دور الدعاة في الأمن الفكري (1)

تكابد الأمة المسلمة اليوم، والسودان جزءٌ منها، واقعاً جديداً، تلاشت فيه الحواجز، وانفتحت السماوات

تكابد الأمة المسلمة اليوم، والسودان جزءٌ منها، واقعاً جديداً، تلاشت فيه الحواجز، وانفتحت السماوات، وأصبحت المعلومات والثقافات والأفكار تنتقل من مكان إلى مكان دون أن يمنعها من ذلك مانع. وفي ظل هذا الواقع الجديد، يصبح الحديث عن «الأمن الفكري لأمتنا»(1) ضرورةً ملحة، وواجباً مفروضاً، فنحن نعيش في زمانٍ – برغم ما فيه من تظاهر بقيم حقوق الإنسان، وإيمانٍ بالتعدديات الثقافية والدينية والحضارية – فإنّ القوى المهيمنة عليه تمارس علينا نوعاً من العدوان الفكري، والاستلاب الثقافي، بما في يدها من أدوات وأساليب مكّنتها من بسط هيمنتها وتسلطها بصورة غير معهودة. وما هذه الاتفاقيات – ذات الطابع الثقافي والاجتماعي(2) 

 التي تُلزم الدول بإبرامها، دون تحفظٍ، إلا نموذج فاضح يجسد الرغبة في سحقِ أي مشروع آخر، يُمكن أن يطرح نفسه بديلاً، ولو بعد حين. بل بلغ الأمر بمنظري الفكر الغربي أن يعلنوا في زَهوٍ غير مسبوق، عن مقولتين تمثلان قمة الاستئساد الغربي هما مقولتا «نهاية التاريخ»، و«نهاية الجغرافيا». وما نهاية التاريخ إلا إعلانٌ بأنّ النظام الباقي، الذي لن تجد الإنسانية أفضلَ منه، هو الديمقراطية في السياسة، والرأسمالية في الاقتصاد، ومن أراد أن يبدع شيئاً جديداً فلا سبيل إلى ذلك إلا بعد التسليم بمرجعية هذا الغرب، ومزاولة إبداعه في فضائه. وأمّا نهاية الجغرافيا، المقولة الثانية، فتعلن بأنّ الجبال والبحار، والحواجز الطبيعية لم تعد تمثل موانع في وجهِ القوة الإعلامية الغربية التي تستطيع أن تحرك آلياتها الضخمة متى ما شاءت لتصنع ما تشاء (3). 

ومن هنا فإنّ قضية الأمن الفكري، قضيةٌ حية، نحتاج لمعالجتها أن نتفق على مُسلماتٍ نجملُها في الآتي: المسَلمة الأولى: هي أنّ الرؤية الفكرية بالنسبة للمسلم، ليست مجردَ ثقافة يتسربل بها إن شاء ويخلعها إن شاء، ولكنَّها عقيدة لا تقوم هويته إلا بها، ومن هنا كانت الانحرافات الفكرية التي يبتلى بها بعض أهل الإسلام، أسوأ أنواع الانحرافات وأبعدها ضلالاً، لأنّها تزين لصاحبها أنّه على صواب وغيره على خطأ، وأنّه محقٌ وغيره مبطل قال تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)” (الكهف)، وهذه الآية الكريمة من سورة الكهف تَصدق على أصحاب العقول المنحرفة الذين عدلوا عن منهج الحق، وظنّوا أنهم يحسنون صنعاً، فانتهى بهم هذا الظن الكاذب إلى التمادي في الباطل وعدم الإذعان للحق، وكيف يرجع للحق من يظن في نفسه أنّه يملك الحقيقة وينطق باسمها؟! وواقع المسلمين في ماضيهم وحاضرهم يخبرنا أن الانحرافات الفكرية والعقدية كانت أضرَّ على المجتمع المسلم من الانحرافات التي وقعت بسبب الشهوات وضعف النفس، ودونك فتنة الخوارج، الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرّمية(4)، فالخوارج وإن كانوا من أكثر الناس صدقاً، وبعداً عن الشهوات، وزهداً في الدنيا والملذات، إلا أنهم – بسبب فساد تصورهم وانحراف فكرتهم – سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم، ووقعوا في الطغيان الذي حذر الله منه عباده المؤمنين، قال تعالى: “فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ”(هود). المسَلمة الثانية: ومفادها أنّ الدعوة إلى الأمن الفكري ليست دعوةً إلى الجمود والانعزال، أو محاولة لإخضاع الفكر لمتطلبات الأمن القائم على الحذر والترصد، فالأمن الفكري الذي ندعو إليه لا يتعارض بحالٍ مع مناهج الحكمة القاضية بالانفتاح على الآخرين، والتعايش معهم والتعرف إليهم، والانتفاع بما عندهم. فقد علّمتنا التجارب أن الأمّة كلما مدّت أسباب التواصل مع غيرها، ممن يخالفها في الدين والمعتقد؛ زاد ذلك من قدرتها على تبليغ دعوتها، ونشر حقائق دينها، ونحن نعلم أن صلح الحديبية الذي أمِن فيه الناس، ووضعت الحرب أوزارها سمّاه الله فتحاً مبيناً، ومن أوجه هذا الفتح أنّ عدد الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية يفوق عدد الذين أسلموا منذ بداية الدعوة أضعافاً كثيرة، فالثابت في السيرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، وخرج إلى فتح مكة بعد عامين فقط في عشرة آلاف(5).

