المقومات السبعة لدعوة الإخوان المسلمين.. الحاجة إليها (1)


للدعوة الموفقة، أو الدعوة الناجحة، أو الدعوة المكتملة، مقومات أو أركان، لا بد من أن تتوافر لها، حتى تقوم بمهمتها، وتؤدي دورها، وتحقق أهدافها التي تنشدها في الإيقاظ والتنوير أو في التربية والتطهير، أو في التجديد والتغيير، أو في البناء والتعمير، أو في الجهاد والتحرير، أو في التوحيد والوحدة.

هذه المقومات أو الأركان الأساسية قد قدر الله لها أن تجتمع وتتكامل في دعوة الإخوان المسلمين، وإن شئت قلت: في حركة الإخوان المسلمين؛ فهي دعوة، وهي حركة، أو هي دعوة متحركة، وحركة داعية.

هذه المقومات للدعوة الموفقة، وللحركة الناجحة، نستطيع أن نجملها في سبعة:

1- أن تكون الحاجة داعية إليها، لتسد فراغاً قائماً.

2- أن تكون متميزة واضحة الشخصية والسمات.

3- أن ترزق بقيادة واعية حكيمة تعرف غايتها وطريقها.

4- أن يهيأ لها جنود مؤمنون برسالتهم، صادقون واعون مترابطون.

5- أن تكون أهدافها واضحة، لا يشوبها ضباب ولا اضطراب.

6- أن تكون وسائلها لتحقيق غاياتها واضحة كذلك، معروفة المراحل والخطوات.

7- أن تكون مواقفها من القضايا الكبيرة واضحة بيّنة غير غامضة ولا غائمة.

وأعتقد أن من قرأ تراث الإخوان، وتتبع تاريخ دعوتهم منذ مطلع فجرها في مدينة الإسماعيلية، على ضفاف قناة السويس بمصر، حيث وضعت اللبنة الأولى في شهر ذي القعدة 1347هـ، تبين أن هذه الدعوة توافرت لها تلك المقومات السبعة، وهو ما نلقي عليه الضوء الكاشف في الصحائف التالية بإذن الله تعالى.

أولاً: الحاجة إلى الدعوة:

فأما الحاجة إلى الدعوة، فقد كانت حاجة ماسة، بل كانت ضرورة ملحة؛ أن تقوم الأمة عامة، وفي مصر خاصة، دعوة جديدة، تبني ما هدمه الاستعمار، وتصلح ما أفسده الحكام، وتنقي الحياة مما لوثتها به عصور الانحطاط، وتقاوم ما يخطط له أعداء الإسلام.

كان الناس في حاجة إلى دعوة تجدد العقول بالمعرفة الواعية، وتجدد القلوب بالإيمان الدافق، وتجدد الحياة بالالتزام الصادق، وتقف بالمرصاد للأفكار الهدامة، والدعوات المنحرفة، والهيئات المضللة، التي تغزو العقول بالشبهات، وتغزو النفوس بالشهوات.

كان الإسلام في حاجة إلى دعوة تملأ الساحة، وتسد الثغرة، وتعبئ الأمة.

ولم يكن فيمن يمثلون الإسلام في ذلك الزمان من يقدر على القيام بهذه المهمة.

فعلماء الأزهر كانوا مشغولين بقايا داخلية، وكانت السلطة الحاكمة قد ورثت من عهد الاستعمار أن تعزل الأزهر عن التأثير في الحياة، وأن تضيق على علمائه وأبنائه حتى تلهيهم لقمة العيش عن عموم الدعوة إلى الدين، وقضايا الأمة المصيرية، وتحاول أن تشغلهم عن الإصلاح بقضايا جزئية، وتجتهد أن تشغل بعضهم ببعض.

وكانت الطرق الصوفية مشغولة بأذكارها وأورادها –وبعضها بموالدها وموائدها– عن التصدي للإصلاح، وحمل راية الدعوة العامة لتجديد الإسلام في الأمة، وهي نفسها في حاجة إلى الإصلاح والتجديد، وفاقد الشيء لا يعطيه.

