السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (5)

حين عَرَفَ أعلامٌ مِنْ غير المسلمين بعضَ جوانب الإسلام وأمعنوا قراءتها بعناية توقعوا مَقْدَمَه مستقبلاً

حين عَرَفَ أعلامٌ مِنْ غير المسلمين بعضَ جوانب الإسلام وأمعنوا قراءتها بعناية توقعوا مَقْدَمَه مستقبلاً، انبرى أنفار منهم يحاربونه. مثلما جاء في تقرير اللورد “كامبل”. هل يفعلون ذلك لإحساسهم بمستقبله؟ رَدُّ فعلِهم كان مريضاً مجافياً متجنياً للواقع الإنساني العملي، لإفلاس جهودهم للصد عنه والتحذير من مجيئه، مثلما فعل “ألفريد كانتول سمث” في كتابه Islam in the Modern History و”توماس” بين في كتابه السيف المقدس The Sacred Sword و”توينبي” في كتابه الإسلام والغرب( )، تراهم استماتوا في ذلك، مما جعلهم يُصَنَّفُونَ من أعداء الإسلام، لكنهم كما قال الشاعر: كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنَه الوَعِلُ لكن ما صنعه العلمانيون في بلداننا كان عجيباً غريباً رتيباً، حين أحسوا بمقدم الإسلام إلى الحياة قلبوا ظهر المِجَن وأداروا ظهورهم ووجهوا إليه سهامهم دون غيره، كما فعل المنافقون في المدينة المنورة واليهود بعد معركة “بدر” يوم الفرقان، ظهروا على حقيقتهم وكشفوا عن وجوههم وأعلنوا مواقفهم المعادية بلا وجل: “إذا لم تستحي فاصنع ما شئت”، فلينتهوا أو يتعظوا – حالاً أو بواقعه – الإسلام قادم لا محالة إن شاء الله تعالى. من هذا بدا أحياناً البعدُ عن فهم الإسلام، كما يُرَى من خلال السيرة النبوية – وهو الفهم الصحيح لدين الله تعالى – أن بعض المعالجات الفجة تتجه إلى الأعراض والظواهر لا إلى النفوس والجواهر، مثل أن يكون التوجه في معالجة ظاهرة الخمر إلى تحطيم محلات بيعها.. ولكن لننظر كيف عالج الإسلام تحريم الخمر وتنفيذها، مثلها ارتداء النساء الحجاب.. بينما كما كان الحج يجري في الجاهلية يُتِمّونه أحياناً طواف البيت عرايا حتى النساء، كما تقول إحدهن( ): اليومَ يبدو بعضُهُ أو كلُّهُ وما بدا منه فلا أُحلهُ كيف حَطّمَ الإسلامُ الأصنامَ وغيرَها من مظاهر الجاهلية وكل الانحرافات الأخرى الكثيرة المتنوعة، هل أرسل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أحداً لتحطيمها، وكان الأمر ممكناً، لكن ذلك ليس حلاً ولا علاجاً ولا نافعاً، لأن هذه وغيرها من أمور الجاهلية وكل جاهلية هي مظاهر لِمَا هو كامن في النفوس والرؤوس، فالأصنام مظاهر وأعراض وثمار لأوضاع راسخة في الكيان الإنساني، الذي إذ لَمَّا عولج واستوى واستقام على الطريقة، تولى تحطيمَها عُبّادها الذين كانوا يستميتون في حمايتها: “تجدون الناسَ معادنَ خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا، وتجدون خيرَ الناس في هذا الشأن [الإسلام] أشدَّهم له كراهيةً (حتى يقع فيه)”( )، لذلك كان اهتمام الإسلام بالإنسان أولاً بهذا الأسلوب من التناول التربوي، حيث يتولى رعاية حاله وتربية نفسه وإصلاح غيره، على قاعدة حسن التربية ليطلق في الحياة يقيم الخير كله. 

التشريع الإسلامي يقود إلى معالجة الموجود لينسجم والاستعداد لعلاج الأمور الأخرى دواماً والأخذ بها وكل الأحداث، لابد من البداية ليكون الغرس سليماً سائراً لسلامة الإجراءات، بطريقة توصل إلى النتائج المرجوة وتحقيق الآمال المنظورة للوصول إلى الأهداف الموعودة.. لابد إذن من توافر الأرضية التي عليها يكون البناء، يقودها مَنْ أَعَدّ نفسَه لهذه المهمة المستمدة في كلياتها وجزئياتها من الإيمان بالقيادة وتأدية متطلباتها. اليوم نرى الحركة الإسلامية تعيش بين حجري الرَّحَى، دورانها تحت وطأة الأعداء وسوء فهم بعض الأبناء، لكن الأبناء إن أحسنوا الفهم والبناء وحسن الأداء، يمكنهم إن شاء الله تعالى الخروج من كل هذه القماقم والكمائن والخنادق إلى فسحة من الأرض يمكنها القيام بتوسيع مسيرتها وبناء مستقبلها وإقامة صروحها العالية المنيرة، موئلاً للخير والفضيلة في مجتمع إنساني مثالي: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {53}) (الأنفال)، و(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). لابد من التغيير لدى توافر هذه الأسباب التي تقود بسلاسة لتعافي المجتمع حتى يقوم بحل مشكلاته والاستعداد لكل ما يجد منها بكفاية تامة تغدو مرجعية ونموذجاً مثالاً يُقتدى.. ذلك يقتضي السير في الطريق المرسوم بخطوات ثابتة ونظرة ثاقبة يهبها الله تعالى حين الأخذ بهذا المنهج الفريد، الذي يحمل في ذاته كل هذا الخير وبركاته، ليبدأ التغيير لكل الحياة حين تتغير النفس، بالأسلوب الحسن الذي يقود إلى العافية بعلاج كل سوء والخروج من كل المشكلات. يتم ذلك عند تغيير كل مناهج الحياة، ابتداءً من المناهج التعليمية في كافة الأمور، حتى الجامعية بأعلاها والإعلامية بمواقعها لتكوين مفاهيم جديدة تجعل الحياة منيرة بمنهج الله تعالى مرئية تحيا في الواقع، أمر لازم وضروري وفَعَّال لإحداث التغيير اللازم الشامل للحياة الإنسانية بكل جوانبها، لإنشاء جيل يرتاد القمم بلا عرج ولاعوج ولا أنصاف. الإسلام في تشريعه حين الأخذ به يزيل كافة المشكلات مهما كانت والكثيرة في الحياة، التي عجز كل منهج وضعي عن علاجها وحلها بشكل حقيقي سليم، حيث إنه محسوب مواجهتها من البداية وحلها بانسجام وسلاسة وإحكام تام، كل مشكلات العالم اليوم ومنها مشكلاتنا بسبب البعد عن منهج الله تعالى، الذي به وَحْدَه تُحل كافة المشكلات القائمة والقادمة وكل ما تأتي به الأحوال والتعاملات. ستبقى الحال كذلك ما ابتعد منهج الله تعالى عن الحياة الإنسانية إفراداً وجملة، الذي به وحده تتوافر الحقوق الطبيعية والإنسانية، قبل المطالبة بالواجب، لأن شريعة الله أتت لسعادة الإنسان أنزلها ربنا الكريم الرحيم العليم سبحانه وتعالى. الأزمة الحالية العالمية المحاطة بمجموعة من الأزمات، ظاهرةٌ ترفل بالانحراف، لكنها قامت محفوفة بالآثام من كل نوع كما نراها، سُتِرَتْ وخُدِّرت بما لم يدم فانفجرت، لا يبدو أنها تقوم متعافية منها بسهولة وبمثل هذه الإجراءات..

