تحرص الدول القوية المتقدمة على الحوار بين مواطنيها، وإرساء قواعد التفاهم بين أطياف مجتمعها دون إقصاء لطرف، أو استئصال لطرف آخر؛ فمن التنوع تنشأ الوحدة وفقاً لمصطلح الشورى الإسلامي القائم على المساواة والعدل والإحسان، فتتحرك المجتمعات المتقدمة نحو مزيد من القوة، وإثبات الوجود أمام المجتمعات الأخرى.
في العالم المتخلف، تبدو الصياغة الفكرية حفية بالرأي الواحد، والاتجاه الواحد، والحزب الواحد، مع نبذ الآخرين وإقصائهم؛ بل استئصالهم أحياناً بالقمع أو التصفية، ولذا تراوح مجتمعات التخلف مكانها، وتتراجع إلى الخلف باستمرار، مهما امتلكت من عناصر الامتياز الاقتصادي، أو الجغرافي، أو التراث الحضاري، وتبدو في كل الأحوال عالة على الآخرين، ولا بأس لديها أن تفرط في الدين والسيادة والاستقلال وقبول الخضوع لإرادة الأقوياء، بل إنها كثيراً ما تطلبه منهم دون خجل أو حياء!
ولمداراة الخجل والحياء، فإن المجتمعات المتخلفة تلجأ إلى الديماجوجية والتدليس، والدخول في لعبة المصطلح المضلل أو المصطلح المراوغ كي تغطي على ضعفها، ووجودها الذليل.
من أشهر هذه المصطلحات المراوِغة التي تحمل أكثر من معنى: الحداثة والعولمة والتنوير والمدنية والإبراهيمية والتقدمية والظلامية والرجعية والأصولية والماضوية والإسلام السياسي.
وقد راج في العقدين الأخيرين مصطلح «الإسلام السياسي»، الذي استخدمه الغرب الاستعماري لغرض خبيث، وهو وصف من يقاومون الهيمنة الظالمة، ويسعون إلى استقلال بلادهم الإسلامية، ورفض النمط الثقافي الغربي أو التهويدي.
تقول الموسوعة الشهيرة «ويكيبيديا»: «الإسلام السياسي» مصطلح ظهرَ حديثاً بسبب انعزال الأقطاب الدينية في العالم الإسلامي عن السياسة، فالإسلام في منظور المسلمين «الأصوليين» -كما تسميهم الموسوعة- مجموعة من الأفكار والأهداف السياسية النابعة من الشريعة الإسلامية، إذ إن الإسلام «ليس عبارة عن ديانة فقط وإنما عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة»، ويستخدمون عوضاً عنه «الحكم بالشريعة أو الحاكمية الإلهية».
في مقال بعنوان «هل هناك إسلام غير سياسي؟» كتبه حسام الدين محمد في جريدة «القدس العربي»، في 28/10/2021م، تناول موضوع «الإسلام السياسي» من جوانب متعددة، وقدم خلاصة جيدة للسياق العام الذي يعيش فيه الإسلام والمسلمون المعاصرون في البلاد الإسلامية، وقال: «تغيّب الأيديولوجيات، والمفاهيم المجردة، أحياناً كثيرة، الأسئلة الأساسية، وهي أسئلة السلطة والقوة والمعرفة، وقد أدى مفهوم «الإسلام السياسي» ربما أكثر من أي اصطلاح آخر ضمن الفضاء السياسي العربي دوراً كبيراً في التضليل، وإبعاد أسئلة السلطة والقوة والمعرفة، بإخضاعه المتكرر لتأويلات توظيفية للأطراف المستفيدة منه أو المختصمة حوله، يختلف، لهذا السبب، اعتماد بعض كتَّاب أو أنصار الحركات الإسلامية لمصطلح «الإسلام السياسي» في سياقه العام، عن السياق الغربي الذي نشأ فيه، كما أنه يختلف عن استخدامات أخرى له، من قبل مناهضي الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي والعربي..».
وأشار في تضاعيف مقاله إلى الانتقائية التي تتعامل بها بعض السلطات مع الدين: «يعني هذا فعلياً تدييناً انتقائياً للسياسة، فحين تتدخل السياسة في شؤون المسلمين، كأقليات دينية، يكون هذا ممارسة للعلمانية، أما حين يحاول المسلمون الدفاع عن أنفسهم، ضد أشكال اضطهاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، يصبح ذلك «إسلاماً سياسياً»، وقد وصل ابتذال هذا الاستخدام، في فرنسا، إلى حد انتقاد وزير الداخلية لوجود أقسام خاصة بالمنتجات الحلال في المتاجر، أو اقتراح أحد المرشحين للرئاسة، «إريك زمور»، العودة لقانون فرنسي يمنع تسمية الأطفال بـ«محمد».
