حزن خيم على البلاد، دولة وشعباً، وصدمة أيما صدمة، تنكسر من هول وقعها صخور الجبال الرواسي، نزلت فاجعة فقدانك كالصاعقة، على إخوانك ومحبيك في حزب العدالة والتنمية، وفي الحركة الإسلامية بأطيافها، وثـكل أيما ثـكل، حل بشقيق روحك، ورفيق دربك، وتوأم حياتك، ع
حزن خيم على البلاد، دولة وشعباً، وصدمة أيما صدمة، تنكسر من هول وقعها صخور الجبال الرواسي، نزلت فاجعة فقدانك كالصاعقة، على إخوانك ومحبيك في حزب العدالة والتنمية، وفي الحركة الإسلامية بأطيافها، وثـكل أيما ثـكل، حل بشقيق روحك، ورفيق دربك، وتوأم حياتك، عبدالإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية، الذي كنت له العضد الذي يشده، والردء الذي يصدقه ويحصنه، والوزير القريب الذي يشد الله به أزره، ويشركه في أمره.
فلله الأمر من قبل ومن بعد، الذي اختارك لمثواك في عز عطائك، لا يهم متى وكيف، وهو أحكم الحاكمين، وهو الغالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
سيذكرك الذاكرون بما أسلفت معهم في الأيام الخوالي، وسيجمعون من مناقبك، ما يؤلفون به أسفاراً وأسفاراً، عن الأربعين سنة التي قضيتها في الحركة الإسلامية، داعية ومنظماً ومدبراً للشأن العام، إلى أن وافاك أجلك، واختطفك حتفك، وأنت شارد الوعي والحس، ساهم الفكر، مأخوذ بسكرة الهم والتفكير في شؤون البلاد، وحار فيك الناس وتحسروا، لِمَ لـَمْ يسمع منبه القطار وقد كان مدوياً؟ وما عَلِم الناس أن ما أكثر ما قتل القادة السياسيين، شرودهم الذي يستغرقهم في هموم أوطانهم، فتذهب أنفسهم حسرات، أو أزمات قلبية، أو حوادث مميتة.
تعرفت عليك عن كثب، في يوم تاريخي من تاريخ البلاد، كان هو يوم 28 مارس 1981م، لا يعلم واقعه ولا أهميته كثير من الناس، ولكن أولي الأمر، والخبيرين ببواطن الأوضاع، يسجلونه محفوراً في ذاكرة المسار السياسي للوطن، حينما اجتمعنا في الدار البيضاء، نحن نخبة قيادات تنظيم الشبيبة الإسلامية، من البيضاء، والرباط، وفاس، ومكناس، وتطوان، القيادة العشرينية التاريخية، التي أصدرت بعد مداولات ماراطونية دامت يوماً وليلة، القرار التاريخي الشجاع والناضج والخالد في صنع قدر أوضاع البلاد، الذي حمى المغرب من الوقوع في دوامة العنف الإسلامي، القرار التاريخي الذي قضى حاسماً بالقطيعة مع المسار المجهول الذي كان يكتنف تداعيات لجوء القيادة المؤسسة، عبدالكريم مطيع، إلى كنف النظام الليبي، في تلك السنة التي كانت ملتهبة بالتوترات السياسية والعسكرية في العالم العربي والإسلامي والدولي، والتي كان فيها النظام الليبي قاعدة للتنظيمات المسلحة القادمة من أنحاء العالم، الثاوية في معسكرات التدريب، وكان “القذافي” مقدح شرارات الاقتتالات الداخلية في كثير من مناطق العالم.
في ذلك اليوم، كان اجتماعنا يغلي بحدة الجدالات والسجالات الدينية والسياسية والتاريخية، في نقاشات موسعة ومعمقة، واصطراع للرأي بالرأي الآخر إلى الدرجة التي كانت تنشب فيها التوترات، بما تطور بعضها إلى محاولات اشتباك وانسحاب، بين رجال كانوا يرسمون مستقبل المغرب، بوعي كبير، وهمة عالية، وحكمة حريصة على تجنب التهور وتجنيب البلاد مزالق الهلاك.
في ذلك اليوم تعرفنا فيك على رجل كان يشارك في استشراف الأفاق، بالصمت الأريب المعبر، والتدخل الحكيم الموجه، بالتقريب بين الآراء المتباعدة، والتوفيق بين المواقف المتصادمة، وفض النزاعات المحتدمة، تختار من تعابيرك السهل الممتنع، والبسيط العميق.
