المبادرة الفردية في العمل الجماعي

من العوامل المهمة في ارتقاء العمل الجماعي كماً ونوعاً جودة انفعال أفراده بمبادرات ذاتية تجتهد في دعمه

 

من العوامل المهمة في ارتقاء العمل الجماعي كماً ونوعاً جودة انفعال أفراده بمبادرات ذاتية تجتهد في دعمه بكل جهد فكري إبداعي ينضج لدى صاحبه ثم يتحول بالمبادرة إلى مشروع لصالح الجماعة قابل للدراسة الجماعية والتقييم بهدف تحويله – إن كان صالحاً – من رؤية فردية إلى موقف جماعي تتبناه الجماعة لتحقيق إنجازات معنوية أو مادية.

 


فكم من مبادرة فردية أدت إلى تحرير أوطان, وكم من مبادرة صغيرة أصبحت مشروعاً خالداً للأمة, وكم من مبادرة شخصية أطاحت بعروش جائرة. 

«المجتمع» تفتح ملف هذه القضية، تتناولها كرؤية شرعية.. ثم تسلط الضوء على نموذجين بارزين من المبادرات الفردية الذاتية التي حققت نجاحاً كبيراً.. الأولى: تجربة د. عبدالرحمن السميط يرحمه الله في العمل الدعوي والإغاثي بالقارة الأفريقية، والثانية: تجربة مؤسسة اليتيم الخيرية في اليمن كتجربة تنموية رائدة. 

المبادرة الذاتية .. لغة واصطلاحاً

وردت مادة «المبادرة» في اللغة العربية دالة على المسابقة والمسارعة والاكتمال, فبَدَرَ القمر أي اكتمل, وبادر فلان إلى الشيء أي أسرع, وبدر إلى الزرع أي بكّر به أول الزمان, والمقصود أن المبادر سبق غيره من المتأخرين في الأمر الذي كان متاحاً للجميع ومطلوباً من الجميع فعله.

ومع استصحاب الدلالة اللغوية يمكن تعريف المبادرة الذاتية اصطلاحاً بأنها «المسابقة على الخير فكراً أو قولاً أو فعلاً, ناتجة عن انفعال ذاتي يترجم إلى عمل مثمر لصالح الأمة تضيف به خيراً أو تتقي به شراً». 

صور تقديم المبادرة

قد تصدر المبادرة من الإنسان بإرادة ذاتية أو استجابة لطلب جهة أخرى للقيام بواجب عام غير متعين على شخص بعينه, وإنما هو متاح لكل المتسابقين الراغبين, وقد تقدم إلى الجهة المعنية رأياً شفوياً أو دراسة علمية أو موقفاً وقد تكون إنتاجاً فنياً من شعر ومسرح, أو مالاً داعماً للعمل العام أو خلافةٍ بخير في الأهل والولد لمن غاب عنهم انشغالاً بواجب عام, وقد تكون تضحية بالنفس استشهاداً, ويمكن أن تأتي من علماء كبار كما يمكن أن تأتي من طلاب علم أو من شخص عادي كادح لقوت أسرته يستفزه موقفٌ فيقدم للجماعة مبادرة نافعة.. فالمبادرة الذاتية تشمل كل أبواب الخير التي تتطلب إضافة فردية إيجابية دعماً لجهود الجماعة للقيام بالواجب العام. 

يريد الشرع الحنيف من الأفراد ألا يكون حسهم جامداً, ويطلب منهم السعي الدائم للتفكير الإيجابي المنتج عملاً أو موقفاً يتصف بالسبق – دون تعالٍ – والتفرد ليكون المثال المقتدى به, تستفيد منه الجماعة وقد جاء الأمر الإلهي بتوجيه الأفراد إلى التسابق في أبواب الخير العامة, وهي مساحة واسعة تشمل كل معروف يفيد الجماعة ويملأ رصيد صاحبه من الحسنات قال تعالى:{فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}(البقرة:148){ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ”133″}

(آل عمران).

وقال “صلى الله عليه وسلم”: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

ومن حرص الإسلام على المبادرة الإيجابية وربطها بالتذكير بشأن الفتن المترصدة للإنسان, وخوفاً من أن تتخطفه إحداها يلزمه المسارعة لفعل الخيرات قال “صلى الله عليه وسلم”: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا» (رواه مسلم)، فالعاقل لا يفرط في مساحة العافية المتاحة له زمناً ومكاناً وإمكانيات, مستثمراً ذلك لصالح الأمة, فمن أسس موقعاً إعلامياً في أمة لا يسمع لها صوت ولا تبث لها شكوى كان سابقاً بالخيرات, ومثله من سبق لتوحيد جماعة مفرقة أو إيقاظ أمة نائمة, ومن حث على مواجهة الظلم والفساد أو الكفر والطغيان في أمة تجهل المقاومة السلمية أو تتهيبها كان سابقاً بالخيرات. 