من أهم ما تضمنه مقال حسام الدين محمد قوله: «يفترض مصطلح «الإسلام السياسي» وجود إسلام غير سياسيّ، والمثال المستخدم عادة هو بعض المؤسسات الصوفية التي ترفض الاشتغال بالعمل السياسي، لكن المقصود، فعلياً، هو احتكار الرأسمال الرمزي للدين واستخدامه في مؤسسات لصالح النظام، كما هي حال وزارات الأوقاف، والمنظمات الصوفية والسلفية والقمعية/الدينية («القبيسيات» «النهي عن المنكر» «المداخلة» إلخ)، وهذا هو «الإسلام السياسي» المقبول، ومثله «الدين الإبراهيمي» الذي يتم الترويج له الآن!
اتهام.. واتهام!
الطريف أن القوم على مدى قرنين من الزمان كانوا يتهمون المسلمين بافتقادهم لوجود نظرية أو نظريات سياسية إسلامية تماثل ما لدى الغرب، وخاصة ما يتعلق بالعقد الاجتماعي بين السلطة الحاكمة والشعب، وهم اليوم يتهمونهم بما يسمى «الإسلام السياسي»! وبالطبع فهم يتجاهلون شمولية الإسلام، وحيويته في صناعة الأمة وبناء مجتمعاتها، ويوم أصدر علي عبدالرازق كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» (عام 1924م)، لينفي وجوب قيام حكومة في الإسلام تحت ذريعة أنها ليست واجبة، فقد تصدى له كثيرون، ولعل أدق ما صدر في هذا الشأن الكتاب المهم للدكتور محمد ضياء الدين الريس، الذي صدر بعنوان «النظريات السياسية الإسلامية» (طبع مرات عديدة)، وقد عرضت له تفصيلاً قبل نحو ثلاثة أعوام، ثم تلاه كتابه «الإسلام والخلافة في العصر الحديث» (بيروت 1976م)، ليدحض ما جاء في كتاب علي عبدالرازق بالمنطق والعلم والدليل والبرهان.
ويثبت الكتاب أن المسلمين فكروا في السياسة، وكوَّنوا لهم نظريات عنها، غير أن بحثهم كان تحت اسم آخر، وكانت لغتهم غير مألوفة في العصر الحاضر، ولم يعد هناك شك في أن النظام الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه بالمدينة إذا نظر إليه من وجهة مظهره العملي، وقيس بمقاييس السياسة في العصر الحديث؛ يمكن أن يوصف بأنه نظام «سياسي» بكل ما تؤديه هاته الكلمة من معنى، وهذا لا يمنع أن ينعت في الوقت نفسه بأنه «ديني»؛ لأن حقيقة الإسلام شاملة؛ تجمع بين شؤون الناحيتين المادية والروحية.
ويستشهد د. الريس ببعض آراء المستشرقين وأقوالهم الصريحة القاطعة ليقنع نفراً من المتأثرين بالرؤى الغربية أن الإسلام يرتبط بالسياسة، ويربط الدين بالدولة، وأكتفي ببعض هذه الأقوال هنا:
1 – يقول «د. فيتز جيرالد»: «ليس الإسلام ديناً فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضاً، ومع أنه ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم «عصريون» يحاولون الفصل بين الناحيتين؛ فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر».
2 – ويقول «أ. نللينو»: «لقد أسس محمد في وقت واحد ديناً (A Religion)، ودولة (A State)، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته.
3 – ويقول «د. شاخت»: «على أن الإسلام يعني أكثر من دين، إنه يمثل أيضاً نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول: إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً».
وهذه شهادة طه حسين الذي يراه بعضهم ابناً للمدنية الغربية وليس ابناً للحضارة الإسلامية، وإن كان العكس هو الصحيح، فهو ابن الإسلام، مع كل شطحاته، ويعرف الثقافة الغربية وعناصرها جيداً، وتبرز شهادته هنا لتقدم لمن ينكرون العلاقة بين الإسلام والسياسة درساً علمياً مفيداً؛ حيث يقول: «وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب، وبلغت من رقي، وعلى ما بلت من فنون الحكم، وصور الحكومات أن تنشئ نظاماً سياسياً يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس؛ على النحو الذي كان أبو بكر، وعمر، يريدان أن يحققاه..» (الفتنة الكبرى 1، عثمان، ص6)، لقد عرف الإسلام أبرز النظريات السياسية، مثل:
1 – خلع الولاة.