وقد كنت في مثل أعمارنا الشابة الفياضة بالحماس والاحتداد والارتجال، ولكننا آنسنا فيك ثقلة الشيخ الوقور الكبير، وكأنك أكبر من سنك، كنت رجل الحياء والتؤدة والكلمة الطيبة، التي رسختها فيك مدرستك الأولى، مدرسة رجال الدعوة والتبليغ، فلم تؤثر عليك سنوات انتمائك للشبيبة الإسلامية التي كانت تنجب فينا الشخصية المقتحمة والمندفعة والصدامية، الميالة إلى التحليل والجدال، والنزاعة إلى استقراء الظواهر والوقائع بمنهج الاستبطان والاستفسار والاحتياط، فكنت بطيبوبتك، وترجيحك النوايا الحسنة، تغلب الحكم بظواهر الأشياء، حتى إنك كنت من الذين أخذوا منا بتصديق العرض الذي قدمه لنا مطيع، وهو يحاورنا في ذلك اليوم التاريخي، عبر الهاتف، حينما طلب منا جميعاً، السفر إليه في بيروت، لإكمال الحوار معه، وكنت ممن يهيب بنا أن نجهز أنفسنا لنطير إلى بيروت، كي نستكمل الحوار ونقنع القيادة بالعدول عن الملجأ الليبي، وقد كانت بيروت وقتها سماءً من أمطار قذائف الراجمات والصواريخ والدبابات والمفرقعات، ومسرحاً للاقتتال الطائفي والخراب، لا تصلح للحوار بل للانتحار.
ومنذ تلك الليلة التي افترقنا في عز عتمتها، على البكاء والعناق والتغافر، والعزم القوي على حماية شباب الحركة الإسلامية من حمامات الدم، وصيانة البلاد من الفتن، والدفاع عن مصالح الأمة بالوسائل التي تجمع ولا تمزق.
منذ تلك الليلة وإلى حين وفاتك، وأنت تتسنم ذروة الموقع الطليعي، في صوغ القرارات، وخوض غمار الاختيارات، بدءاً من الجماعة الإسلامية، التي وضعنا جميعاً حجرها الأساس بتاريخ 28 مارس 1981م، ومروراً بالمراحل التي أفضت إلى حزب العدالة والتنمية، وانتهاءً بتحملك المسؤولية السياسية في البلاد كوزير للدولة.
وفي نهاية عام 1981م، وعندما دهست جرافة الاعتقال جماعتنا الوليدة النشأة في تحولها، رغم منهجها الصريح الجديد في المهادنة والمسالمة والمصالحة وطلب التواجد الشرعي والقانوني، والتف حبل الاعتقال حول رقبة البعض منا، من القيادة العشرينية، علال العمراني، وإدريس شاهين، وعبدالإله بنكيران، وعبدالله لعماري، وعبدالرحيم ريفلا، وعبدالله بلكرد، رغم القرار الوطني الشجاع الذي اتخذوه، واختفى القياديون الآخرون من المطاردات الأمنية، وبقيت أنت ظاهراً في منزلك وعملك، ثابتاً كالطود الشامخ، تنتظر الاعتقال ساعة بساعة، بلا اضطراب ولا وجل، ولكن الله عز وجل حماك من شرور الاعتقال، وبقيت في غيبة المعتقلين والمختفين تصرف شؤون الجماعة، إلى جانب إخوانك من الدار البيضاء، العربي لعظم، وعبدالكريم حميم، والعربي بلقايد، تهيئون جميعاً شروط الانتقال بالجماعة إلى الوضع القانوني.
هدوؤك الرخاء، وثباتك الراسخ، لمسته فيك عن قرب، عندما فررت من قبضة الاعتقال أثناء مكوثي في الضيافة الأمنية فترة من الزمن، فآويت إلى الرباط بعد أن اشتعل البحث عني في الدار البيضاء، فوجدت فيك الرجل الذي لا يتلجلج ولا يضطرب ولا يتردد في خدمة أخ له طريد مبحوث عنه من الشرطة السياسية، وكنت تحترم إرادتي في اختيار الاختفاء سبيلاً، على عكس شقيق روحك عبدالإله بنكيران الذي كان يستهجن هذا الاختفاء، كلما لاقيته في فترات تسريحه، إشفاقاً منه على المرحوم والدي، الذي زج به في الاعتقال، كوسيلة من البوليس للضغط عليَّ من أجل تسليم نفسي للشرطة، والعودة إلى زنازين الاعتقال.
لن أرثيك بأن أحكي عنك، ما أصبحت به خلالك وخصالك، ناراً على علم، ولكن أحكي عنك مالا يعرفه الناس من خبايا حياتك، وما كنت تبقيه بينك وبين الله، لا تعلنه ولا تفاخر به ولا تختال به كما يفعلون.
ففي سنوات الرصاص، وعندما كنا نقبع في السجون، بعد عام 1984م، وقد كنا ثلاثة، من تلك القيادة العشرينية التاريخية، لعماري وريفلا وبلكرد، قد أقحمنا في محاكمات الحكم بالإعدام والسجن المؤبد وغيرها من ثقيل الأحكام، نال بأسه العشرات من الشباب الإسلامي الغض، في زمن قل فيه الناصر لهؤلاء المعذبين، وقلَّ فيه الداعم والمؤازر، وتباطأ فيه كثير من الإسلاميين الرافلين في نعيم الحرية والخلاص، عن تقديم العون، واقتسام الكرب، كنت أنت حاضراً، تتحدى المخاوف، وتتسلل بانتظام من أعبائك ومشاغلك والتزاماتك، لتكون في الموعد مع المعتقلين الإسلاميين، حينما كانت تأتي بهم الإدارة السجنية من السجن المركزي بالقنيطرة إلى مستشفى البويبة، قرب باب الأحد بالرباط، للاستشفاء ومواعيدهم مع أطباء الاختصاص.