فكانت الأمة في حاجة إلى دعوة جديدة، تجدد دعوة النبي الأمين، يقوم عليها “صحابة جدد” يقومون في الآخرين مقام الصحابة في الأولين، وهم القابضون على دينهم في أيام الشدائد والفتن أو أيام الصبر، التي جاء فيها الحديث الشريف: “إن من ورائكم أياماً، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين يعملون مثل عملكم”، وفي رواية قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: “بل أجر خمسين رجلاً منكم”.

دعوة في أوانها

لقد كان من دلائل التوفيق في ظهور حركة الإخوان المسلمين أنها جاءت دعوة في أوانها، وأحوج ما يكون المسلمون إليها، بعد أن احتلت أوطان المسلمين وطناً بعد آخر، وأصبح الاستعمار يتحكم في رقابها بعد الحرب العالمية الأولى، وغدت بريطانيا لها نصيب الأسد في هذه الغنيمة وبعدها فرنسا، قد تقاسما ذلك في اتفاقية “سايكس بيكو” المعروفة، كانت مصر والسودان، والعراق، وفلسطين، والهند –قبل التقسيم– وماليزيا، ونيجيريا، وغيرها من بلاد أفريقيا من حصة الاستعمار البريطاني، وكانت سورية، ولبنان، وشمال أفريقيا (تونس، الجزائر، مراكش، موريتانيا)، والسنغال وغيرها في حصة الاستعمار الفرنسي، حتى هولندا التي لم يكن يزيد تعدادها في ذلك الوقت على خمسة ملايين، كانت تستعمر إندونيسيا التي تزيد على خمسين مليوناً.

وهكذا وقع العالم الإسلامي كله، فيما عدا الحجاز، ونجد، واليمن، في قبضة الاستعمار.

ثم أصيبت الأمة الإسلامية بصدمة هائلة، حين سقطت خيمة الخلافة التي كانت تظلل أمة الإسلام، وتمزقت “الدولة الواحدة” إلى “دول” أو “دويلات”، و”الأمة الواحدة” إلى “أمم” أو “أميمات” يجافي بعضها بعضاً، بل يعادي بعضها بعضاً، بل يقاتل بعضها بعضاً تحت نداءات مختلفة، كلها يحمل العصبية الجاهلية من عنصرية أو إقليمية أو لغوية، وأصبح الوطن الواحد الذي سماه الفقهاء “دار الإسلام” دوراً وأوطاناً، تتنازع فيما بينها على الحدود، التي صنعها لهم المستعمر الغاضب.

وغدا “القانون الوضعي” الذي جاء في ركاب المحتل هو الذي يحكم الناس رغم أنوفهم، بدلاً من الشريعة الإسلامية، التي ظلوا يرجعون إليها في الإفتاء والقضاء والتشريع ثلاثة عشر قرناً كاملة من الزمان.

وأمسى فكر الغرب الفلسفي، والأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والثقافي مصدر التوجيه، ومصدر التأثير ومصدر التحريك ومصدر التخطيط لمجتمعنا المسلم، بعد أن كان الإسلام هو الموجّه الأول والمؤثر الأول والمحرك الأول للأمة، في شتى ميادين الحياة.

لم يعد الإسلام هو أساس الهوية، والانتماء والولاء لأبناء الأمة، كما كان من قبل، وغدت تنافسه، بل تقاومه هويات وولاءات وانتماءات أخرى، وأصبحت المسلَّمات العقدية والفكرية والشرعية عرضة للتشكيك، وظهر في مصر كتاب “في الشعر الجاهلي” للدكتور طه حسين عام 1926م، وقبله كتاب “في أصول الحكم” للشيخ علي عبدالرازق عام 1925م، وهو الذي جرد فيه الإسلام من الحكم، واعتبره مجرد رسالة روحية، وهو ما لم يقل به أحد قط طوال العصور الماضية.

