رغم قرارها بإجلاء قواتها عن أفغانستان بعد 20 عاماً من احتلالها، ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية ترغب بدور لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في البلاد لأسباب متعددة، وقد اقترح الرئيس الأمريكي في قمة «الناتو» الأخيرة على نظيره التركي استمرار بلاد الأخير في إدارة مطار كابول الدولي وتأمينه؛ وهو ما رد عليه أردوغان بالإيجاب إذا توافرت المتطلبات الأساسية لذلك.
تنظر تركيا لأفغانستان من زاوية مختلفة عن الولايات المتحدة ومن خلفها «الناتو»، إذ إنها ورغم قبولها المبدئي للبقاء في كابول لإدارة المطار، فإنها تضع نصب عينيها مصالح ومكاسب مختلفة عنهما؛ بالنسبة لواشنطن و»الناتو» فإن بقاء المطار عاملاً ومؤمَّناً يعني فتح جسر تواصل لأفغانستان مع الخارج، وحماية للبعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية العاملة في البلاد، وإمكانية مد يد العون للحكومة المركزية إذا احتاجتها، فضلاً عن استمرار الدور والنفوذ في أفغانستان.
لأفغانستان أهمية إستراتيجية لتركيا بسبب تجاورها مع آسيا الوسطى والجمهوريات التركية ذات الأهمية الاستثنائية لأنقرة
بالنسبة لأنقرة، ثمة فروقات في المصالح والمكاسب المتوقعة؛ فالبقاء بالنسبة لها استمرار في ممارسة الدور والنفوذ بالتأكيد، لكن يضاف لها أمور أخرى؛ فأفغانستان دولة مهمة بحد ذاتها بالنظر لموقعها الجيوسياسي، وكذلك لها أهمية خاصة بالنسبة لتركيا لتجاورها مع آسيا الوسطى والجمهوريات التركية ذات الأهمية الاستثنائية لأنقرة، وهي مهمة من زاوية التنافس مع قوى عالمية وإقليمية مهمة ستسعى لملء الفراغ بعد انسحاب الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا وإيران وباكستان، فضلاً عن الدور الذي تريد أنقرة ممارسته في عملية إعادة الإعمار وبعض المجالات الأخرى.
كما أن تركيا ترغب في استثمار نظرة الأفغان غير السلبية تجاهها، إذ لم تنخرط على مدى سنوات مكوثها في أفغانستان في أعمال قتالية ضدهم، واكتفت بمهام التأمين والتدريب وما إلى ذلك، وهو أمر، من وجهة نظرها، يؤهلها لممارسة دور مهم في مستقبل أفغانستان والوساطة بين مختلف الأطراف السياسية.
ويضاف لكل ما سبق، وربما يوازيه، أن الملف الأفغاني مثل لتركيا ورقة تفاوض قوية مع الولايات المتحدة في مرحلة كانت الأخيرة تشدد ضغوطها عليها في عدة ملفات مثل سورية ومنظومة «S400” ومقاتلات “F35” وغيرها، وقد مثل لقاء “أردوغان” بـ”بايدن”، على هامش قمة “الناتو” في بروكسل، الذي ناقشا فيه بقاء قوات تركية في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، محطة تهدئة في العلاقات المتوترة بين الجانبين.
لكل ما سبق، فقد أبدت أنقرة موافقة مبدئية على قبول المهمة في أفغانستان، على أن تتلقى من الولايات المتحدة الأمريكية دعماً ثلاثي الأبعاد؛ سياسياً يتمثل في الغطاء الدولي، ولوجستياً يشمل بعض الأسلحة والمعدات، ومالياً يتضمن تغطية نفقات إدارة المطار وتأمينه، ورغم أن واشنطن أبدت بعد مباحثات معها موافقتها على ذلك، فما زال في الطريق عقبات مهمة قد تحول دون قبول أنقرة النهائي بالمهمة.
التطورات الميدانية الأخيرة تجعل بقاء قوات تركية بأفغانستان مخاطرة كبيرة بالإضافة للعقبة الكبرى موقف «طالبان»
العقبات
التطورات الميدانية مؤخراً في البلاد تشير إلى استمرار حالة عدم الاستقرار، وترفع من مخاطر الحرب الأهلية، وهو أمر قد يجعل بقاء قوات تركية على أراضي أفغانستان مخاطرة كبيرة، لكن العقبة الكبرى في الأمر هي موقف حركة «طالبان» المعلن ضد بقاء تركيا.
وقد عبرت «طالبان» عن هذا الموقف بطرق مباشرة وغير مباشرة؛ فمن جهة لم ينعقد المؤتمر الدولي بخصوص أفغانستان في إسطنبول في أبريل الماضي كما كان مقرراً، ولم يحدد له موعد لاحق، بما يشير لتعقيدات كبيرة تعترض عقده من بينها موقف «طالبان»، كما أن الأخيرة شاركت مؤخراً في جولة حوار مع الحكومة الأفغانية في إيران، ثم استأنفت التفاوض معها في الدوحة، وهي إشارات لا تخفى عن موقفها تجاه أنقرة.
هذا الموقف الضمني عبر عنه صراحة بعض المتحدثين باسم الحركة، مثل محمد نعيم، وذبيح الله مجاهد؛ حيث ذكّرا تركيا بأنها عضو في حلف «الناتو»، وبالتالي فاتفاق الانسحاب يشملها كذلك، وحذرا من أن بقاءها في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي سيحولها بنظرهم إلى «دولة احتلال»، بما يُفهم ضمناً على أنه تهديد بالاستهداف.