ومعنى ذلك أن الإسلام يريد من الأفراد التحرك الإيجابي الدائم فكراً وقولاً وعملاً في سبيل البحث عن مخرجٍ في أمة تخنقها الأزمات، أو النجاة في أمة تتخطفها المحن، أو التخلص من الاستعمار، أو التطور والتنمية بمختلف أشكالها، أو الدعوة إلى الإقبال على الآخرة في أمة معْرضةٍ عن الله، أو التذكير الواعظ بالحكمة في أمة مصابة بمرض الغفلة، أو التحذير من العاقبة السيئة في أمة تتعلق بملاذّ الدنيا بغير وجه شرعي، أو تحريك وتوجيه الجهود إلى العمل العام في أمة غرقت جهود أفرادها في الواجب الخاص من معيشة الأسرة، وهي مساحة واسعة تقبل المنافسة والتسابق من قبل أفراد الأمة لعلهم يظفرون بحسن الذكر في الأولى والآخرة وهو مقصد نبيل سعى إليه الأنبياء. 

تُكسب المبادرةُ صاحبها فوائد خاصة دنيوية وأخروية, كما تُكسب الجماعةَ فوائد شتى قد تفوق فوائد الفرد المبادر؛ فهي عمل حميد واستجابة لتوجيه رباني, والشرع الحنيف يحض الفرد على فعل الخيرات والتسابق إليه، ويجعل الجزاء الأخروي للسابق, ويحرم منه المتخلف عن المبادرة:

فوائد أخروية:

فهذا رسول الله “صلى الله عليه وسلم” يعرض على الصحابة حفر بئر «رومة» لأغراض عامة وقفاً فيفوز عثمان بن عفان بالجنة مقابل حفرها كما فاز عثمان نفسه بالجنة مقابل تجهيز جيش العسرة؛ سابقاً بذلك كل الصحابة في هذين الأمرين فقد جاء الحديث الشريف أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قال: «من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان، وقال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان»(رواه البخاري).

فوائد دنيوية:

دل الحديث على الحظ المكتوب للمبادرين في فعل الخيرات جزاء حسناً, وقد يكون الجزاء الحسن على المبادرة دنيوياً معنوياً مثل: الذكر الحسن وحفظ المكانة، أو مادياً مقدراً كتحفيز مالي تمنحه الجماعة للمبادرين، أو وظيفة معينة وموقعاً قيادياً يدر رزقاً حلالاً يسند لصاحب المبادرة ونص: «من قتل قتيلاً فله سلبه» لم يأت إلا تحفيزاً مادياً على المبادرة الإيجابية، ويمكن أن يقاس عليه احتكار العائدات المادية التي تثمرها المبادرات الشخصية الخادمة للصالح العام.

جزاء المتخلف عن المبادرة:

وحديث: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» حرم الراغبين الطالبين – بعد فوات التوقيت المناسب – من أجر الهجرة الذي ظفر به السابقون من المهاجرين، وقصة ذي الجوشن الضبابي حينما دعاه الرسول “صلى الله عليه وسلم” بعد معركة بدر للدخول في الإسلام قائلاً له: «هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر؛ فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك» فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله؛ إذ ترك المبادرة إلى الإسلام وإلا لكان من أوائل الداخلين إليه، فكان على ذلك نادماً, فمن ترك المبادرة فاته الخير المترتب على المبادرة الذاتية وهو فوات لا تعويض له. 

