شرعية العمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة *

تساءل الكثيرون بعد التفجيرات الأخيرة التي تمت في القدس، وتل أبيب، وعسقلان، وقُتل فيها من قتل من “الإسرائيليين”، نتيجة العمليات الاستشهادية التي قام بها شباب من حركة المقاومة الإسلامية (حماس).. تساءلوا عن حكم هذه العمليات التي يسمونها “انتحارية”؛ هل تعد جهاداً في سبيل الله أم إرهاباً؟ وهل هؤلاء الشباب الذين يضحون بأنفسهم في هذه العمليات يُعتبرون شهداء أم يعتبرون منتحرين، لأنهم قتلوا أنفسهم بأيديهم؟ وهل يعتبر عمل هؤلاء من باب الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي نهى عنه القرآن في قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)؟

وأود أن أقول هنا: إن هذه العمليات تعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، وهي من الإرهاب المشروع الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).

وتسمية هذه العمليات “انتحارية” تسمية خاطئة ومضللة، فهي عمليات فدائية بطولية استشهادية، وهي أبعد ما تكون عن الانتحار، ومن يقوم بها أبعد ما يكون عن نفسية المنتحر، إن المنتحر يقتل نفسه من أجل نفسه، وهذا يقتل نفسه من أجل دينه وأمته، والمنتحر إنسان يائس من نفسه ومن روح الله، وهذا المجاهد إنسان كله أمل في روح الله تعالى ورحمته، المنتحر يتخلص من نفسه ومن همومه بقتل نفسه، والمجاهد يقاتل عدو الله وعدوه بهذا السلاح الجديد، الذي وضعه القدر في يد المستضعفين ليقاوموا به جبروت الأقوياء المستكبرين، أن يصبح المجاهد “قنبلة بشرية” تنفجر في مكان معين وزمان معين في أعداء الله والوطن، الذين يقفون عاجزين أمام هذا البطل الشهيد، الذي باع نفسه لله، ووضع رأسه على كفه، مبتغياً الشهادة في سبيل الله؟

فهؤلاء الشباب الذين يدافعون عن أرضهم، وهي أرض الإسلام –وعن دينهم وعرضهم وأمتهم– ليسوا بمنتحرين، بل أبعد ما يكونون عن الانتحار، وإنما هم شهداء حقاً بذلوا أرواحهم –وهم راضون- في سبيل الله، ما دامت نياتهم خالصة لله، وما داموا مضطرين لهذا الطريق لإرعاب أعداء الله، المصرين على عدوانهم، المغرورين بقوتهم، وبمساندة القوى الكبرى لهم، والأمر كما قال الشاعر العربي قديماً:

إذا لم يكن إلا الألسنة مركب

فما حيلة المضطر إلا ركوبها؟

ليسوا بمنتحرين، وليسوا بإرهابيين، فهم يقاومون -مقاومة مشروعة– من احتل أرضهم وشردهم وشرد أهلهم، واغتصب حقهم، وصادر مستقبلهم، وما زال يمارس عدوانه عليهم، ودينهم يفرض عليهم الدفاع عن أنفسهم، ولا يجيز لهم التنازل باختيارهم عن ديارهم، التي هي جزء من دار الإسلام الكبرى.

ولا يعد عمل هؤلاء الأبطال من الإلقاء باليد إلى التهلكة، كما يتصور بعض البسطاء من الناس، بل هو عمل من أعمال المخاطرة المشروعة والمحمودة في الجهاد، يقصد به النكاية في العدو وقتل بعض أفراده، وقذف الرعب في قلوب الآخرين، وتجرئة المسلمين عليهم.

والمجتمع “الإسرائيلي” مجتمع عسكري، رجاله ونساؤه جنود في الجيش، يمكن استدعاؤهم في أي لحظة، وإذا قُتل طفل أو شيخ في هذه العمليات، فهو لم يُقصد بالقتل، بل عن طريق الخطأ، وبحكم الضرورات الحربية، والضرورات تبيح المحظورات، ولا بأس أن أسوق هنا بعض ما ذكره الفقهاء في هذا الجانب وما ذكره المفسرون في آية: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

ما قاله الجصاص الحنفي:

قال الإمام الجصاص في كتابه “أحكام القرآن” في تفسير الآية: قد قيل فيه وجوه؛ أحدها: ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد ابن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح وابن لهيمة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا بالقسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله! يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه، وأظهر دينه الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.. فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية في ذلك نزلت.

وروي عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك، وروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني: الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي، وقيل: هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف، وقيل: هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو، وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر بالسبب، وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها، وجواز اجتماعها عن غير تضاد ولا تناف.

فأما حمله على الرجل الواحد يعمل على حلبة العدو، فإن محمد بن الحسن ذكر في “السير الكبير”: أن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك، لأنه عرَّض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه يجرّئ للمسلمين بذلك، حتى يفعلوا مثل ما فعل، فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله، لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة، لم أر بأساً أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكي غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجوراً، وإنما يكره له ذلك: إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه مما يرهب العدو، فلا بأس بذلك، لأن هذا أفضل النكاية، وفيه منفعة للمسلمين.

قال الجصاص: والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره، وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو، إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على المسلمين، فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: 111)، وقال: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) (البقرة: 207)، في نظائر ذلك من الآيات التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله.

قال: وعلى ذلك، ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعاً في الدين فبذل نفسه فيه حتى قُتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله”، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، وذكر الجصاص من حديث أبي هريرة مرفوعاً: “شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع”، قال: ومن الجبن يوجب مدح الأقدام والشجاعة فيما يعود نفعه على الدين وإن أيقن فيه بالتلف والله تعالى أعلم بالصواب.