وكم قضيت مع رفاق محمد بهاج وأحمد الحو، الساعات الطوال، بمستشفى البويبة، مجالساً ومؤانساً ومواسياً ومطمئناً باقتراب الفرج الإلهي، ومتحفاً لهم بما تأتي به من المساعدات الغذائية والإعانات المالية، حتى أصبحت لهم رفيقاً معتاداً، يستبد بهم القلق كلما افتقدوك، بل إنك ولشدة حدبك على عائلات المعتقلين الإسلاميين عَرَّفت نساءهم على السيدة الطيبة نبيلة بنكيران، والتي هي في مثل طيبتك وحيائك وكرمك، حَوَّلت منزلها إلى نقطة عبور لنساء المعتقلين يجهزن منه الأطعمة والمؤن الغذائية نحو السجن المركزي بالقنيطرة.
ولن ينسى لك السجن المركزي حضورك المضبوط السنوي، كل عيد أضحى، محملاً بأضاحي العيد لإخوانك المعتقلين الإسلاميين، تبعث فيهم الفرحة والحبور، وتزرع الأمل والضياء في دياجير ظلماء السجون.
وإن أنـْسَ، فلن أنسى لك الموقف الكريم النبيل، في يوم من أيام عام 1995م، بعد أن كنت قد أفرج عني، بعد عشر سنوات، وتركتُ خلفي إخواناً لي في السجون، وكان أحدهم قد رزق بمولود، وكانت الإدارة السجنية قد أباحت العلاقات الزوجية للمعتقلين السياسيين بعد أن سمح الملك الحسن الثاني لليساري السرفاتي بالزواج في السجن، وقد أخبرتـُك بذلك، ولم يكن في نيتي سوى اختبار عزمك، فيما إذا كنت لا تزال على سمتك أم أن تعاظم المهام القيادية قد أبطأ بك، ولكنك أبهرتني حينما قدمت أنت والأخ زويتن المسؤول التنظيمي بمدينة سلا على رأس موكب من الإخوان، محملين بكبش العقيقة، وبهدايا العقيقة وفيرة سخية، ومرفوقين بفريق الإنشاد، وكاميرا التصوير، ودخلتم بأهازيجكم الإسلامية إلى حيث يقيم أصهار الأخ المعتقل، وسط زغاريد نساء الجيران وإعجابهم، بما رفع رأس الزوجة النفساء عالياً، ورفع عن أسرتها الحرج بين الجيران، الذين شهدوا على احتفال صفوة الدعاة الإسلاميين بعقيقة المعتقل، وبما أدخل السرور العظيم على هذا الأخير في زنزانته، ما أحس به وكأنما هبت عليه نسائم جنات الخلد.
فلله درك من رجل حيي جواد كريم، وطوبى لك بما قدمت لنفسك بين يدي الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وقد كان أكبر عطائك للحركة الإسلامية وللبلاد، أنك لازمت رجلاً، هو السيد عبدالإله بنكيران، كان من الممكن أن ينطفئ وهجه في رحلة طريق الدعوة الشاق اللاحب، كما انطفأ وهج الكثيرين من خيرة ذوي الطاقات الوقادة، ولكن مصاحبتك له حولته إلى قائد ناجح من قادة الحركة الإسلامية، استطاع أن يشق بإخوانه دروب العمل نحو سبل السلام، معتلياً بشجاعة، صعاب المفاوز والمكاره والمنزلقات، عندما كنت له الضمير الواعظ، والقلب النابض، والنجم الهادي له في حوالك الدياجي المظلمة، والبوصلة المرشدة في صحراء التدافع من أجل خدمة الشأن العام، ومغالبة اليأس، الذي ما أكثر ما غالب أصدق المخلصين لقضايا الناس.
ثم ولما آلت بعض من سياسة البلاد إلى حزب العدالة والتنمية، كنت بحق وزيراً للدولة، ظهيراً لرئيس حكومتها، مقرباً لرأيه بين الشركاء، ووسيطاً له بين الفرقاء، ومبدداً للغيوم والأجواء المتلبدة، لأنك كنت تبعث الأمل بالكلمة الطيبة، تلك التي انغرست فيك منذ التربية الإيمانية الأولى، فصَيَّرَتـْكَ إلى معين للضياء والبهاء، فما أصدق الاسم على المسمى، فلمثلك تبكي البواكي، وعلى مثلك تبكي السماء والأرض، طبت يا أخي حياً وميتاً، ورفع الله لك ذكرك في الملأ الأعلى، كما رفع الله ذكرك في الأرض، وتقبلك الله في الشهداء.
(*) عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة