المقومات السبعة لدعوة الإخوان المسلمين.. الجنود الصادقون (4)

جرت سُنة الله تعالى ألا تنتصر الرسالات، ولا تحقق الدعوات الربانية أهدافها، إلا بأهلها وأنصارها المؤمنين بها، المجتمعين عليها، المتفانين في نصرتها، فالحق لا ينتصر بذاته، وإنما ينتصر برجاله ودعاته الصادقين، والشاعر العربي يقول:

وشيمة السيف أن يزهى بجوهره

وليس يعمل إلا في يدي بطل!

وكذلك سيف الحق لا يعمل وحده، ولا يقاتل وحده، إنما يقاتل بيد أبطاله الذين لا يهابون الموت.

وقد قرأ أحد الأجانب عن الإسلام وتعاليمه فأعجب به، وقال كلمة ما أجدرنا أن نحفظها ونرويها لما فيها من عبرة! قال: يا له من دين لو كان له رجال! وما لنا نذهب بعيداً؟ وها نحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مخاطباً رسوله الكريم: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال)، فأشار إلى أن الله جل ثناؤه –كما أيد الرسول بنصره- أيده بالمؤمنين، الذين آمنوا به وعزوره ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأشار إلى صفة مهمة من صفاتهم، بل لعلها أهم فضائلهم بعد الإيمان، في هذا المقام، وهي: أُخوَّتهم وترابطهم وتآلف قلوبهم، وهذا من أعظم نعم الله تعالى عليهم، وقد وعد الله تعالى المؤمنين إذا مرق منهم مارقون، أو ارتد مرتدون، أن الدين لن تسقط رايته، ولن تخمد جذوته، ولكن الله تعالى سيجند له جنوداً لنصرته إذا خذله الخاذلون، جنوداً جلاهم بأوصاف مميزة، تجعلهم شامة في الناس، وذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).

فهذه معالم مضيئة في تجلية هذا الجيل الرباني، جيل النصر المنشود، وهي تتجلى في ثلاثة أشياء رئيسة:

1– المحبة المتبادلة بينهم وبين ربهم: فهم محبوبون من الله، محبون لله؛ (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ) (البقرة: 165)، وبهذا الحب آثروا الله تعالى على كل ما يحرص الناس عليه في دنياهم من أهل وولد ومال ووطن، كما قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24)، لقد وضعوا كل هذه الأنساب؛ الآباء والأبناء والإخوان والأزواج.. إلخ في كفة، وحب الله ورسوله في كفة أخرى، فرجحت كفة حب الله.

2– الذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين: ونلاحظ أن القرآن لم يمدح الذلة إلا في موضوعين:

أ– ذل الإنسان لأبويه: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء: 24).

ب– ذل الإنسان لأخيه المؤمن، وقد عداه في الآية بحرف “على” ليضمنه معنى العطف والحب والإشفاق.

وصفة هؤلاء هنا أشبه بصفة الصحابة الذين قال الله عنهم: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29)، لقد كان الكفار يمثلون الظلم والطغيان والاعتداء على حرمات المسلمين، وكانوا أجدر بالشدة عليهم.

3– الجهاد في سبيل الله دون خشية من أحد، أو خوف من لومة لائم: مما يدل على إخلاصهم لغايتهم، وتجردهم لها، وعدم مبالاتهم بالخلق إذا أرضوا الخالق، كما قال تعالى في وصف دعاته الصادقين: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب: 39).