فوائد الجماعة من المبادرة الشخصية

ومن فوائد المبادرة الشخصية الذاتية أنها قد تدفع الجماعة إلى موقف صائب كانت غافلة عنه أو متهيبة له خائفة منه أو لم يكن من أولوياتها الحالية, فغزوة المسلمين التي هزمت يهود بني قينقاع في المدينة المنورة كان سببها مبادرة شخصية من مجاهدٍ قتَلَ الصائغَ اليهودي الذي عرى امرأة مسلمة(7), وكم من المسلمات في الوقت الحاضر منتهكات الأعراض ينتظرن المبادرين للانتقام لهن, وقرار اقتحام المسلمين وانتصارهم على المرتدين في غزوة اليمامة كان ثمرة لمبادرة الصحابي البراء بن مالك، ومجهودات أمهات المؤمنين عائشة وأم سليم في تولي مهمة تزويد الجيش المسلم في غزوة أحد بالماء لم تكن إلا مبادرة منهن إيجابية حظيت برضا الجماعة وإشادتها، وفكرة جمع القرآن الكريم كانت مبادرة شخصية من عمر بن الخطاب تبنتها الجماعة المسلمة وكونت لتنفيذها لجنة ذات تخصص دقيق برئاسة أبي بن كعب، فأصبح مشروعاً خالداً. 

وفي وقتنا الحاضر نجد خلف الثورات العارمة حدثاً صغيراً يعد مبادرة من شخص واحد أو مجموعة صغيرة دعت الشارع العام إلى التحرك, فيصبح هذا الحدث الصغير مشروعاً تغييرياً كبيراً تتبناه الأمة.

ومبادرة الشهيد حسن البنا في تأسيس جماعة إسلامية بمواصفات الإخوان المسلمين تمتد إلى كل العالم، وتلتف حولها جماهير عريضة من المسلمين عرباً وعجماً، ويتعرض أفرادها لابتلاءات عنيفة على يد فراعين كثيرين لكنها تصمد بل تنتصر في أكثر من بلد.

وهكذا نجد أن كل إنجاز عظيم كان ثمرةً لمبادرة صغيرة من شخص واحد أو عدد محدود.

التشجيع على المبادرة

والشرع يحرض الأفراد على المبادرات الإيجابية التي تفيد الأمة في كل مجالات الحياة, فكلها مباركة شرعاً ومحرضاً عليها فمن أسس جمعية لنظافة المدينة مأجور بنص حديث: «إماطة الأذى عن الطريق صدقة»، ومثله من يبادر لإقامة معسكر تدريب رياضي أخلاقي يخرج أفراداً أقوياء أسوياء جسماً وعقلاً وخلقاً, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيد بمثل هذه المبادرة التي يقوم بها بعض أصحابه فقد جاء في السنة أن النبي “صلى الله عليه وسلم” مر على نفر من أسلم ينتضلون (يتسابقون في الرماية) فقال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان». قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «مالكم لا ترمون؟». فقالوا: يا رسول الله نرمي وأنت معهم؟ فقال: «ارموا وأنا معكم كلكم»(رواه البخاري)، وهذه المبادرة التدريبية ليست منظمة من دولة ولا مدعومة من قبلها، وإنما كانت جهداً مبادراً من أصحابه, كما أن المباركة النبوية ليست محتكرة للصحابة بل يفوز بها من قام بمبادرة إيجابية تفيد الأمة في أحد مجالات الحياة, وتتعاظم الحاجة إلى المبادرات الذاتية في فروض الكفاية التي تقاعست عن القيام بها الأمة عجزاً أو جبناً أو غفلة، فيأتي المبادر كاسراً تلك الحواجز، فيقوم بمبادرة شجاعة صائبة تحرض الأمة على الاقتداء به منتفعة من مبادرته، ويفوز هو بمضاعفة الأجر عند الله بقدر أجور من انتفع بمبادرته.

تهذيب المبادرة

قد لا تكون المبادرة الفردية مكتملة أحياناً؛ لأنها كائن يولد صغيراً ثم يكتمل نموه تدريجياً, وقد يخشى من أن يؤدي تنفيذها إلى بعض السلبيات, ولهذا فهي بحاجة إلى تهذيب تقوم به الجماعة من خلال لجنة ذات تخصص قادر على التقييم أو من خلال القيادة التي ترى الأمور بنظرة شاملة بما لها من إمكانيات لا تتوافر للفرد الواحد, ولهذا يُشرع إخضاع المبادرات الفردية لتهذيبٍ من خلال دراسة خاصة, وليس لكل مبادر أن يزعم أن مبادرته صواب مطلق ولا هي الحق الذي لا يحتمل الخطأ, كما ليس له الحق في فرض مبادرته على الجماعة دون الحصول على إقناعها بصحة المبادرة, فهذا حسان بن ثابت يعرض على رسول الله “صلى الله عليه وسلم” مبادرة ذات نفع عام وضرورية للجماعة، وهي هجاء الجبهة المعادية لجبهة الإسلام التي كانت تمثلها قريش في ذلك الوقت, فتخضع مبادرته للمدارسة بينه وبين القيادة بهدف تهذيبها, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن حسان في هجاء المشركين.. قال “صلى الله عليه وسلم”: «كيف بنسبي؟». فقال حسان: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.