وكان سقوط الخلافة إيذاناً بأن القلعة باتت بلا حراس، وأن الحمى أمسى مستباحاً لكل من هبَّ ودبَّ، حتى اجترأ عليه الجبناء، واستنسر في أرضه البغاث.

وكان سقوط الخلافة عام 1924م فاجعة من الفواجع الكبرى في تاريخ الأمة، زلزل كيانها وهز بنيانها، أشبه بدخول الصليبيين بيت المقدس، ودخول التتار بغداد في العصور الماضية.

وكان مما زاد هول الفاجعة أن الذي ألغى الخلافة رجل ضلل المسلمين ردحاً من الزمن، حتى كانوا يحسبونه من أبطال الإسلام.

كان المسلمون يهللون ويكبرون كلما انتصر “الغازي مصطفى كمال” -كما كانوا يسمونه– يحسبون ذلك انتصاراً للإسلام، ودعماً للخلافة، وشداً لأزر الأمة، وتقوية لجهود الإصلاح والتجديد، ولكنهم فوجئوا بهذا الرجل الذي خدعوا فيه ينقلب على الإسلام وأمته وحضارته وشريعته، ويتحول إلى عدو له، موالٍ لأعدائه، محطم القلاع، وأولاها الخلافة.

وثار ثائر المسلمين في كل مكان، ونادى المنادون، وعقدت المؤتمرات، من أجل إعادة الخلافة، ولكن العقد قد انفرط، وتناثرت حباته هنا وهناك وهنالك، ولم يكن من السهل جمعه من جديد، فقد كانت المؤامرة أكبر وأعمق من تلك المحاولات الغاضبة والحزينة في الهند وفي مصر وغيرهما من بلاد الإسلام، وبقي الميدان خالياً يحتاج إلى فارس جديد، يخطط للمعركة بفكر جديد، وسلاح جديد، وجنود جدد.

موجة التغريب العاتية

وكان من أبرز ما يجسد الحاجة إلى دعوة جديدة الموجة العاتية للتغريب الفكري والاجتماعي، التي سماها حسن البنا “طغيان المادة على بلاد الإسلام”، وقد بين –يرحمه الله– آثار هذا الغزو الغربي المكثف الذي استبانت أخطاره على الأمة الإسلامية في شتى أقطارها، وتجلى أظهر ما يكون في مصر، على الرغم من منزلتها الإسلامية، وتاريخها في الدفاع عن الإسلام، بيَّن ذلك بجلاء في رسالة “بين الأمس واليوم”، فقال: “وقد عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية، بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة، جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها أيديهم، وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة، من العلوم والمعارف والصناعات، والنظم النافعة، وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي، إحكاماً شديداً، واستعانوا بدهائهم السياسي، وسلطانهم العسكري، حتى تم لهم ما أرادوا.

أغروا كبار المسلمين بالاستدانة منهم والتعامل معهم، وسهلوا عليهم ذلك وهوّنوه عليهم، واستطاعوا بذلك أن يكتسبوا حق التدخل الاقتصادي، وأن يغرقوا البلاد برؤوس أموالهم ومصارفهم وشركاتهم، وأن يديروا دولاب العمل الاقتصادي كما يريدون، وأن يستأثروا دون الأهلين بالأرباح الطائلة، والثروات العظيمة، وتمكنوا بعد ذلك من أن يغيروا قواعد الحكم والقضاء والتعليم، وأن يصبغوا النظم السياسية والتشريعية والثقافية بصبغتهم الخالصة في أقوى بلاد الإسلام.

وجلبوا إلى هذه الديار نساءهم الكاسيات العاريات، وخمورهم ومسارحهم ومراقصهم وملاهيهم وقصصهم وجرائدهم ورواياتهم وخيالاتهم وعبثهم ومجونهم، وأباحوا فيها من الجرائم ما لم يبيحوه في ديارهم، وزيّنوا هذه الدنيا الصاخبة العابثة، التي تعج بالإثم وتطفح بالفجور، في أعين البسطاء الأغرار من المسلمين الأغنياء، وذوي الرأي فيهم، وأهل المكان والسلطان.

