الشيخ الغزالي.. والإصلاح (2)

يرى الشيخ الغزالي أنه للخروج من هذه الوهدة التي وقع فيها التعليم عندنا لا بد من مراجعة أنفسنا واختيار عدة خطوات للارتفاع بمستواه والارتقاء به إلى ساحة الحياة

يرى الشيخ الغزالي أنه للخروج من هذه الوهدة التي وقع فيها التعليم عندنا لا بد من مراجعة أنفسنا واختيار عدة خطوات للارتفاع بمستواه والارتقاء به إلى ساحة الحياة، ومن أبرز هذه الخطوات ما يلي:

1- اختيار طلبة التعليم الديني وفق رغباتهم الخاصة من بين الذين تجاوزوا مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، بعد إدخال إصلاحات شاملة، والاهتمام بعناصر التربية السليمة التي تغرس في نفس التلميذ عواطف معينة، وتوجه أفكاره وجهة خاصة، ولا يرى الشيخ الغزالي بأساً من اقتباس قليل أو كثير من نظم المدارس الأجنبية التي تشتغل اليوم الدراسي حتى الغروب، وتقطع الإجازات على فصول السنة، وتربط الطلبة ربطاً ممكناً بحياتهم العلمية ووجودهم المدرسي(1). 

نظرات شاملة

2- وجوب الاطلاع على المعارف الإنسانية التي تشعبت واستمرت كعلوم النفس والاجتماع والأخلاق، وكذلك علوم النبات والحيوان والطبيعة والكيمياء، كما أنه لابد من إلقاء نظرات شاملة أو عابرة على تاريخ العالم وأجناسه ودياناته ونهضاته القديمة والحديثة، وفتح مجال المقارنة الواعية بين أحوال الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم التي اشتبكت معها في سلم أو حرب(2).

والشيخ الغزالي في هاتين الخطوتين يحدد المنهج الذي تُستقى من خلاله الأمة في برنامجها التعليمي هدفها، وتحدد سبيلها، ويحدد كذلك الجو النفسي لأحد محاور العملية التعليمية، ألا وهو الطالب، فإذا لم يكن هذا المحور على رغبة واضحة من المجال التعليمي الذي يريده، فإن باقي محاور العملية التعليمية كأنها تحرث في البحر أو تزرع في الهواء، والشيخ الغزالي كذلك يسير على نفس الخط في موقفه من الأساليب والوسائل الحديثة سواء كانت وليدة العقل الإسلامي، أم واردة من الخارج، فلا يرى بأساً من الاستعانة بأساليب المدارس الأجنبية أو فهمها، مع استناد كل ذلك إلى المناهج التعليمية الإسلامية، وهو في الوقت ذاته سائر على نفس الخط الذي يجعل العلوم كلها علوماً شرعية، سواء كانت شرعية بالمعنى المفهوم أم وسائل للعوم الشرعية ومعينة لها، فيرى الأخذ بعلوم النفس والاجتماع والطبيعة ونحو ذلك كما ذكر. 

جامعات للفتيات

3- يرى الشيخ الغزالي كذلك وجوب تخصيص كليات، أو جامعات بأسرها للفتيات، ويرى أن ذلك استجابة لمنطلق الفضيلة والدين، ويرى أن برامج هذه الكليات تخضع للمصلحة العامة كما تخضع لملكات الأفراد واستعدادهم الخاص(3).

ويرى كذلك أن العملية التعليمية إذا أحسنا اغتنامها فسوف تجعل الأمة تعود إلى شيء كثير مما كانت عليه، ومن هنا يضع عدة خطوات كذلك أراها قريبة من خطواته الإصلاحية للتعليم، وهي:

4- سير الارتقاء الثقافي والإحاطة بالآماد التي بلغها غيرنا حتى نعرف من نخاطب وماذا يقول.

5- دراسة التيارات السياسية والقوى العسكرية التي حظي بها غير المسلمين، وتقرير ما تقدمه للأديان والمذاهب الأخرى من دعم، ووضع ذلك تحت أنظار المسلمين.

صورة مشوهة

6- محاربة الغش الثقافي والانحراف الفكري اللذين أبعدا الأمة الإسلامية عن كتاب ربها وسُنة نبيها، وجعلاها صورة مشوهة للدين الحق وأعجزاها عن نصرته.