وقد كان حسن البنا يعي ذلك أعظم الوعي، ويدركه كل الإدراك، ويؤمن به أعمق الإيمان، ويبذل ما يمكنه من جهد لبناء هذا الجيل الذي ينشده لتحرير الأوطان، والرقي بالأمة، والتمكين لدين الله في الأرض، وكان يعتبر ذلك مهمته الأولى، وقد آتاه الله من المواهب والملكات الروحية والعقلية والنفسية والتربوية ما يؤهله للقيام بهذه المهمة، التي لا يقوم بها إلا ورثة الأنبياء الحقيقيون، ومعلمو الناس الخير، ولقد هيأ الله له من الأنصار والأتباع من كل فئات الشعب من هم أزكى أنفساً وأذكى عقولاً، وأصدق نيات، وأقوى عزائم، وأقدر على الالتزام بفرائض الإسلام وأخلاق الإسلام، ولوازم الجندية للإسلام، اجتمع على الشيخ البنا الشباب والشيوخ، وأبناء المدن والقرى، والفلاحون والمتعلمون، والأميون وطلاب الجامعة وأساتذتها، وخريجو المدارس المدنية، وخريجو المعاهد الأزهرية، وكذلك الرجال والنساء، ولقد أسس مبكراً “قسم الأخوات المسلمات”، فلا يجوز أن تهمل المرأة في مجال الدعوة، وقد كان أول صوت ارتفع بتأييد دعوة رسول الله صوت امرأة، وهو صوت خديجة رضي الله عنها، وكان أول دم أريق في سبيل الإسلام دم سمية أم عمار، أول شهيدة في الإسلام، وإن كنت لاحظت أن “العمل النسائي الإسلامي” لم يتسع ولم يتطور، كما اتسع العمل الرجالي وتطور، ولذلك أسباب وملابسات ذكرتها في مقام آخر، ولكن حسن البنا كان يوجّه عناية أكبر إلى الشباب؛ ولذا وجه لهم رسالة خاصة، باعتبار أن الشباب في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها؛ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف: 13)، وقد بين الأستاذ في هذا السياق: “أن أي فكرة إنما تنجح إذا قوي الإيمان بها، وتوافر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها؛ لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب”، وكانت عنايته في الشباب إلى طلبة الجامعات والمعاهد والمدارس، فهم محط الأنظار، ومهوى الأفئدة، لوعيهم وثقافتهم وتجمعهم، وحماسهم لقضايا أمتهم ووطنهم، وعليهم تنافس الأحزاب والهيئات المختلفة، وكان “قسم الطلاب” من أهم الأقسام –بل لعله أهمها وأنشطتها– في المركز العام للإخوان، وفي كل مكتب إداري، وكل منطقة، وكل شعبة.

وكل الإخوان الدعاة والموجهين المرموقين مروا بقسم الطلاب، وتربوا في أحضانه: محمد عبد الحميد أحمد، ومحمد الغزالي، وعبد المعز        عبد الستار، وفريد عبد الخالق، ومصطفى مؤمن، وسعيد رمضان، وفتحي عثمان، وعز الدين إبراهيم، وحسان حتحوت، ونفيس حمدي، وعمر شاهين، وحسن دوح، وحسن عبد الغني، ومناع القطان، وأحمد العسال، وجمال عطية، ويوسف عبد المعطي،      وعبد الحليم أبو شقة، وعلي صديق، وفتحي البوز، ويوسف توبة، ومحمد المطراوي، وعلي عبدالحليم، وصلاح أبو إسماعيل.. وغيرهم، وكان الأستاذ البنا إذا زار مناطق الإخوان في مصر؛ في الصعيد، أو في الوجه البحري، يحرص على أن يلتقي الطلاب، وأذكر حين أنه زار مدينة طنطا التقى فيها الطلاب أكثر من مرة، ورغم أنهم من طلاب المرحلة الثانوية، إذ لم تكن هناك جامعة إلا في القاهرة، ثم بعد ذلك في الإسكندرية، وأذكر آخر مرة التقى بنا في شعبة “قسم أول طنطا” وأوصانا بثلاث وصايا تتركز حول محاور ثلاثة: التفوق في العلم، والاستقامة في الدين، وتوثيق عُرى المحبة بين بعضنا وبعض، في “رسالة المؤتمر الخامس” ذكر الأستاذ: أن ستة من شباب الجامعة منذ سنوات وهبوا لله أنفسهم وجهودهم، وعلم الله منهم ذلك فأيدهم وأزرهم، فإذا بالجامعة كلها من أنصار الإخوان.

إذاً، من الشباب الجامعي فئة كريمة مؤمنة تتفانى في الدعوة، وتبشر بها في كل مكان، قل مثل ذلك في الأزهر الشريف، والأزهر بطبيعته معقل الدعوة الإسلامية، وموئل الإسلام، ليس غريباً عليه أن يعتبر دعوة الإخوان دعوته، وأن يعد غايتها غايته، وأن تمتلئ الصفوف الإخوانية، والأندية الإخوانية، بشبابه الناهض، وعلمائه الفضلاء، ومدرسيه ووعاظه، وأن يكون لهم جميعاً أكبر الأثر، في نشر الدعوة وتأييدها، والمناداة بها في كل مكان.