2 – رد دعوى قريش، وامتيازها على سائر العرب.
3 – آراء عبدالله بن سبأ، وتأسيسه لما ذهب إليه الشيعة، ونظرية «الوصاية».
4 – نظرية أبي ذرّ الاشتراكية.
وقد فرّق المسلمون بين مصطلحات الإمامة، والخلافة, والملك (الكسروية والقيصرية) والإمارة، وتحدثوا عن نشأتها، والارتباط بمصطلح «الإمامة» الذي ثار حوله جدل كبير بين الفرق والمذاهب المختلفة، ورأى جمهورهم أن التعريف الحقيقي للإمامة هو الحكومة الإسلامية الشرعية، أو كما نقول اليوم «الدستورية»، أو بعبارة تعيّن المعنى وتحدده: «الحكومة التي تكون الشريعة الإسلامية قانونها»، قانونها الأكبر أو الأم، وهو ما نسميه اليوم بالدستور، وقانونها الفرع، وهو مجموعة الأحكام التشريعية التي تنظم بها حياة الأمة، سواء كانت تلك الأحكام تتعلق بالمعاملات المالية، أم الأحوال الشخصية، أم المسؤوليات الجنائية، أم غير ذلك، وهدف هذا القانون هو تحقيق مصالح الناس في حياتيهم الدنيوية والأخروية، أو بعبارة أخرى: تحقيق مصالحهم المادية والروحية، فليست إذن هي الحكومة التي تعمل وفقاً للقانون «الطبيعي»؛ قانون «طبيعة الفرد»، وهي المؤلفة من الغرائز والنوازع الذاتية، قانون الأثرة والاستبداد وقهر الناس لبلوغ غايات المجد أو الثراء أو التحكم، أو بعبارة أخرى: الحكم الذي تحدد وجهاته الأهواء والشهوات. (انظر: النظريات السياسية الإسلامية، ص 126 – 127).
نتائج مضحكة
يأتي بعد ذلك كله أشخاص يزعمون أنهم كتَّاب وباحثون فيقيمون أحكامهم على وجود ما يسمى «الإسلام السياسي»، ويرتبون عليه نتائج مضحكة لا وجود لها في التفكير السياسي الإسلامي الذي يشكل تراثاً ضخماً منذ صدر الإسلام حتى اليوم، ويختلف تماماً عما يقصدونه بـ«الإسلام السياسي»، فيقول محمد سعيد العشماوي: إنه يأسف لأن الصيغة المطروحة للإسلام محلياً وإقليمياً وعالمياً هي صيغة «الإسلام السياسي» التي لا تقبل أي حوار بالعقل أو اجتهاد بالفكر، ويرى العشماوي أن شعار «الإسلام هو الحل» كلمة حق يراد بها باطل، ومجرد شعار تترجم ممارساته في تدمير المجتمع وتوطئة الأسباب للثورة على الحكومة والناس وإباحة اغتيال الخصوم وأكل أموال الناس بالباطل وتضليل العوام وتدمير صورة الإسلام وتشويه شكل الشريعة!
وهذا كلام سخيف قاصر لا يستحق الرد، وقد أوردته بأسلوب مخفف، لأخلصه من الركاكة والضعف التعبيري، وأيضاً الكراهية المقيتة للتشريعات الإسلامية، الموروثة عن ثقافة التهويد والتغريب، التي لا تقبل بالإسلام، ولا التعايش معه، لأنه يمثل خطراً عليها وعلى أطماعها العدوانية.
إننا نسأل: هل كانت دولة المدينة الإسلامية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم نظاماً سياسياً إسلامياً شاملاً، أم كانت مسألة روحية بعيدة عن الاشتباك مع قضايا الحرب والسلام والعمل والإنتاج، والاقتصاد والتجارة، والثروة والفقر، والعلم والثقافة؟
الغريب أن الذين يتحدثون عن «الإسلام السياسي» وفشله، لا يتحدثون أبداً عما يسمى «الديانة الإبراهيمية» الجديدة التي يروج اليهود والغرب في بلادنا من أجل أن نتخلى عن القدس وفلسطين، وتهيئ لدولة يهودية من النيل إلى الفرات، ولا يرون فيها ربطاً بين الدين والسياسة، ولا تجارة بوحي السماء!