المقومات السبعة لدعوة الإخوان المسلمين.. وضوح المواقف (8)

رد الأستاذ البنا على الذين يغمزون الإخوان في وطنيتهم بحساباتهم أن العمل للفكرة الإسلامية، والأمة الإسلامية ينافي الوطنية، والعمل لخدمة الوطن ورفعه.

وقد كان الأستاذ واضحاً في ذلك كل الوضوح، صادقاً كل الصدق، معبراً أبلغ التعبير حين قال في “تنظير” حب الوطن والتفاني في خدمته، والتأصيل الشرعي لذلك، والتدليل عليه من الجهة الإسلامية: “إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها؛ أن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحماً وجواراً، حتى إنه لم يجز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر –إلا للضرورة– إيثاراً للأقربين بالمعروف، فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعاً لمواطنيه؛ لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وكان الإخوان المسلمون بالتالي أشد الناس حرصاً على خير وطنهم، وتفانياً في خدمة قومهم، وهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة المجيدة كل عزة ومجد، وكل تقدم رقي، وكل فلاح ونجاح، وقد انتهت إليها رئاسة الأمم الإسلامية بحكم ظروف كثيرة تضافرت على هذا الوضع الكريم، وإن حب المدينة لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحن إلى مكة وأن يقول لأصيل، وقد أخذ يصفها: “يا أصيل، دع القلوب تقر”.

لقد اعتبر الأستاذ البنا مصر قاعدة الانطلاق الإسلامي، وركز جهد حركته وجماعته عليها؛ لأنها الوطن الأم للحركة أولاً، ولأنها قلعة الإسلام التي ذادت عنه الصليبيين والتتار تاريخياً ثانياً، ولأنها القبلة الثقافية للمسلمين، ثالثاً باحتوائها الأزهر الشريف.

الوحدة العربية

ثم بيَّن الموقف من الوحدة العربية فيقول: إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربياً ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، جاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: “إذا ذل العرب ذل الإسلام”، وقد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي، وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه، وينبه الأستاذ البنا هنا إلى أمر مهم، وهو أن العروبة ليست عروبة العرق والدم، وإنما هي عروبة الثقافة واللسان، وأن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: “ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان”، ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية، قال ذلك الأستاذ البنا عام 1936م، أي قبل أن تنشأ الجامعة العربية بسنوات، وأكده في أكثر من رسالة له، وأكثر من مقال وخطاب، كما أكد رحمه الله أن هذه الشعوب الممتدة من الخليج إلى طنجة ومراكش على المحيط الأطلسي كلها عربية، تجمعها العقيدة، ويوحد بينها اللسان، وتؤلف بينها بعد ذلك، هذه الوضعية المتناسقة في رقعة من الأرض واحدة متصلة متشابهة، لا يحل بين أجزائها حائل، ولا يفرق بين حدودها فارق، قال: “ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة، نعمل للإسلام، ولخير العالم كله”، وبهذا لم ير الإخوان من قديم تعارضاً بين العمل للعروبة والعمل للإسلام، إلا إذا خلطت العروبة بمعان من غير طبيعتها تعارض الإسلام، أو خلط الإسلام بمعان من غير طبيعته تعارض العروبة، كأن تخلط العروبة بفكرة معادية للإسلام كالماركسية، أو يختلط الإسلام بشعوبية تكره العرب، إن العروبة هي وعاء الإسلام، والعربية لسانه، وكتاب الإسلام عربي، ورسول الإسلام عربي، وصحابته الذين حملوا رسالته إلى العالم العربي، ومنطلق الإسلام الأول من أرض العرب، والمساجد الثلاثة المعظمة في أرض العرب، ولهذا يحب المسلمون الأعاجم العرب ويكرمونهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقومية العربية محورها اللسان والتاريخ، واللسان لسان القرآن، والتاريخ تاريخ الإسلام، فلا غرو أن رحب الإخوان في أقطار شتى بالتفاهم مع القوميين المعتدلين، وقد شاركت مع عدد من المفكرين الإسلاميين –ومنهم عدد من الإخوان– في المؤتمر القومي الإسلامي الذي عقد في بيروت عام 1994م، وما زال ينعقد وتصدر عنه توصيات وقرارات.

الوحدة الإسلامية

ثم بيَّن الأستاذ موقف الإخوان من الوحدة الإسلامية، ويؤكد أن الإسلام رابطة كما هو عقيدة، وأنه قضى على الفوارق النسبية بين الناس، فالله تبارك وتعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: “المسلم أخو المسلم”، “المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم”، فالإسلام والحالة هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية، ولا يعتبر الفوارق الجنسية، ويعتبر المسلمين جميعاً أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطناً واحداً مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده، وكذلك الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام، وينادون بأن وطنهم هو شبر أرض فيه مسلم يقول: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وما أروع ما قال في هذا المعنى شاعر من شعراء الإخوان:

ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً   

الشام فيه ووادي النيل سيان

ولكما ذكر اسم الله في بلد

عددت أرجاءه من لب أوطاني

وأؤيد على هذا فأقول: إن الإسلام اعتبر المسلمين أمة واحدة بمثل قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: 143)، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (المؤمنون: 52)، أكد هذه الوحدة بأحكام أساسية ثلاثة:

1- وحدة المرجعية العليا، وهي القرآن الكريم والسُّنة المطهرة.