الإخوان والأزهر

وكثيراً ما أشاد الأستاذ البنا بالأزهر، واعتبر وجوده في مصر من أسباب زعامتها وتقدمها في العالم الإسلامي، وأهليتها للصدارة وقيادة الركب، ولقد استمعت إلى الأستاذ في طنطا في إحدى المناسبات وقد حضر الحفل كثير من مشايخ المعهد الديني، ووكيل المعهد الشيخ محمد طبل، وكان مما قاله الأستاذ لعلماء الأزهر: أنتم بمثابة الجيش الرسمي للإسلام، ونحن بمثابة الجيش الاحتياطي له، نحن ردء لكم، وأعوان على رسالتكم، وفي ساحة الإخوان رأيت كثيراً من الأزهريين المرموقين، أمثال المشايخ: محمد فرغلي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعبد المعز عبدالستار، وعبداللطيف الشعشاعي، والأباصيري.. وغيرهم ممن كانوا لا يحبون أن يعلنوا عن أنفسهم.

وقد ذكر الأستاذ البنا في مذكراته أن المؤسسين الأربعة الأول للدعوة: هو، وأحمد أفندي السكري، والشيخ حامد عسكرية رحمه الله، والشيخ أحمد عبدالحميد، ومن هنا لا أجد مساغاً لما افترضه ريتشارد ميتشل في كتابه عن الإخوان من فجوة أو جفوة مفتعلة بين الإخوان والأزهر، وإن كان الأستاذ البنا أخذ على العلماء أو على كثير منهم تقاعسهم عن التصدي للحملات الموجَّهة ضد الإسلام، وفي عصرنا كاد الأزهر كله يصبح قلعة إخوانية، ابتداء من شيخه الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، وعمداء الكليات، وأساتذتها، فضلاً عن الطلاب الذين آزروا دعوة الإخوان، وذلك في أوائل الخمسينيات.

في خدمة المجتمع

يتحدث الأستاذ البنا باعتزاز وفخر عن نشاط الإخوان المكثف في خدمة المجتمع، وفي المشاركة الإيجابية في حل مشكلات الناس، وفي مقاومة خطر التبشير على المستضعفين والفقراء، وفي إنشاء المدارس ونشر التعليم، وإنشاء المستوصفات لمعالجة المرضى، وغير ذلك من أنوع البر والخير، ثم يقول: “ولعلك تعجب حين تعلم أن جماعة الإخوان المسلمين التي قامت بهذه الأعمال العظيمة، لم تأخذ إعانة حكومية مرة من المرات، ولم تستعن بمال هيئة من الهيئات، اللهم إلا خمسمائة جنيه تبرعت بها شركة قناة السويس للجماعة، بمناسبة عمارة المسجد والمدرسة بالإسماعيلية، وإن الناس ليتقوّلون كثيراً، وليظنون وبعض الظن إثم، ولينطقون بما ليس لهم به علم، وما علينا في ذلك من بأس، وحسبنا أن يعلم الله أن ذلك بتوفيقه، وأنها أموال الإخوان الخاصة أنفقت بإخلاص، فأثمرت وبوركت، وأتت أكلها كل حين بإذن ربها، وحسبنا أن نقول لهم في عبارة صريحة واضحة نتحدى بها كل إنسان وكل هيئة وكل شخص كائناً من كان: إن جماعة الإخوان المسلمين لم تستعن في مشروعاتها بغير أعضائها، وهي بذلك جد فخورة، تجد لذة التضحية ونشوة الفرح بالإنفاق في سبيل الله، ولعلك تعجب كذلك إذا علمت أن الاشتراك المالي في جماعة الإخوان المسلمين اختياري لا إجباري، وأن العضو الذي يتخلف عن دفع الاشتراك لا ينقص ذلك من حقوق إخوته شيئاً، ومع أن هذا نص صريح في القانون الأساسي للجماعة، فإن الإخوان -جزاهم الله خيراً– يبادرون إلى التضحية في سبيل الله إذا دعاهم إليها داعي الواجب، ويأتون في ذلك بالعجب العجاب، واسمع أحدثك: في بناء مسجد الإسماعيلية، دعاهم رئيسهم إلى التبرع فقام أحد الأعضاء الصناع وتبرع بجنيه ونصف جنيه يدفعها بعد ثلاث أيام، وهو صانع فقير أنَّى له بهذا المبلغ؟! أراد أن يقترض فأبت نفسه وخشي المماطلة.. حاول الحصول على هذا المبلغ من غير هذا الباب فلم يجد السبيل مُيسّرة.. لم يبق أمامه إذاً إلا أن يبيع دراجته؛ دراجته التي كان يركبها من منزله إلى محل عمله، ومن محل عمله إلى منزله، وبينهما ستة كيلومترات! وفعلاً أنفذ الفكرة وأحضر المبلغ في نهاية الموعد تماماً، فجمع بين الوفاء بموعده والقيام بتبرعه.. ولاحظ رئيس الإخوان أنه صار يتأخر عن درس العشاء ولا يدركه إلا بشق النفس، وسأله عن ذلك فلم يجب، فأجاب عنه صديق عرف سره وأخبر الرئيس أنه باع “عَجَلَته” ليفي بتبرعه، وأصبح يعود على رجليه فيتأخر عن الدرس، وأكبر الرئيس والإخوان هذه المهمة، وحيّوا فيه هذه الأريحية، وأقروا تبرعه كما هو، واكتتبوا له في دراجة جديدة خير من دراجته لتكون عنده ذكرى الإعجاب بهذا الوفاء.

