السماحة الإسلامية (1 – 2)

السماحة التي تعني: المساهلة واللين في المعاملات، والعطاء بلا حدود، ودونما انتظار مقابل، أو حاجة إلى جزاء

السماحة التي تعني: المساهلة واللين في المعاملات، والعطاء بلا حدود، ودونما انتظار مقابل، أو حاجة إلى جزاء، إن هذه السماحة في النسق الإسلامي ليست مجرد كلمة تُقال، ولا شعار يُرفع، ولا حتى صياغة نظرية تأملية ومجردة، كما أنها ليست مجرد فضيلة إنسانية يمنحها حاكم ويمنعها آخر.. وإنما هي دين مقدس، ووحي إلهي، وبيان نبوي لهذا الوحي الإلهي، وتجسيد وتطبيق لهذا الدين في دولة النبوة (1 – 11هـ/ 622 – 632م)، وفي دولة الخلافة الراشدة (11 – 41هـ/ 632 – 661م). 

وفي التاريخ الحضاري للشرق الإسلامي منذ ما قبل أربعة عشر قرناً، وحتى هذه اللحظات، بل لأن هذه السماحة هي ثمرة للدين الخالد والشريعة الخاتمة، فإنها ستظل منهاجاً للإسلام والمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

التأسيس القرآني للسماحة 

لقد بدأ القرآن الكريم، فأسس للسماحة الإسلامية على قاعدة الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود.

ففي هذا الوجود هناك: «حق» هو الله، سبحانه وتعالى، و«خلق»، يشمل جميع عوالم المخلوقات، وهناك «واجد الوجود»، وهناك «الوجود» المخلوق «لواجد الوجود».. وفي هذا التصور الفلسفي الإسلامي تكون الواحدية والأحدية فقط للحق، لله سبحانه وتعالى واجد الوجود، بينما تقوم كل عوالم الخلق – المادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والفكرية – أي كل ما عدا الذات الإلهية، ومن عدا الذات الإلهية على التعدد، والتنوع، والتمايز، والاختلاف.. باعتبار هذا التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف قانوناً إلهياً تكوينياً، وسُنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل؛ الأمر الذي يستلزم – لبقاء هذه السُّنة الكونية قائمة ومطردة – تعايش كل الفرقاء المختلفين، وتعارف جميع عوالم الخلق؛ أي سيادة خُلُق السماحة في العلاقات بين الأمم، والشعوب، والثقافات، والحضارات، والمذاهب، والفلسفات، والشرائع، والملل، والديانات، والأجناس، والألوان، واللغات، والقوميات.. فبدون السماحة يحل «الصراع» – الذي ينهي ويلغي ويفني التعددية – محل التعايش والتعارف؛ الأمر الذي يصادم سُنة الله، سبحانه وتعالى، في الاختلاف والتنوع بكل عوالم المخلوقات.

على هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، أقام الإسلام مذهبه في السماحة، باعتبارها فريضة دينية، وضرورة حياتية، لتكون جميع عوالم الخلق على هذا النحو الذي أراده الله تعالى.

تعايش وتعارف

وفي التأسيس القرآني لهذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، نقرأ في آيات الذكر الحكيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الحجرات)، فالإنسانية تتنوع إلى شعوب وقبائل، والسماحة هي السبيل إلى تعايشها وتعارفها في الإطار الإنساني العام.

وهذه الأمم والشعوب والقبائل تتنوع أجناسها ولغاتها، ومن ثم قومياتها، كآية من آيات الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ {22})(الروم)، والسماحة هي السبيل لتعايش الأجناس والقوميات في إطار الحضارات الجامعة لشعوب هذه القوميات.

وهذه الأمم والشعوب تتنوع دياناتها، وتختلف مللها وشرائعها، وتتعدد مناهجها وثقافاتها وحضاراتها، باعتبار ذلك سُنة من سُنن الابتلاء والاختبار الإلهي لهذه الأمم والشعوب.. وحتى يكون هناك تدافع وتسابق بينها جميعاً على طريق الحق وفي ميادين الخيرات؛ (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48})(المائدة)، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود)، والمفسرون لهذه الآيات يقولون عن هذا الاختلاف وذلك التنوع وتلك التعددية في الشرائع والمناهج والثقافات والحضارات: إنها علة الخلق.. وإن المعنى: «وللاختلاف خلقهم»(1).

وبدون السماحة يستحيل تعايش هذه التعددية، التي هي علة الوجود، وسر التسابق في عمران هذا الوجود.

وانطلاقاً من هذا الموقف القرآني، الذي جعل هذا التنوع سُنة إلهية وقانوناً كونياً، كان «العدل» – الذي هو معيار النظرة القرآنية وروح الحضارة الإسلامية – أساس السماحة الإسلامية في التعامل مع كل الفرقاء المختلفين.

عدل وصبر

إن الإسلام، لأنه دين ودولة، وأمة وجماعة، ونظام واجتماع، ليس الدين الذي يخلو من القانون ومن السلطة التي تعاقب المعتدين، وتدين الجناة.. ومع ذلك، فإن سماحته تدعو إلى العدل في رد العدوان وإنزال العقاب والجزاء، بل وتفضل الصبر الجميل على رد العقاب: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125} وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ {126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ {128})(النحل).

كذلك، يوجب الإسلام علينا العدل في النظر إلى المخالفين لنا في الاعتقاد – الذي هو سُنة إلهية – ونحن مدعوون وفق منهاج القرآن ألا نضع كل المخالفين لنا في سلة واحدة، وألا نسلك طريق التعميم الذي يظلم عندما يغفل الفروق بين مذاهب هؤلاء المخالفين ومواقفهم.. وإقامة لهذا المنهاج رأينا القرآن الكريم لا يعمم أبداً في حديثه عن أهل الكتاب وأصحاب العقائد والديانات، وإنما يميز بين مذاهبهم وطوائفهم، فيقول: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {113})(آل عمران)، (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {199})(آل عمران)، (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75})(آل عمران).

والمنطلق الإسلامي لهذا التمييز – المؤسس للعدل والسماحة – هو العدل الإلهي الذي هو فريضة إسلامية جامعة، فالله سبحانه وتعالى، رب العالمين جميعاً: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2})(الفاتحة)، وليس رب شعب بعينه دون سائر الشعوب، والتكريم الإلهي شامل لكل بني آدم؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70})(الإسراء)، ومعيار التفاضل بين البشر المكرمين هو التقوى؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الحجرات)،

التطبيق النبوي للسماحة 

ولأن الإسلام هو الجامع والوارث لكل مواريث النبوات، فلقد تفرد بالسماحة التي جعلته وحده المؤمن بكل الرسل والأنبياء، وبجميع الكتب والصحف والألواح، دون تفريق أحد من رسل الله، عليهم الصلاة والسلام: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285})(البقرة).

ولأن السُّنة النبوية هي التطبيق النبوي للبلاغ القرآني، رأينا احتفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الرسل والأنبياء، فالوحي الذي جاء به في عقائد دين الله الواحد هو ذاته الوحي الذي أوحاه الله إلى الخالين من أصحاب الرسالات: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً {163} وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164})(النساء).

وانطلاقاً من هذا البلاغ القرآني جاء التطبيق النبوي الذي يحتضن بالإيمان كل الرسل والأنبياء، فهم جميعاً أبناء دين واحد، وشرائعهم وأمهاتهم شتى: «الأنبياء إخوة من عَلاَّت، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد»(رواه البخاري ومسلم وأبو داود).>

الهامش

(1) القرطبي: «الجامع لأحكام القرآن»، ج9، ص 114، 115، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.

 

Exit mobile version