سنة الله في الهدى والضلال (أخيرة)

أهمية دراستها ومدى الاستفادة منها

 استعرضنا سابقاً معنى هذه السُّنة، وفرقنا بين مشيئة الله ومشيئة العباد، فإن للقارئ الكريم أن يسأل: ما أهمية دراسة السنن بوجه عام، وسنة الهدى والضلال بوجه خاص، وما مدى الاستفادة منها؟ ونتناول – بمشيئة الله – هذه النقاط:

أولاً: أهمية دراسة السنن الإلهية بوجه عام:

دراسة السنن ليست من قبيل المعارف التي تحشى بها الرؤوس ويُتباهى بها في المجالس، لأنها إن قُصرَت عليها، لم تكن غير نوع من العبث المنظّم، المضيّع للأوقات والصارف للطاقات في غير أبوابها.

الخلوص إلى الاستفادة من السنن في وظيفتها الحضارية، بصناعة حضارة متعبّدة لله بالفعل – وهي المقصد النهائي للسنن – يسترعي التوقف عند الوظائف المرحلية والجزئية للسنن في حياة البشر قاطبة، لأنها تُعد من المعابر الضرورية إلى المقصد النهائي «صناعة الحضارة المتعبّدة». رسالة اجتماعية والمعرفة بالسنن الإلهية ليس ترفاً فكرياً بقدر ما هو رسالة اجتماعية هدفها صناعة التفكير في صناعة الوعي بالسنن، ثم تمثلها في مجمل دواليب الحياة(1).

إذن فمعرفة سنن الله تعالى في خلقه وقوانينه في عباده جزء من الدين، أو معرفة لجانب من الدين، كما أن توظيفها وإحسان التعامل معها ضرورة وفريضة، فهي ضرورة للواقع المعاش الذي يحياه المسلمون، كما أن هذه المعرفة من الواجبات الدينية التي تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة؛ حتى لا نقع في الأخطاء والعثار والغرور والأماني الكاذبة(2).

ذلك لأن المسلمين اتكلوا كثيراً – وطال اتكالهم – على أمجاد آبائهم، وأصبح الكثيرون منهم لا يحسنون التعامل مع سنن الله على اختلاف أنواعها، ونظراً لذلك اعتمدوا في كثير من حاجياتهم على غيرهم من الأمم، وصارت دولهم تصنف على أنها دول نامية، أو عالم ثالث أو بتعبير أكثر صراحة «الدول المتخلفة»، وليست هذه الأوصاف لفقدان الموارد أو الطاقات، أو لقلة المهارات والإمكانات؛ ولكن لهذا الغياب عن عالم الشهادة بما يموج به من صراعات فكرية وثقافية تعتمد على أصول، وترتكز على أسس وتنطلق من قواعد ثابتة.

صناعة الحاضر وقد عرّفنا القرآن الكريم سنن الصعود، ليسلكها العقلاء في صناعة الحاضر والتفكير الجيّد في صناعة المستقبل، كما عرّفنا في الوقت نفسه سنن النكوص والتخلّف والتقهقر تنبيهاً للبشر قاطبة على ضرورة تلافيها، فهل تقتصر وظيفة السنن الإلهية؟ أم أنها تتجاوز ما ألمحنا إليه (3)؟

كما أن دراسة السنن وتدوينها وتوظيفها فريضة دينية لهذه الأوامر الصادقة، التي تهيب بالمسلمين أن يسيروا في الأرض ويمشوا في مناكبها ويعتبروا بأحوال الماضين. إن المسلمين ما قصروا في شيء تقصيرهم في هذا العلم الذي كان النبي “صلى الله عليه وسلم”، والصحابة الكرام من السابقين إلى إدراكه والتعامل معه. أعلى درجات العلم وجعل الإمام الغزالي العلم بالسنن الاجتماعية وحكمتها من أعلى درجات العلم المحمود، ورتبها مباشرة بعد العلم بالله وصفاته وأفعاله، فيقول: وأعلى أقسام العلم المحمود العلم بالله وبصفاته وأفعاله وسننه في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا.

وقد كان رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وصحابته رضوان الله عليهم قدوة ومثالاً يحتذى في فهمه وتطبيقه لسنن الله الكونية والإنسانية، وكان يرشد أصحابه إلى سنن الله في المؤمنين السابقين ليحذوا حذوهم ويقتفوا آثارهم، ويحذرهم من تنكب سنن الله، والسير على سنن المكذبين أو الظالمين، ويبين لهم علل وأمراض الأمم السابقة التي استوجبت حلول سنن العقاب فيها، ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم، وصلاحهم إذا ساروا وفق سنة الله سبحانه وتعالى.