فأصبح حسان بعد ذلك شاعر الإسلام الأول، وتم توظيفه لأداء الواجب «اهجهم وروح القدس معك», الوظيفة التي تشابه – حالياً – وزارة الإعلام ووسائطها المتنوعة.

مكانة المبادرين في المجتمع

إذا كتب الله نجاحاً للمبادرة الفردية فتقبلتها الجماعة وبنت عليها موقفاً وقراراً، وانتفعت بما فيها من خير، فسيكون من واجب الجماعة أن تحتفظ بمكانة خاصة لصاحب المبادرة الرشيدة، وأن تعتني به وأن تمنحه من الحقوق ما تستحقه المبادرة من اعتراف بفضل السبق وعلو المكانة والقيام بحماية المبادر وإكرامه والتجاوز عن تقصيره أو إساءته مستقبلاً, فخطؤه وتقصيره اللاحق يتضاءل أمام مبادراته السابقة العظيمة لصالح الجماعة.

وأمثلة ذلك في التاريخ الإسلامي كثيرة؛ فأبو بكر الصديق تقدر له الجماعة حسن بلائه في الإسلام، وتحتفظ له بكثير من المبادرات الإيجابية الفردية، ولهذا تجعله خليفة عليها يقوم فيها مقام رسول الله “صلى الله عليه وسلم”, ورسول الله “صلى الله عليه وسلم” نفسه يعترف له بالفضل والمكانة، ويشيد بعدد من مبادراته الإيجابية التي جعلته يتبوأ تلك المكانة الرفيعة، ويرشحه ليكون خليفة على المسلمين بعده قال “صلى الله عليه وسلم” في حقه:

1- «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر».

2- «إن أعظم الناس علينا مناً أبو بكر؛ زوجني ابنته وواساني بنفسه وإن خير المسلمين مالاً أبو بكر؛ أعتق بلالاً وحملني إلى دار الهجرة» (أخرجه ابن عساكر).

3- «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت, وواساني بنفسه وماله, فهل أنتم تاركوا لي صاحبي (مرتين)، فما أوذي بعدها»(رواه البخاري).

شرعية تكريم الجماعة لمبادريها

ويقاس على ذلك شرعية تكريم الجماعة المسلمة لكل شخص قام بمبادرة إيجابية لصالحها تحفيزاً مادياً أو معنوياً حسب وزن تلك المبادرة وحسب تقدير الجماعة لها في بابها, فإن كتب الله نصراً للأمة بعد مبادرة أحد أفرادها استحق صاحب المبادرة جزاءً من الأمة مادياً ومعنوياً أعلى من شخص آخر صاحب مبادرة دون تلك المبادرة أثراً ومكانة؛ فغزوة بدر كان لأهلها من البركة والذكر ما لم يكن لمن شهد بعدها من غزوات حتى لو كانت أعظم منها من حيث الإمكانيات والتضحيات, وذلك لما لأهل بدرٍ من خصوصية الفئة المضحية والظرف الذي أتت فيه الغزوة, والأثر الإيجابي الكبير الذي أحدثته، وبناءً على مبادراتهم الإيجابية الذاتية أعلت الأمة من مكانة الخلفاء الراشدين ومنحتهم مكانة في الدنيا إلى جانب ما منحهم الله من مكارم في الآخرة؛ فعن عبد الله بن عمر قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي “صلى الله عليه وسلم” فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان» (رواه البخاري).

وهذا يمثل رأياً عاماً مقدراً لمكانة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم, وبُني عليه إجماعُ الأمة على أهليتهم للخلافة واختيارهم لهذا الواجب وأفضليتهم على غيرهم. 

ديمومة تكريم المبادرين بعد الوفاة

ومن حفظ مكانة المبادرين وإكرامهم أن يمتد واجب الجماعة نحوهم حتى بعد وفاتهم؛ فهذا رسول الله “صلى الله عليه وسلم” يؤصل لمثل هذا التعامل مقدراً لمبادرة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها التي قامت بمبادرات عظيمة نصرة للدين وتمكيناً له ودعماً, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي “صلى الله عليه وسلم” ما غرت على خديجة, وما رأيتها, ولكن كان النبي “صلى الله عليه وسلم” يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها إلى صديقات خديجة, فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد»(رواه البخاري).