بمثل هذه النفوس التي تمتّ بصلة إلى نفوس السابقين الأولين من رجال الإسلام الغر الميامين نهضت فكرة الإخوان المسلمين، ونجحت مؤسساتهم وتمت مشروعاتهم، إنهم فقراء ولكنهم كرماء، إنهم قليلو المال ولكنهم أسخياء النفوس، فهم يجودون بالكثير من هذا القليل فيكون كثيراً، وتباركه نعمة الله فيأتي بالخير العميم، ولعلي بهذه الناحية قد كشفت ناحية غمضت على بعض الذين رأوا جهود الإخوان فلم يجدوا لنجاحهم سراً إلا أن يتهموهم باستجداء الهيئات وخدمة المصالح والأغراض، وهم والحمد لله من الكبراء.

ليس معنى ذلك أن الإخوان ملائكة أطهار أو قديسون مقربون، هم بشر كالبشر، مخلوقون من طين، والطين لا يخلو من الكدر، ولكن أثبت الواقع أنهم –بحكم عقيدتهم وتربيتهم الإسلامية– أفضل المجموعات الموجودة على الساحة، وأزكاها نفوساً، وأطهرها مسلكاً، وأكثرها حماساً لفعل الخير، ومعاداة الشر، وبذل الغالي والرخيص في سبيل الإسلام.

وفيما ذكره الأستاذ كامل الشريف من بطولات ومواقف يندر مثلها في كتابه “الإخوان المسلمون في حرب فلسطين”، وهو شاهد عيان، وفيما ذكره الأستاذ حسن دوح عن “كفاح الشباب الجامعي في قناة السويس” ضد الإنجليز المحتلين، وهو أيضاً شاهد عيان، في هذين النموذجين ما يشير إلى نوعية النموذج المؤمن الإيجابي الذي صقلته التربية الإخوانية، وغسله من أوضار الأنانية والشهوات: قيام الليل، وصيام النهار، وتلاوة القرآن، وذكر الله ذكراً كثيراً.

النموذج الأول من الإخوان

ولا عجب أن توجد هذه النماذج الباذلة العاملة المضحية في سبيل الله، المتفانية في نصرة الدعوة وبذل النفس والنفيس في سبيل الله، فقد عرفنا ذلك منذ اليوم الأول لبزوغ فجر هذه الدعوة الربانية المباركة، وفي “الفوج الأول” من أبناء الإسماعيلية الكرام الذين جاؤوا إلى الأستاذ البنا، بعد أن لازموه في دروسه، وأطالوا الاستماع عليه، وفهموا عنه ما يريد، فقالوا له في ثقة المؤمنين، وإيمان الواثقين: “لقد سمعنا ووعينا، وتأثرنا، وما ندري ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين، ولقد سئمنا هذه الحياة؛ حياة الذل والقيود، وها أنت ترى أن العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظَّ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب، ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا وهذه الدراهم القليلة، ولا نستطيع أن ندرك الطريق إلى العمل والدين والأمة كما تعرف، وكل الذي نريده الآن أن نقدم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدي الله وتكون أنت المسؤول بين يديه عنا، وعما يجب أن نعمل”.