7- إعادة بناء الأمة الإسلامية سواء كان ذلك عن طريق التعليم أو غيره.. على أساس أن الوحي حياة، وأن دراسة الكون أهم ينابيع الإيمان، وأن حسن استغلاله سياج اقتصادي وعسكري خطير(4).

8- «غربلة» التراث الإسلامي الذي آل إلينا في هذا العصر، لاستبقاء ما يوافق الكتاب والسُّنة، واستبعاد ما عداه، ونحن أصحاب وحي معصوم، وفي تاريخنا العلمي قمم راسخة قد تختلف أفهامهم في الفروع الثانوية، ولكنهم قلما يختلفون في الأصول والغايات(5).

وهو في هذه النقاط الأخيرة يؤكد أن الدراسة ملاحظة وهدف مرسوم غير مجدية، وأن أول الأهداف بأن توضع في الحسبان معرفة الآخر اتجاهه ورؤيته للأشياء، على هذه الأسباب تبني الأمة خطتها التعليمية التي تُخَرّج الأفراد القادرين على مواجهة هذا الأمر، وما يطرحه أمامنا من قضايا.

جو مدرسي

وعلى المستوى المدرسي، شارك الشيخ الغزالي كذلك مع غيره في خطة لرفع المستوى العام للجو المدرسي، أذكره مختصراً خشية الإطالة على النحو التالي:

1- يبدأ اليوم الدراسي بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، وتتردد كلمة الصباح بين ثلاث دقائق وخمس دقائق حول ما سمعه التلاميذ من هذه الآيات، أو ما تعرضه المناسبات الدينية، وما ترشد إليه من فضائل سامية في كلمات موجزة موحية.

2- أن تكون دروس التربية الدينية في الحصص الثلاث الأولى؛ ليشعر الطلاب بما للدين من قيمة عليا بين المواد الدراسية، وليكون التلميذ في ذروة النشاط الفكري، وتذاع الأناشيد الدينية أو قصة دينية قصيرة في فترة الفسحة الأولى، أما الفسحة الثانية فيُصلى فيها الظهر، وذلك بعد وضع الجدول المدرسي على نظام يتيح ذلك، وبالطبع لا بد من خروج إدارة المدرسة ومدرسي اللغة العربية والدينية ومن شاء من المدرسين الآخرين أمام التلاميذ، ثم يتجهوا إلى المكان المخصص للصلاة حرصاً على أداء الصلاة في جماعة، ليكون هذا العمل الجماعي إشعاراً ملموساً بالاهتمام بإقامة الشعيرة في وقتها.

رواد دينيون

3- أن يكون لكل مدرسة مجموعة من الرواد الدينين، يتناسب مع عدد الفصول والطلاب، وهم الراعون لتلاميذهم يرشدونهم ويوجهونهم ويكتبون تقريراً شهرياً عن سلوك كل تلميذ يرسل إلى ولي أمره؛ ليحس البيت برعاية المدرسة للدين فيعينها عليه. 

4- يُخصص يومان من فسحة الظهر تدور فيها مناقشات دينية مطبوعة متصلة بحياة التلاميذ، ولا تستغرق من وقت الفسحة زمناً طويلاً، حتى لا يضيق بها التلاميذ في الأيام الأخرى، تذاع مسرحيات دينية قصيرة تتصل بمنهجهم المدرسي كلما أمكن ذلك. 

5- أن تتجدد جماعات النشاط الديني بأنواعه، وأن يكون العاملون في الميدان المدرسي قدوة حسنة تتسم بالإيمان والسلوك الحميد، ومحاسبة المدرسين الذين يستهينون بدروس التربية الدينية. 

مناقشة الأفكار

6- أن يجعل من بعض أيام الجمع فرصة لالتقاء التلاميذ بأساتذتهم وأولياء أمورهم في مصلى المدرسة، تُلقى عليهم دروس دينية، حيث تناقش أفكارهم على سعة تتيح اشتراك أولياء الأمور في هذه المناقشة. 

7- وضع صندوق في فناء المدرسة تجمع فيه التساؤلات الحرة للطلاب للرد عليها من جماعة الفتوى بالمدرسة.