 وإذا كانت المقاومة ضرورة من ضرورات الدفاع عن أصالة الأمة، ودرء آفات الشرور عنها، فإنّ الانفتاح المبصر هو السبيل الوحيد الذي يحقق لها التواصل مع الآخرين أخذاً وعطاء، وتبادلاً نافعاً في ميادين الحياة. ولا مراء أنّ هذه المهمة ليست من المُهمات اليسيرة التي يُمكن أن تنال بأقل جهد يبذل، ولكنها مهمة أساسية لا سبيل إلى تحقيقها إلا باستكمال الخصال المؤهلة لها، ومنها خصلتان مدح الله بهما رسله الكرام، هما القوة والبصيرة، فقال جلَّ وعلا: “واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار” (ص:45). 

المسلمة الثالثة: هي أن الأمن الفكري الذي نطالب به لا يتوجه فقط للوافد الخارجي، فهناك أفكارٌ من داخلنا، يروج لها من ينتمي لديننا، ويتكلم بألسنتنا، وهي أفكار ضارّة لا تعبر عن حقيقة الدين، ولا عن التيار الأساسي في الأمة. والتهاون مع هذا النوع من التوجهات الداخلية مضر ضرراً بليغاً بأمننا الفكري، لأنّه يسمح لأصحاب هذه الأفكار أن يتمددوا في فضائنا دون أن يَحُسّ بغربتهم أحد، فهم ينطلقون من الإسلام ويتحدثون باسمه، ويُلبِسُون على النّاس دينهم. ويمكن أن نجمع أصحاب هذه التوجهات – التي تنطلق من مرجعية إسلامية – في تياراتٍ ثلاثة، تمثل تحدياً فكرياً حقيقياً. التيار الأول: هو التيار الطائفي الذي يستند إلى مرجعية شيعيّة غالية، تنبش أحداث التاريخ، وتلفق منها الأباطيل لتهدم في حياتنا الفكرية مرجعياتنا التي نعتز بها ونترضى عليها. والتيار الثاني: هو تيار الغلاة ممن يؤمنون بالعنف طريقاً للتغيير، وينصبون من ذواتهم مرجعيات تفتي النّاس في أدق مسائل العلم والعمل. والتيار الثالث: ولا بأس أن نطيل النَفَس معه قليلاً، هو تيار الإسلام العصراني الذي تقدمه أمريكا على أنّه نموذج للإسلام المعتدل، فقد نشر قبل أعوام خلت معهد «راند»(6) الأمريكي تقريراً، يدعو الإدارة الأمريكية بضرورة السعي لدعم تيار الإسلام المعتدل الذي يفوت الفرصة على المشروع الإسلامي الأصيل، والاعتدال الذي يتحدث عنه هذا التقرير ليس هو الاعتدال الذي نعرفه من ثوابت ديننا، والذي يدعو إليه بعض أعلام عصرنا من العلماء الثقات، إنّ الاعتدال الذي يدعو إليه تقرير معهد «راند»، عبّر عنه بوضوح أشد الكاتب الأمريكي المرموق، والمقرب من صنّاع القرار في بلده «دانييل بايبس» في مؤتمر حاشد دعا إليه عمدة لندن 2007م تحت عنوان «حضارة عالمية أم صراع حضارات»(7) تحدث هذا الكاتب الأمريكي، وأعلن بوضوح أنّ جهود الإدارة الأمريكية سوف تنصب على تشجيع الإسلام المعتدل، الإسلام الليبرالي الذي يتعامل باحترام مع النساء والمثليين والملحدين وغيرهم. ولم يكتف بهذا القول ولكنّه قدم ثلاثة نماذج لرموز هذا الإسلام المعتدل، وهم: «وفاء سلطان، ومجدي علاّم، وسليم منصور» (ثلاثة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون). المسلمة الرابعة: ضرورة تحرير مصطلح «الأمن الفكري» من التوظيف السياسي للأنظمة الحاكمة، فبعض حكوماتنا تريد أن تجعل من الأمن الفكري حجةً تستند إليها في مواجهة خصومها، ومصادرة حقوقهم، وحري بمثل هذه الأنظمة أن تدرك أن زمان المنع والمحاصرة قد ولى، وأن من الخير لها ولشعوبها أن تعمل على استيعاب الأفكار وهضمها وفق مرجعية الأمة المتفق عليها. هذه المسلمات الأربع تحدد لنا الرؤية التي ينبغي للدعاة إلى الله أن ينطلقوا منها، وهم يواجهون الأخطار الفكرية التي لا تقلّ ضراوة عن خطر الجيوش الغازية. 

(*)المراقب العام للإخوان المسلمين في السودان. 

الهوامش :

(1) المقصود بالأمن الفكري هنا «حماية الشخصية المسلمة من الأفكار والتصورات المنحرفة».

 (2) وأشهر مثال لها اتفاقية «سيداو». 

(3) انظر: من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع، لخالد حاجي، ص 121.

 (4) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، (رقم 6930)، و(رواه مسلم، رقم 1066).

 (5) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ج 3، ص 298.

 (6) معهد «راند» مؤسسة بحثية أمريكية تساعد الإدارة الأمريكية في اتخاذ القرار. 

(7) على شبكة الإنترنت(bbc) .

 

Exit mobile version