ولم يكفهم هذا حتى أنشؤوا المدارس والمعاهد العلمية والثقافية في عقر ديار الإسلام، تقذف في نفوس أبنائه الشك والإلحاد، وتعلمهم كيف ينتقصون أنفسهم، ويحتقرون دينهم ووطنهم، وينسلخون من تقاليدهم وعقائدهم، ويقدسون كل ما هو غربي، ويؤمنون بأن ما يصدر عن الأوروبيين وحده هو المثل الأعلى في هذه الحياة.

واحتوت هذه المدارس على الطبقة العليا وحدها، وصارت وقفاً عليها، وأبناء هذه الطبقة هم العظماء والحكام، ومن سيكون بيدهم بعد قليل مقاليد الأمور في هذه الأمم والشعوب، ومن لم يتم نضجه في هذه المعاهد الموضعية، فإن في البعثات المتلاحقة ما يكفل لهم التمام.

ونجح الغزو الاجتماعي المنظم العنيف أعظم النجاح، فهو غزو محبب إلى النفوس، لاصق بالقلوب، طويل العمر قوي الأثر، وهو لهذا أخطر من الغزو السياسي والعسكري بأضعاف الأضعاف”.

ثم يقول يرحمه الله: “ولقد استطاع خصوم الإسلام أن يخدعوا عقلاء المسلمين، وأن يضعوا ستاراً كثيفاً أمام أعين الغُيَّر منهم، بتصوير الإسلام نفسه تصويراً قاصراً في ضروب من العقائد والعبادات والأخلاق، إلى جانب مجموعة من الطقوس والخرافات والمظاهر الجوفاء، وأعانهم على هذه الخديعة جهل المسلمين بحقيقة دينهم، حتى استراح كثير منهم إلى هذا التصوير واطمأنوا إليه ورضوا به، وطال عليهم في ذلك الأمد، حتى صار من العسير أن نفهم أحدهم أن الإسلام نظام اجتماعي كامل يتناول كل شؤون الحياة.

نستطيع بعد ذلك أن نقول: إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس، ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري، ولا عجب في هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، وإن كانت مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية في ذاتها فياضة بالخصب والحياة، جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك، لأنها الحق، ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة بغيرها، ولأنها من صنع الله وفي حياطته: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، (وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة: 32)”.

تصوير واقع مصر والوطن العربي والإسلامي

والنتيجة بعد ذلك كله أن واقع الحال في مصر، وفيما حولها من الوطن العربي والإسلامي، كان ينادي بوجوب دعوة جديدة، سماها حسن البنا “دعوة البعث والإنقاذ”.

ويلزمنا أن نصور هذا الواقع تصويراً موضوعياً بعيداً عن لغة العواطف والإثارة، لنعلم أن دعوة حسن البنا كانت فريضة وضرورة؛ فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع.

وسأستعين في هذا بما كتبه د. محمود أبو السعود في مقدمته لكتاب ريتشارد ب. ميتشل عن الإخوان، في وصف حالة مصر مع بعض التصرف بالإضافة والحذف، وذلك في الفقرات التالية:

1- وطن باهت اقتطع من أصله بعد أن قطع الحلفاء المنتصرون أوصال الإمبراطورية العثمانية، وبعد أن أطاح مصطفى كمال بالخلافة الإسلامية وأعلن العلمانية، حينئذ طبق الإنجليز معاهدة “سايكس – بيكو” السرية، وأصبحت مصر داخل نطاق الإمبراطورية البريطانية، وإن منحت في الظاهر ملابس الاستقلال.

وجدت مصر نفسها منعزلة عن دول العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، وأحست بعجز المسلمين وفي عنقها قيد ثقيل من الاستعمار، وشجع المستعمرون النعرة الوطنية، هادفين إلى أن يحل “الوطن” محل “الدين”، وأن يكون الولاء لـ “الوطن” لا “لله” وأن يقسم الناس بـ “الوطن” لا بـ “الله”، وأن يموتوا في سبيل الوطن، لا في سيبل الله، حتى قال شوقي –رغم نزعته الإسلامية المعروفة في شعره– يخاطب المصريين:

وجه الكنانة يغضب ربكم

أن تجعلوه كوجهه معبوداً!