8- الاعتناء بالمناسبات، والاعتناء بتزيين جدران المصلى والمدرسة بلافتات تجذب الأنظار بكمال إخراجها وحسن اختيار موضوعاتها، والاهتمام باختيار شعار للمدرسة من الآيات والأحاديث، والاعتناء بركن التربية الدينية في المكتبة، ويكون للمصحف الشريف مكان الصدارة في المكتبة العامة ومكتبات الفصول ومكتبة المصلى. 

وسائل مساعدة

9- العناية بالوسائل المعينة التي تساعد التلاميذ على فهم أبواب المنهج الديني وتشوقهم إليه، وأن يكون بيد الطلاب فيما يقرر لهم من الكتب كتاب ذو موضوع واحد يصور بعض البطولات الإسلامية والمعارك الإسلامية وأمجاد الإسلام. 

10- ينتفع بمجلس الآباء في دراسة وإنفاذ كل ما يجد من مشكلات في سلوك الطلاب وعلاقتهم بالمدرسة، ويستعان ببعض أولياء الأمور وغيرهم من المثقفين بثقافة دينية واعية في إلقاء بعض المحاضرات؛ ليكونوا من أدوات التأثير وعوامل الاستجابة من الطلاب.

11- أن تعد المدرسة معرضاً دينياً ينظم كل ما يجمع الطلاب من وسائل تعليمية دينية ونحوها.

معان روحية وخلقية

12- يوضع اليوم المدرسي في إطار يحدد أوله ونهايته تحديداً متصلاً بالدين، فلا يدخل التلاميذ فصولهم فرادى ولكن يجمعون في صفوف قبل المدرسة والانصراف يرددون أناشيد دينية وقومية ذات معنى روحي وخلقي.

13- أن تقوم المدرسة ببعض الرحلات الدينية التي يزور فيها الطلاب المساجد الكبرى، والمتاحف الإسلامية، ونحو ذلك، وتفتح أبواب بعض المدارس لتحفيظ القرآن الكريم في فترة العطلة الصيفية. 

14- خلق الحوافز بين الطلاب المتميزين دينياً، ورصد جوائز جيدة للطالب المثالي، وإعداد شهادات تقدير لذلك، ويهيب الشيخ الغزالي بعد ذلك بوسائل الإعلام الاهتمام بالبرامج الفقهية المسموعة والمرئية، وأن ذلك كله إنما يدعم بها، أما إذا سارت أجهزة الإعلام في اتجاه وسارت الخطة التعليمية في اتجاه فلن نجنى من التعب شيئاً(6).

وهكذا اهتم الشيخ الغزالي بالمرحلة الأساسية للتعليم؛ إذ إنه بداية الإصلاح، لكنه – كما يقولون – مكمن السر، وكم من علوم ومعان تلقاها الناس في الصغر فاستحالت من بعدُ نقشاً على حجر، تتغير الأيام وهي ثابتة؛ لأنها انطبعت على صفحة النفس البيضاء التي لم تلوث بطين الأرض وأدران الحياة.

وعلى المستوى العالمي، يرى الشيخ الغزالي أنه لا بد من دراسة سنن الكون وفقه المذاهب الحديثة؛ حتى نستطيع مواجهة تيار الإلحاد بتيارات أخرى تربو بالحياة والأحياء وعجائب الكون في الأرض والسماء؛ ذلك أن الإلحاد يزحف في بطء أو عجل، ونحن أمام الله مسؤولون عن مواجهته، وليس يفيده في ذلك الإنكار والعويل، بل يفيد في ذلك المواجهة والتجديد، ولا يفل الحديد إلا الحديد(7).>

الهوامش

(1، 2) راجع: كيف نفهم الإسلام؟ محمد الغزالي، بتصرف، ص 29، 30.

(3) انظر: من هنا نعلم، محمد الغزالي، بتصرف يسير، ص 206. 

(4، 5) تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، محمد الغزالي، ص 37. 

(6) قذائف الحق، محمد الغزالي، بتصرف وتلخيص، ص 227 – 230. 

(7) الإسلام والمناهج الاشتراكية، محمد الغزالي، ص 259.

 

(*)أستاذ التفسير وعلوم القرآن – جامعة الأزهر

 

Exit mobile version