من هنا جاز للجماعة – بل وجب – أن تجعل من أهدافها استمرار صلتها بالمبادرين السالفين كأن تعتني بأيتام وأرامل الشهداء أو بأسر المسجونين أو أن تقوم برعاية من تعرضوا لإعاقات مختلفة في خدمة العمل العام أو أفنوا زهرة شبابهم، وتقدمت بهم الأعمار إلى درجة العجز، وهم يقومون بأداء أعمال جليلة لصالح الجماعة, وأن يستمر عطاؤها للسابقين من أفراد الأمة على الخير العام المضحين بأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم وأفكارهم خدمة للشأن العام.

تجاوز خطأ وتقصير المبادرين

وقد يكون تكريم أصحاب المبادرات الإيجابية بالموازنة بين مبادراتهم لصالح الجماعة، وما قد يحدث منهم من أخطاء في حق الجماعة أو تقصير في واجبها, ولهذا جاءت وصية رسول الله “صلى الله عليه وسلم” بالأنصار خيرًا: «فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم»(رواه البخاري)، وبالمنطق نفسه جاء العفو عن حاطب بن أبي بلتعة على الرغم من التشهير بالموقف السلبي الذي ساقه لمحاولة كشف سر جماعة المسلمين للعدو, كشفاً يعد خيانة عظمى في حق الدولة الإسلامية, لكن شفع له كونه من أهل بدر فتمت حمايته من العقاب بتهمة الخيانة العظمى أو النفاق على الرغم من ثبوت الجريمة عليه بإقراره بها وبالدليل المادي الذي ضبط عليه.

الموقف من المبادرة الذاتية

يلزم الجماعة المسلمة أن تسعى لتلقف مبادرات الأفراد بهدف:

1- سماع المبادرة والاهتمام بها. 

2- تطوير المبادرات الفردية بدراستها عبر منابر الجماعة وآلياتها.

3- الاستفادة بالصالح منها في العمل الجماعي. 

4- عدم المعاقبة على أخطاء المبادرات الطيبة والرفض المهذب المبرر للمبادرات الخاطئة.

أما الجماعة التي لا يروق لها طرح المبادرات الفردية ولا تتيح مجالاً للترحيب بها وتلجأ لتهميشها, تعالياً أو تجاهلاً أو تضايقاً, فهي تحكم على نفسها بالفناء لأنها تصبح طاردة لماء حياتها النابع من مبادرات أعضائها.

وتدل الحوادث التاريخية على شرعية الاستفادة من المبادرات الفردية؛ فحفر الخندق كان مبادرة من سلمان الفارسي, والخلاف بين المهاجرين والأنصار فيمن يتولى الخلافة بعد رسول الله “صلى الله عليه وسلم” حُسم بمبادرة من عمر, حسمت الموقف لصالح أبي بكر الصديق, ونجاة الجيش المسلم في غزوة مؤتة كان بتوفيق من الله ثم بمبادرة من خالد بن الوليد, وكذا مبادرة تكوين جيش من المعارضة الإسلامية, قطع طريق قريش بين مكة والشام وأجبر المشركين على السماح لأبي بصير وأصحابه بالانضمام إلى جيش المدينة خلافاً لنص معاهدة الحديبية. وكانت مبادرة الحسن بن علي بالتنازل عن الخلافة لصالح معاوية أمرا التأمت به كلمة المسلمين واتحدت صفوف الأمة وانطفأت نار الفتنة, وموقف الصحابة بعد وفاة رسول الله “صلى الله عليه وسلم” لم يحسمه إلا مبادرة الصديق حينما خطبهم مؤكداً الوفاة, إذ قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ {ومَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ “144”} (آل عمران) فخرج الناس يتلونها في طرق المدينة كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم. 

وكتب الله النجاة للنمل من تحطيم غير مقصود من جنود سليمان عليه السلام بمبادرة النملة التي دعت إلى دخول المساكن, وبمبادرة الهدهد أصدر سليمان عليه السلام قراراً بشأن مملكة سبأ الوثنية لصالح دولة التوحيد النبوية. وموسى عليه السلام تمكن من النجاة عن كيد فرعون بفضل الله ثم بمبادرة من شخص ناصح جاءَ من أقصى المدينة يسعى. ورجل مؤمن يتقدم بمبادرة يدعو فيها قومه للإيمان بالرسل أدت به إلى الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة كما في سورة «يس». 