به يتبين هنا وهناك بمقدار البعد عن الله تعالى وتنحية منهجه. (واقعنا المعاصر، ص 376)، هذه الحضارة الحديثة – رغم قيامها بتكنولوجيتها بعد استمدادها من العالم الإسلامي – لابد أن تنهار وتزول وتنتهي ليرثها من يستحقها ويقيمها على الطريقة: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ {106} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {107}) (الأنبياء)، ألم يتبين أن أفضل أيام الإنسانية كان يوم ساد منهج الله تعالى؟ حل المشكلات في الحياة الإسلامية تأتي طبيعية، مُعَدّة ومهيأة لمعالجة ما يَجِدّ منها، حيث أنزلها الله تعالى لإسعاد الإنسان، لابد أنه بمقدورها كل ذلك، حال ذلك يقوم مقابل عجز كافة المناهج الأخرى، التي تزيد الطين بَلّةً وكالمستجير من الرمضاء بالنار، أراد تكحيلها فعماها، ستلاحق الإنسانية الأزمات التي لا يُذْهِبها غير الأخذ التام بدين الله تعالى. هذا الكلام التنظيري ليس إلا بيان للمسيرة التي بها يتحقق هذا الهدف، يقوم آخذاً بالأسباب التي تتبين منبثقة من السيرة النبوية الشريفة وأحداثها، بها تختفي منذ البداية المشكلات الأساسية وتذهب عنها قاطبة بمجرد التطبيق، لا يغدو لها مكاناً تأوي إليه، مستعدة لما يستجد منها مهما كانت، ذلك يتبين مما جرى خلال القرون التي عاشتها الأمة.. بل إن المشكلات الكبرى القاضية القاصمة التي تواجه العالم اليوم تزول في الحياة الإسلامية بطبيعتها نهائياً، لا تعرفها مجتمعاتها، من أمثال الحقوق الذاتية الإنسانية المرجوة. هذه البلايا التي يغوص بها العالم من مثل الزنا والربا والخمر والعلاقات الجنسية المفتوحة والمعاملات المشبوهة والعداوات المرعبة المرهبة المتعبة، التي أكلت إنسانية الإنسان، قادت إلى سحق سعادته الحقة، لا يمكن أن تزول إلا بعقيدة سليمة مؤهلة، ليس غير الشريعة الإسلامية، حتى لو عالجوها – إن استطاعوا ذلك، الأمر الذي فشلوا فيه – لا تتم إلا بالعقيدة، مثل بقية الأمور، حيث بمنهجه الحق تحل كل المشكلات، لا يتم إلا بعقيدة إلهية متوجة بشريعة شاملة فعالة مؤثرة، الأمر لا يتوافر إلا بالإسلام وحده، التاريخ شاهد ناطق بذلك. إذا أراد الإنسان الاستقامة والاستقرار والسعادة فلا يجلب ذلك له إلا اللجوء إلى الله تعالى والأخذ بمنهجه( )، الذي به كان تكريمه ورفع عن كاهله الرق والعبودية ومنح المساواة للجميع وحماية حقوقهم – نساء ورجالاً وأطفالاً – لم يتوافر ذلك في الحياة الإنسانية إلا بالإسلام: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70}) (الإسراء)، بذلك يستحق الإنسان الاستخلاف في أرض الله تعالى ليعمرها بالخير والفضيلة والحضارة الإنسانية الكريمة المترقية في سلم التكريم( )، ذلك يتم بترسيخ عقيدة التوحيد الخالص بإفراد الله بالعبودية والألوهية والحاكمية وهي دعوة جميع الأنبياء (عليهم السلام): “اعبدوا الله مالكم من إله غيره”، هكذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ينادي بها في المواسم والأسواق والحج: “يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا”، لم يحدث استعصاء لحل مشكلة مع توافر عقيدة صحيحة ومنهج إلهي كريم وقيادة كريمة رحيمة واعية وأَتْباع محبين ملتزمين متفتحين( )، لولا الإسلام لبقيت الجاهلية حتى اليوم وزادت وتمكنت وامتلكت. الوصول لهذا من خلال التربية الإسلامية، لتحقيق المنهج الرباني بكامله ليراه الإنسان واقعاً بكل إمكاناته، ثم ثماره ونتائجه العامة الفارهة دوماً. السيرة النبوية أداة تربوية فعالة وضرورة لازمة، ترينا كيفية النهوض وتحقيق النصر والتمكين حسب سنن الله تعالى.. المسلمون بنوا حياتهم على منهج الله تعالى، من يحبه ويأخذ به يجد فيه الحل لكل ما لديه من مشكلات قائمة. التشريع بذاته حلاً للمشكلات حين الأخذ به، كل أنواع التشريع، خذوا أياً منها المحرمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حالة المرأة والرقيق. حتى تَصل الحياة إلى حالة يتاح المجال فيها لما يمكن أن يتولى حل المشكلات الإنسانية ويُصْبِحُ الإسلامُ هو الحل لكافة المشكلات العالمية بكليتها، ذلك لمن يأخذ به، الأندلس تمثل نموذجاً باهراً، مثل أماكن أخرى في عالمه. 

 

aa.elhajji@hotmail.com 

Twitter: @aaelhajji 

الهوامش:

 (1) واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص 300، له: المستشرقون والإسلام، ص 226 – 227، له: كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص 154، 228 – 229. (2) السيرة النبوية، ابن هشام، 190. البداية والنهاية، ابن كثير، 3/105. (3) البخاري، أرقام:3493، 3496، 3588. (4) جاهلية القرن العشرين، ص 74. (5) المرجع السابق، ص 212. (6) المرجع السابق، ص 43.

 

Exit mobile version