريق: ص17 و18، دار الشروق، ط. العاشرة، 1403هـ – 1983م.

 

 

Exit mobile version