هذه المواقف العظيمة كانت مبادرات شخصية من أفراد سبقوا غيرهم ففازوا بالسبق واستحقوا التقدير من الأمة ورفع المكانة في الدنيا والآخرة وكذلك يستحق من قام بمبادرات شخصية عظيمة احتساباً يكتب الله فيها خيراً للأمة, فله أجرها وأجر من انتفع بها إلى يوم القيامة.

رفض المبادرات السلبية

قد تكون المبادرة الذاتية اجتهاداً نافعاً أو غير ضار, وقد تكون غير ذلك, وإن ظنها صاحبها خيراً, وهنا يلزم ألا يقطع بنفي احتمال خطأ مبادرته أو ضررها, فهي عمل بشري اجتهادي تعتريه الاحتمالات ومن خلال مدارسة المبادرة عبر الآليات المتخصصة قد تظهر فيها عيوب يلزم تلافيها وقد يظهر أن تبنيها يسبب ضرراً فيجب حجبها لتوقيه.

تعدد وتعارض المبادرات

وقد تتعدد مبادرات الأفراد تجاه أمر واحد وتتعارض إلى درجة أن يرتكب الطرفان مخالفة شرعية في تجاوز قانون وآداب الحوار الهادئ فيحق للقيادة أن تختار ما شاءت منها وليس من حق من رُفضت مبادرته أن يجد في نفسه شيئاً تجاه الجماعة ومما يدل على ذلك خلاف الصديق مع عمر في المبادرة باقتراح أمير كما دل عليه حديث أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي “صلى الله عليه وسلم” حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار عمر بن الخطاب بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار أبو بكر الصديق بالقعقاع بن معبد فقال: أبوبكر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)} (الحجرات:2) (رواه البخاري). 

مبادرة متهمة

وقد تأخذ المبادرة الفردية منحى اتهامياً للقيادة دون دليل مادي، ولهذا تستحق غض الطرف عنها في أحسن الأحوال، وربما استحقت مقاضاة صاحبها أو ربما كانت مدخلاً للتحقيق والتحري الأمني إن صدرت من شخص ذي سوابق سلبية أو متهم بصلات سلبية مع الأعداء, ففي الحديث أن النبي “صلى الله عليه وسلم” قسم قسماً فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. فأتيت النبي “صلى الله عليه وسلم” فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (رواه البخاري). 

مبادرة ضرار

ومبادرة أصحاب مسجد ضرار كانت من المبادرات المعادية للإسلام والهادمة لصف الجماعة، ولهذا انتهت بهدم وإحراق المسجد الضار وهو حكم يمكن تطبيقه على كل مبادرة أثبت التحقيق والتحري العادل أنها كائدة أو ذات صلة بالأعداء.

مبادرة متعصبة

وربما أتت مبادرة مناصرة للقيادة إلى درجة التعصب المقيت وهذه منهي عنها فعن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً “صلى الله عليه وسلم” على العالمين – في قسم يقسم به – فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم فقال: «لا تخيروني على موسى» (رواه البخاري). 

مبادرة صائبة مغلوبة

وربما كانت مبادرة صائبة في نفسها لكنها لم تستطع إقناع الجماعة, وعلى صاحبها قبول النتيجة وانتظار الأيام التي ستوضح أنها كانت أحق بالاتباع ومما يدل على ذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يرى حماية المدينة المنورة من دخول المشكوك في ولائهم للدولة أو من تحوم الشبه في عقيدته وإيمانه، لكنه غلب بالرأي والإلحاح من بعض كبار الصحابة الذين رأوا أن بعض العناصر الماهرة يمكن أن تفيد سكان المدينة وكان بين هؤلاء غلام المغيرة بن شعبة أبولؤلؤة المجوسي الذي اختلف مع سيده في مقدار الجزية فقتل عمر بن الخطاب انتقاماً وقتل معه سبعة من المصلين ولم يوقف شره إلا مبادرة شجاعة من أحد المصلين ألقى عليه (برنسًا) منعه من الاستمرار في القتل. 

تنوع المبادرات من الشخص الواحد

ويمكن أن تتعدد مبادرات الشخص الواحد بقدر حرصه على مصلحة الأمة وعزيمته وتفاعله, فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ “صلى الله عليه وسلم”: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا، قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا، قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟. قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ “صلى الله عليه وسلم” مَا اجْتَمَعْنَ فِى امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّة» (أخرجه البخاري في الأدب المفرد).

Exit mobile version