ما قاله القرطبي المالكي:

قال الإمام القرطبي المالكي في تفسيره: اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم بن مخميرة، والقاسم بن محمد، وعبد الله من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.

وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحصل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بيِّن في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) (البقرة: 207).

وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج، فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتُل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم أو غلب على ظنه أنه سيُقتل، ولكن سينكّي نكاية، أو سيبلى أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً، وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم، صنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها، فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين، وكذلك يوم “اليمامة” لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة، وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.

قال القرطبي: ومن هنا ما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً؟ قال: “فلك الجنة”، فانغمس في العدو حتى قُتل، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم “أُحد” في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه، قال: “من يردهم عنا وله الجنة؟”؛ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتل، فلم يزل كذلك حتى قُتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أنصفْنا أصحابَنا”، هكذا الرواية “أنصفْنا” بسكون الفاء “أصحابَنا” بفتح الباء؛ أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا، وروي بفتح الفاء ورفع الباء ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه أصحابه، والله أعلم، ثم ذكر القرطبي كلمة محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة المسلمين.. إلخ.

ما قاله الرازي الشافعي:

وقال الإمام الرازي الشافعي، في تفسيره: المراد من قوله: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)؛ أي: لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم، فإن ذلك لا يحل، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فإما إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول، فليس له أن يقدم عليه، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقل بين الصفين، قال الرازي: ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال: هذا القتل غير محرم، واحتج عليه بوجوه:

الأول: روي أن رجلاً من المجاهدين حمل على صف العدو فصاح به الناس: ألقى بيده إلى الهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا.. وذكر خلاصة ما حكاه الجصاص في سبب نزول الآية.

الثاني: روى الشافعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة، فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله إن قُتلت صابراً محتسباً؟ قال عليه الصلاة والسلام: “لك الجنة”؛ فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله، وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الجنة ثم انغمس في العدو فقتله.

الثالث: روي أن رجلاً من الأنصار تخلف عن بني معاوية، فرأى الطير عكوفاً على من قتل أصحابه، فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدو فيقتلونني، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولاً حسناً.

الرابع: روي أن قوماً حاصروا حصناً، فقاتل رجل حتى قُتل، فقيل: ألقى بيده إلى التهلكة، فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال: كذبوا، أليس يقول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ).

ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول: إنا حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية فيهم، فأما إذا توقع فنحن نجوز ذلك.

ما رواه ابن كثير والطبري:

وروى ابن كثير أن رجلاً قال للبراء بن عازب الأنصاري: إن حملت على العدو فقتلوني، أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا، قال الله لرسوله: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) (النساء: 84)، وإنما هذه في النفقة، أي في ترك النفقة في الجهاد.

ورى الطبري بسنده في تفسيره عن أبي إسحاق السبعي قال: قلت للبراء ابن عازب (الصحابي): يا أبا عمارة، الرجل يلقى ألفاً من العدو، فيحمل عليهم، وإنما هو وحده، يعني: أنه مقتول في العادة لا محالة، أيكون ممن قال الله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، فقال: لا، ليقاتل حتى يُقتل، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ).

ما قاله ابن تيمية:

وذكر نحو ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه المشهورة في قتال التتار، مستدلاً بما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قصة أصحاب الأخدود، وفيها: أن الغلام أمر بقتل نفسه؛ لأجل مصلحة ظهور الدين، حين طلب منهم أن يرموه بالسهم ويقولوا: باسم الله رب الغلام، قال: ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، وقد بسَّطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر.

ما قال الشوكاني:

وقال الشوكاني، في تفسيره “فتح القدير”: والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو في الدنيا، فهو داخل في هذا، ومن جملة ما يدخل تحت الآية: أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش، مع عدم قدرته على التخلص، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين، ومعنى هذا: أنه إذا كان لاقتحامه أثر ينفع المجاهدين كإرهاب العدو وإفزاعه لم يعد هذا في التهلكة.

ما قاله صاحب تفسير “المنار”:

وقال في تفسير “المنار”: ويدخل في النهي: النطوح في الحرب بغير علم بالطرق الحربية التي يعرفها العدو، كما يدخل فيه كل مخاطرة غير مشروعة، بأن تكون لاتباع الهوى لا لنصر الحق وتأييده.

ومفهوم هذا أن المخاطرة المشروعة المحسوبة التي يرجى بها إرهاب عدو الله وعدونا، ويبتغي فيها نصر الحق لا اتباع الهوى، لا تكون من الإلقاء باليد إلى التهلكة.

أعتقد أن الحق قد تبين، تبين الصبح لذي العينين، وأن هذه الأقوال كلها ترد على أولئك المتطاولين، الذين اتهموا هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، والذين باعوا أنفسهم لله، وقتلوا في سبيله فهم –إن شاء الله– في طليعة الشهداء عند الله تعالى، وهم العنصر الحي المعبر عن حيوية الأمة، وإصرارها على المقاومة وأنها حية لا تموت باقية لا تزول.

كل ما نطلبه هنا أن تكون العمليات الاستشهادية بعد دراسة وموازنة لإيجابياتها وسلبياتها، ويحسن أن يتم ذلك عن طريق جماعي من مسلمين ثقات، فإذا وجدوا الخير في الإقدام أقدموا وتوكلوا على الله؛ (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 49).  


* العدد (1204)، ص34-35 – 2 صفر 1417هـ – 18/6/1996م.   

Exit mobile version