ويعلق حسن البنا على هذه الكلمات بقوله: “إن جماعة تُعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه، وتموت في سبيله، لا تبغي بوجهه إلا وجهه، لجديرة أن تنتصر وإن قلَّ عددها وضعفت عدتها”.

قبل البنا –وهو بالغ التأثر– الأعباء التي ألقيت على عاتقه، وعاهد الجميع الله على أن يكونوا لدعوة الإسلام جنداً، واختار البنا اسم الجمعية قائلاً: “نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذاً الإخوان المسلمون”، هؤلاء هم طليعة جنود الدعوة، وعلى هداهم سار السائرون، وبايع الصادقون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

في مدرسة الدعوة

كان الجيل الأول الذي رضع من لبان الدعوة، وتربى في حجرها، مثلاً يحتذى في إيمانه وعمله وسلوكه.

كانت معاني التربية العملية التي تتفاعل في أنفسهم بالمخالطة والتصرفات الواقعية والود والمحبة فيما بينهم، والتعاون الكامل في شؤون حياتهم، وتهيئ نفوسهم لما في ذلك من خير؛ أقوى العوامل في تكوين الجماعة.

نماذج من أخلاق الرعيل الأول

وحدثنا الإمام حسن البنا عن الرعيل الأول الذي تخرج على يديه في الإسماعيلية، وعن نماذج من سلوكياته فيقول:

كان هؤلاء الإخوة مُثُلاً رائعة، ونماذج طيبة من التمسك بأحكام الإسلام الحنيف في كل تصرفاتهم، والتأثر بأخلاقه ومشاعره فيما يصدر عنهم من قول أو عمل، سواء أكان ذلك مع أنفسهم أو مع غيرهم من الناس، كان الأخ حسن مرسي يعمل عند الخواجة مانيو، ويخرج نموذجاً ممتازاً من صناديق الراديو، وكان الصندوق حينذاك يتكلف جنيهاً تقريباً، فجاء أحد الخواجات من أصدقاء مانيو وساوم الأخ حسن على أن يصنع له بعض الصناديق بنصف القيمة، على ألا يخبر بذلك الخواجة مانيو، فيستفيد حق النصف الذي يأخذه ويستفيد هذا الخواجة من النصف الباقي، وكان مانيو يثق في الأخ ثقة تامة، وقد أسلم إليه كل ما في الدكان من خامات وأدوات، وأراد صديق مانيو أن يستغل هذه الثقة، ولكن الأخ حسناً ألقى عليه درساً قاسياً في الأخلاق، وقال له: إن الإسلام وكل دين في الوجود يحرم الخيانة، فكيف بمن وثق في هذه الثقة؟ وإني لأعجب أن تكون صديقه ومن جنسه ودينه، ومع ذلك تفكر في خيانته، وتحاول أن تحملني على مثل ذلك، يا هذا، يجب أن تندم على هذا التفكير الخاطئ، وثق بأنني لن أخبر الخواجة مانيو بعملك هذا حتى لا أفسد صداقتكما، ولكن بشرط أن تعدني وعداً صادقاً بألا تعود إلى مثل ذلك، ولكن هذا الخواجة كان سخيفاً، فقال له: إذاً سأخبر الخواجة مانيو بأنك أنت الذي عرضت عليَّ هذا العرض، وهو سيصدقني ولا شك، فإنه يثق بكلامي كل الثقة، وسيترتب على ذلك إخراجك من العمل، وفقدانك لهذه المنزلة التي تتمتع بها عنده، وخير لك أن تتفق معي وتنفذ ما أريد، فغضب الأخ وقال له: افعل ما تشاء، وسيكون جزاؤك الخزي إن شاء الله، ونفذ الرجل وعيده، وجاء مانيو يحقق في الأمر، فاكتسحت أضواء الحق ظلمات الباطل، وأخبره الأخ حسن بالأمر، ولم يشك الرجل أبداً في صدقه، وطرد هذا الصديق الخائن، وقطع صلته به، وزاد في راتب الأخ جزاء أمانته.