وقد أصدرت «طالبان»، في 13 يوليو الماضي، بياناً حول احتمال بقاء القوات التركية في البلاد، عادَّةً إياها في هذه الحالة احتلالاً أجنبياً ينتهك استقلال أفغانستان وسيادتها، ومحذرة من استهدافها وفق «فتوى الجهاد» التي أصدرها «1500 من علماء أفغانستان الأفاضل»، وفق البيان.
«طالبان» تريد من تركيا دوراً يمثلها بشكل منفرد بعيداً عن «الناتو» وأمريكا وبناء علاقة على هذا الأساس
بيد أن البيان المذكور وتصريحات الناطقين لم تخل كذلك من إشارات إيجابية لتركيا كـ»دولة مسلمة» تريد «طالبان» نسج علاقات تعاون معها؛ ما يعني أن الأخيرة ليست ضد كل دور وأي دور لتركيا في البلاد بالمطلق، ما يفهم من موقف «طالبان» أنها لا تريد لتركيا أن تبقى في أفغانستان نيابة عن حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، أو أن تمارس أدواراً تخدمهما، وإنما تريد لها أن تؤدي دوراً يمثلها بشكل منفرد، وأن تبني علاقة على هذا الأساس مع أفغانستان، وأن تقيم حواراً مباشراً مع «طالبان».
أما العقبة الثانية، فهي عدم توافق الداخل التركي على فكرة البقاء في أفغانستان؛ ذلك أنه في سورية والعراق وحتى ليبيا، لا تعترض أحزاب المعارضة التركية على تواجد قوات بلادها هناك من باب الأمن القومي للبلاد، إلا أن عدداً من أحزاب المعارضة عبر علناً عن انتقاده لبقاء جنود أتراك في أفغانستان، ورفض سردية الحكومة بأن الأمر مرتبط بأمن تركيا القومي.
هذا الرفض من قبل شرائح حزبية وشعبية يزيد من الضغوط على الحكومة التركية، ويجعلها حريصة كل الحرص على تأمين القوات التي قد تبقى في أفغانستان؛ لأن أي استهداف لها قد تكون له فاتورة وثمن داخلياً، ولا سيما والانتخابات الرئاسية والبرلمانية تقترب.
الخلاصة:
لقد أبدت أنقرة موافقتها المبدئية على البقاء في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، إلا أنها لم تبُتّ بعدُ في قرارها النهائي بخصوص الأمر، ولا سيما في ظل موقف «طالبان» المعلن والسلبي من الأمر، وهو أمر تضعه تركيا في الحسبان وتعرف تأثيره الكبير؛ إذ قال «أردوغان» في لقائه مع «بايدن»، في يونيو الماضي: إنه لا يمكن تجاهل ما أسماه «حقيقة طالبان» في أفغانستان.
ووفق المعطيات الظاهرة حتى اللحظة، قد يبدو أن تركيا لن تستطيع البقاء في كابل، وأن إصرارها على ذلك سيدخلها في صراع مباشر مع «طالبان»، وبالتالي تكون قد تورطت بما أنقذت الولايات المتحدة جنودها منه، لكن التدقيق في التفاصيل يوحي بوجود خيارات أخرى.
«طالبان» في حاجة لهمزة وصل مع المجتمع الدولي في محاولة للحصول على اعتراف بها وتعاون معها
فما بين سطور بيان «طالبان» وتصريحات قياداتها رغبة واضحة في الحوار مع تركيا؛ ما يعني إمكانية توصل الجانبين لاتفاق أو تفاهم ضمني ما، ينبغي ألا يُنسى أن «طالبان» في حاجة لهمزة وصل مع المجتمع الدولي في محاولة للحصول على اعتراف بها وتعاون معها، وتركيا بالنسبة لها خيار مقبول جداً في هذا الإطار، وقد أظهرت الحركة مؤخراً نضجاً سياسياً بمستوى كبير، وحصلت على مكاسب كبيرة من مفاوضاتها مع الولايات المتحدة وقبول الأخيرة الانسحاب دون أي التزامات من قبل «طالبان» أو اتفاق سلام مثلاً، وهي مكاسب تريد أن تبني الأخيرة عليها الآن لا أن تضيعها.
كما أن الرئيس التركي قال أكثر من مرة: إن بلاده معنية بالحوار مع «طالبان»، مؤكداً أن بلاده ليست دولة احتلال، بل تسعى لخدمة المصالح المشتركة للشعبين التركي والأفغاني، وأن لديها ما تفيد به أفغانستان، وقد قال بشكل واضح في حديثه يوم عيد الأضحى في الـ20 من يوليو الماضي: إن وزارة الخارجية التركية ستحدد الخطوات المقبلة في هذا الإطار.
وبالتالي، علينا أن نتوقع جولات من الحوار بين تركيا وحركة «طالبان»، تبني على التواصل السابق بينهما، وهو أمر ممكن الحدوث قريباً إما بشكل مباشر أو عبر وسطاء لهم علاقات جيدة مع الطرفين، مثل قطر أو باكستان.
___________________________________________
(*) محلل سياسي مختص بالشأن التركي.
المقال منشور بالعدد الورقي الصادر 1 أغسطس 2021م.