قوة ونصر

ومن فوائد العلم بالسنن الإلهية:

أنه يجنب صاحبه الاعتقاد الخاطئ بأن الكون والحياة تحكمهما المصادفة والفوضى، بل توقفه على ما أودعه الله فيهما من سنن في الجانب الطبيعي، أو الجانب الإنساني، ليس لمجرد المعرفة فقط، بل لبيان أن من يسير وفق سنن الله تعالى، فإنه يلقى في حياته جزاء سيره هذا: الهدى في دينه، والرخاء في معيشته، والقوة والنصر في حياته، أما من خرج عن مقتضى السنن الإلهية في الكون والحياة، فإنه يلقى جزاء ذلك ضلالاً في دينه، وشدة وشقاء في حياته. نتائج طيبة والواقع أن اتباع السنن الإلهية، إذا كان يأتي لصاحبه بنتائجه الطيبة في حياته، فإن ذلك لا يرجع فقط إلى اتباعه لسنن الله الكونية، بل لا بد لتحقيق هذه الغاية من اتباع سنن الله في الحياة الإنسانية، فهما مرتبطان وصادران من مصدر واحد. ولا تقتصر أهمية علم السنن على ما يترتب عليها من الجزاء الدنيوي، بل إنها ترجع كذلك إلى ما يترتب عليها من الجزاء الأخروي اتباعاً لسنن الله تعالى أو خروجاً عليها.. (4).

أعظم فريضة

ثانياً: أهمية دراسة سنة الهدى والضلال وواجب المسلم نحوها:

إذا كانت معرفة سنن الله معرفة لجزء من الدين، وتوظيفها وإحسان التعامل معها ضرورة وفريضة، ومن الواجبات الدينية، كذلك فالعلم بسنة الهدى والضلال أهم ضرورة وأعظم فريضة، وذلك لبيان أن من يسير وفق سنن الله تعالى، فإنه يلقى في حياته جزاء سيره والرخاء في معيشته، والقوة والنصر في حياته.

وإذا كانت دراسة السنن والعلم بها لتعريف المسلمين في كل مكان ببعض حقائق الإسلام العظيم ومعانيه وقوانينه الثابتة، وليجنب صاحبه الاعتقاد الخاطئ بأن الكون والحياة تحكمها المصادفة والفوضى، بل توقفه على ما أودعه الله فيهما من سنن؛ أقول: إذا كان الأمر كذلك فواجب المسلم تجاه هذه السنة أن يؤمن يقيناً بأن الفوز والفلاح لمتبع هدى الله.

وأن الهداية موهبة وفضل إلهي، فعليه أن يؤهل نفسه لقبول الآيات والاتعاظ بها، ويبدي استعداده لقبول هدى الله، ويتدبر ويتفكر في إدراك سنة الهدى، ويتجاوب مع الرسالات السماوية، ويبتعد عن هوى النفس والشيطان، وأن يقتدي بالنماذج التي كتب الله لها الهداية، وأن ينتفع بالأمثلة التي ضربها الله لخلقه في القرآن الكريم.

والأحداث التي تقع أمام عينيه ليل نهار لبيان معنى الهداية إلى الحق، والوصول إليها؛ حتى يكتب له الهدى الحقيقي، ويمده الله بهداه، ويوفقه للبعد عن أهل الضلال. فعندما يقرر القرآن الكريم حقيقة ما آل إليه أمر الضالين؛ فهدفه بث الوعي في المجتمع، ثم إيجاد موقف يترجم ذلك الوعي، مؤداه اكتشاف أسباب الضلال أو أسباب الهدى، والفوز يفرض تلافي الأولى ونهج منوال الثانية.

والعلم بالسنن عامة وبسنة الهدى والضلال خاصة، والعمل بهما لازم للأفراد بذواتهم، وللأمة بأسرها، وذلك لتحقيق الأمن والطمأنينة، والفوز والفلاح للأفراد – كما أسلفنا – وبالنسبة للأمة لتحقيق منهج الله ونصرة دينه، والعودة إلى موقع الشهادة على الأمم، والخيرية عليها. حينها تعود الأمة بحق خير أمة أخرجت للناس، ويكون أفرادها كالجسد الواحد، وتستعيد عزتها وكرامتها وأمجادها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش:

(3،1) السنن الإلهية في القرآن الكريم، دراسة في الوظائف، أ. د: عمار جيدل.

(2) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، ص16 د.عبدالكريم زيدان.

(4) السابق1/7.

Exit mobile version