هكذا كان أولئك الإخوان، وحوادثهم في هذه المعاني كثيرة، ومن أجل ذلك بارك الله الدعوة التي استنارت بها مثل هذه القلوب، وصدق الله العظيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24}‏ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم).

مدرسة حسن البنا في التربية الإسلامية

كان حسن البنا مربياً متميزاً، بالفطرة والممارسة، وكان يضع كل موهبته وخبرته في تربية الجيل المؤمن الذي ينشده للنهوض بالأمة، وكان حريصاً على أن يزوده بفضائل معينة، تلزم كل جيل حمله القدر أمانة التغيير، وتبعة التجديد والإصلاح الشامل لوطنه، ثم لأمته جمعاً، وقد كوَّن عدداً غير قليل من المربين ساعدوه في مهمته، وقد أنشأ حسن البنا مدرسة متميزة في التربية والتكوين، تحدثنا عنها في كتاب لنا سميناه “التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا”.

فضائل مميزة لأجيال الإخوان

ولا شك أن هذه المدرسة كان لها تأثيرها وبصماتها في عقول أبنائها وفي قلوبهم، وفي أخلاقهم وسلوكهم، بحيث أصبح لهم سمات وفضائل عُرفوا بها، وكأنما هي شامة لهم.

من هذه الفضائل: الاستعداد للبذل والتضحية إلى غير حد، فكل واحد في هذا الجيل هو جندي عقيدة لا جندي غنيمة، مهمته أن يعطي لا أن يأخذ، وأن يضحي لا أن يستفيد، وقد جعل البنا من أركان دعوته أو أركان بيعته “التضحية”، وفسرها بقوله: وأريد بها بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل، والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم.

ومن هذه الفضائل: الاستعداد لمواجهة المحن والشدائد، فقد أفهم البنا أبناء دعوته وأنصار فكرته من وقت مبكر أن طريق الدعوة ليس مفروشاً بالأزهار والرياحين، بل هو مغروس بالأشواك، مضرج بدماء الشهداء، تتناثر عن يمينه وعن شماله أشلاء ضحايا البطش والقهر والجبروت العنيد، وكما قال الإمام ابن القيم في أحد كتبه: “يا مخنث العزم! الطريق تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وتعرض للنار إبراهيم، وللذبح إسماعيل، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى”.

وفي الثلاثينيات، أصدر حسن البنا رسالته “بين الأمس واليوم”، وفي نهايتها أراد أن يعدَّ إخوانه وجنوده نفسياً لما ينتظرهم من أعباء وشدائد، قد يكونون في غفلة عنها، وتمثل ذلك في كلمات حفظها الإخوان بعد ذلك، وطالما رددوها في مناسبات مختلفة: يقول رحمه الله تحت عنوان “العقبات في طريقنا”: “أحب أن أصارحكم أن دعوتكم ما زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقى منهم خصومة شديدة، وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فما زلتم مجهولين، وما زلتم تمهدون للدعوة، وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد؛ سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتمدين بأموالهم ونفوذهم؛ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف)، وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان؛ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 2)، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {13} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف)، فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟” أهـ.

الأمل

ومن هذه الفضائل: الأمل الذي لا يخبو ضياؤه، ولا تذوي أوراقه، في نصر الله، وأن الغد لدعوة الإسلام، والمستقبل للمسلمين، وكان يعتبر هذا الأمل جزءاً من الإيمان، ويدل على ذلك بأدلة شتى؛ دليل من النصوص، مثل قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33)، ودليل من التاريخ أن الإسلام أصلب ما يكون عوداً، وأشد ما يكون قوة، وأصفى ما يكون جوهراً، حين تحيط به الشدائد، وتحل بساحته الكروب، كما في حرب الردة، وحروب الصليبيين الزاحفين من الغرب، وحروب التتار الزاحفين من الشرق، وقد انتصر الإسلام في هذه المعارك جميعاً، بعد أن كان أعداؤه يظنون أن رايته قد سقطت للأبد، ويستدل هنا كذلك بتاريخ الأمم المختلفة، ووثباتها غير المتوقعة، وانتصار بعض الرجال الذين حققوا آمالهم الكبيرة، برغم قلة العدد، وضعف العدة، مثل الملك عبدالعزيز بن سعود رحمه الله.