2- وحدة “دار الإسلام”، وكل أوطان المسلمين “دار واحدة”.

3- وحدة القيادة المركزية العامة للأمة، المتمثلة في الإمام الأعظم أو الخليفة.

وبهذا اتضح لكل ذي عين أن الإخوان يحترمون وطنيتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأساً بأن يعمل كل إنسان لوطنه، وأن يقدمه على سواه، ثم هم بعد ذلك يؤيد الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض، ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام، بل هم بعد ذلك يريدون الخير للعالم كله، فهم ينادون بالوحدة العالمية؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قول الله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الانبياء: 107)، وبهذا أكد الإمام البنا أنه لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار، وبأن كلاً منها يشد أزر الأخرى ويحقق الغاية منها، فإذا أراد أقوام أن يتخذوا من المناداة بالوطنية الخاصة سلاحاً يميت الشعور بما عداها، فالإخوان المسلمون ليسوا معهم، ولعل هذا هو الفارق بينهم وبين الكثير من الناس.

الإخوان المسلمون والخلافة

ومما يسأل عنه الكثيرون: موقف الإخوان من “الخلافة” ومدى اهتمامهم بها، وعملهم لإعادتها، وهذا ما عرض له الإمام البنا في رسائل عدة من رسائله، مثل رسالتي “المؤتمر الخامس”، و”المؤتمر السادس”، و”رسالة التعاليم”، ولعل من أوضح ما قاله الأستاذ ما جاء في “رسالة المؤتمر الخامس”؛ وهي أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة واطمأنوا إلى إنجازها.

والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها، لا تدع مجالاً للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن مناهجها، ثم ألغيت بتاتاً إلى الآن، والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات، لا بد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.

وبهذا، وقف الأستاذ البنا من قضية الخلافة موقفاً يقوم على فقه الشرع، وفقه الواقع، فالخليفة ليس مجرد حاكم يحكم بالشريعة، إنما هو حاكم الأمة المسلمة على اتساع أقطارها، واختلاف ألسنتها وألوانها، وبعبارة أخرى: هو نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به، كما عبر علماؤنا من قديم، وتحقيق هذا يفتقر إلى مقدمات وتمهيدات، لترميم ما خربه الاستعمار العسكري والسياسي والثقافي والتشريعي في بنيان أمتنا، وإعدادها للرجوع إلى الوحدة الكبرى، تحت راية القرآن وشريعة الإسلام، فليست “الخلافة” كلمة تلوكها الألسن، ويرددها المرددون بمناسبة وغير مناسبة، ويظنون أنها تقوم بمجرد إعلان عنها، كما يتوهم السطحيون في بعض الأحزاب الإسلامية، ولله في خلقه شؤون.

نحو إنسانية عالمية

ولا يقف حسن البنا عند مصر أو العروبة، أو أمة الإسلام، بل يرنو إلى أفق أوسع، وعالم أرحب، هو أفق الإنسانية العالمية، يقول: أما العالمية أو الإنسانية فهي هدفنا الأسمى، وغايتنا العظمى، وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح، والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة، فهذا التجمع في الأمم، والتكتل في الأجناس والشعوب، وتداخل الضعفاء بعضهم في بعض، ليكتسبوا بهذا التداخل قوة، وانضمام المفترقين ليجدوا في هذا الانضمام أنس الوحدة، كل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية، وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية التي أمن بها الناس من قبل، وكان لا بد أن يؤمنوا هذا الإيمان لتتجمع الخلايا الأصلية، ثم كان لا بد أن يتخلوا عنها لتتآلف المجموعات الكبيرة، ولتتحقق بهذا التآلف الوحدة الأخيرة وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلا بد أن تكون، وحسبنا أن نتخذ منها هدفاً، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً، وأن نقيم في هذا البناء الإنساني لبنة، وليس علينا أن يتم البناء، فلكل أجل كتاب، وإذا كان في الدنيا الآن دعوات كثيرة، ونظم كثيرة، يقوم معظمها على أساس العصبية القومية، التي تستهوي قلوب الشعوب، وتحرك عواطف الأمم، فإن هذه الدروس التي يتلقاها العالم من آثار هذه القوة الطاغية كفيلة بأن يفيء الناس إلى الرشد، ويعودوا إلى التعاون والإخاء.


([1]) العدد (1360)، ص46-47 – 14 ربيع الآخر 1420ه – 27/7/1999م.  

Exit mobile version