ويقول الأستاذ هنا: “إن حقائق اليوم كانت أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد”.

الدليل الحسابي

ودليل آخر سماه الإمام البنا الدليل الحسابي، ويوضحه بأن قيادة العالم كانت في مدة من الزمن للشرق أيام الحضارات الشرقية القديمة؛ الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية والفارسية والهندية.. إلخ، ثم انتقلت عجلة القيادة للغرب أيام ظهور فلسفة اليونان، وتشريع الرومان، ثم عادت إلى الشرق مرة أخرى على يد الحضارة العربية الإسلامية، وظلت قروناً، ثم غفا الشرق الإسلامي غفوته الكبرى، واستيقظ الغرب الذي استفاد من علوم الشرق، ومن مناهج معرفته الاستقرائية والتجريبية، فنهض نهضته الحديثة، واستخدم العلم والتكنولوجيا، ووصل إلى ما وصل إليه الآن من رقي وتقدم مادي وعمراني، ولكنه أفلس في الجانب الروحي والأخلاقي، ولم يقم بحق القيادة في إقرار العدل ونصرة الحق، وإشاعة الخير والفضيلة، فكان لا بد بمقتضى سنن الله أن تنتقل عجلة القيادة إلى غيره، ونحن الأحق بها، والدور لنا لا علينا.

الرجاء معقود بالإخوان الصادقين

وكان حسن البنا يعرف أن الناس متفاوتون في استعداداتهم وقدراتهم وإيمانهم، فليس كل الناس في إيمان أبي بكر، ولا في قوة عمر، ولا في بذل عثمان، ولا في شجاعة علي، وإنما هم كما قال تعالى في كتابه العزيز: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر: 32)؛ لهذا قسَّم الإمام البنا “الإخوان” إلى مستويات، بحسب نضجهم وترقيهم في التربية والوعي والسلوك والبذل، أعلاهم “الأخ الصادق” أو “المجاهد”، وهم الذين كتب لهم “رسالة التعاليم”، فهي للصادقين من الإخوان المسلمين، فهي ليست كلمات تحفظ، ولكنها تنفذ، أما غيرهم فلهم مظاهر وإداريات، ورسوم وشكليات، ومن هنا كان أكبر همه أن يرتفع بالإخوان إلى درجة “الصدق” في الإيمان وفي مقامات الدين.

وهي الدرجة التي يصبح المسلم فيها من “الصادقين” الذين أمرنا الله أن نكون معهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).

وهؤلاء الصادقون هم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 15).

وفيهم نزل قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، وهم الموصوفون بالبر والتقوى في قوله عز وجل: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177)، فأولئك الذين وصفوا بالبر في عقيدتهم، والبر في سلوكهم، والبر في عبادتهم، والبر في أخلاقهم؛ (أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا). ومهما يقل القائلون، ويتجنّ المتجنون، فلقد اكتسبت دعوة الإخوان في مصر وغيرها من بلاد العرب مجموعات من خيرة عناصر الوطن؛ توقد عقول، وزكاة نفوس، وتدفق مشاعر، وقوة عزائم، وطهارة أخلاق، وسمو أرواح، صقلهم الدين، وضمهم الإسلام في رحابه، وتولاهم بتربيته وتزكيته، ففقههم عقولاً، ونقّاهم قلوباً، وقوّاهم أجساماً، ولا أزكيهم على الله، فهم بشر من البشر، ليسوا ملائكة مطهرين، ولا أولياء قديسين، ولكنهم إذا قيسوا بغيرهم كانوا في المقدمة؛ فهماً وإيماناً وسلوكاً، في مجموعهم، وهذا من ثمار التربية الإيمانية التي تصنع الأعاجيب.


([1]) العدد (1356)، من44-47 – 15 ربيع الأول 1420ه – 29/6/199م

Exit mobile version