2- شعب مؤمن بالله والإسلام عقيدة راسخة، ولكنه شعب جاهل، الأغلبية الساحقة فيه لا تقرأ ولا تكتب، فقير مستغل أسوأ الاستغلال، ولكنه أيضاً شعب عريق قديم كريم، فيه طيب أرومة مع ذكاء وفطنة، أضفت عليه ظروفه البيئية والتاريخية حب السلام، وليس الاستسلام، كما يظن الكثيرون، فقد يرضخ المصري المسلم وغير المسلم لحاكم ظالم، وقد يكف عن المجاهدة المادية إذا غلبه مستعمر فاتح، ولكنك تجده أبداً ثائراً في ذات نفسه على الظلم والاستعمار، ترى ذلك في بسمته الساخرة، وتسمعه في نكتته اللاذعة، بل إنه ليندفع في ثورته حين تتاح له فرصته، فإذا به يحقق ما كان يظن أنه مستحيل عليه.

وكان الشعب في هذه الحقبة الزمنية مغلوباً على أمره تماماً، وما قام بثورة 1919م إلا لإحساسه بالضياع، وقد وجد فيها تحقيقاً لذاته، وتعبيراً عن وجوده، وكأنه أراد أن يحس بإنسانيته بإظهار إرادته.

ثار هذا الشعب ولم يطالب بالخبز وهو جائع، ولا بإلغاء ملكية الأرض الزراعية وهو لا يكاد يملك منها شيئاً، ولم يطالب بإلغاء الألقاب والقضاء على طبقة “البكوات والباشوات”، والجمهور من لابسي الجلاليب والطواقي.. كانت ثورته تعبيراً عن صادق شعوره برفضه الاستعمار، وكان مخلصاً في مطالبته بالاستقلال، وإن لم يفكر أو يتصور ماذا سيكون شأنه بعد الاستقلال، بل لم يرسم لنفسه صورة ولو باهتة لهذا الوطن في ظل الاستقلال، ومع هذا كله، وفي وسط هذه الثورة العارمة، كان الإسلام حياً في قلبه، متحركاً في باطن عقله ومستتر ضميره، فاعتبر من قتل في الثورة برصاص الإنجليز أو السلطة الحاكمة شهيداً له جنات الخلد عند ربه، واقترنت الثورة بـ “المسجد”، وخرجت المظاهرات من الأزهر وهو رمز الإسلام ومعهده آنذاك.

3- مستعمر قوي ذكي لئيم ذو دهاء ومكر شديد، درس أحوال البلاد عن كثب، ومكّن لنفسه على أيدي بعض الحكام، وكوّن منهم طبقة “المستوزرين” ومهد لتطامن الحكم إليه عن طريقين:

أ- الاستعمار الفكري: حيث عمل منذ بدء الاحتلال على تنحية الشريعة الإسلامية من قانون القضاء، وحصرها في الأحوال الشخصية، وحيث فصل بين “العلم” و”الدين”، بل فصل بين المدارس المدنية والمدارس الدينية، فأوجد هوة سحيقة بين المثالية الإسلامية والمذهبية المادية التي فرضها بحكم القانون والتعليم.

ب- الاستعمار المادي: حيث وجه اقتصاد البلاد إلى إنتاج المادة الخام التي تنتجها الأرض الزراعية، حتى كنا نقرأ في الكتب المدرسية أن مصر بلد زراعي لا يملك مقومات الصناعة! يضاف إلى ذلك أن الاستعمار وجه الناشئة إلى محراب الحكومة، فكانت المدارس تخرج الموظفين، وأصبحت القيم الاجتماعية تقيس المرء بوظيفته الحكومية، فإذا علمنا أن من يدرس العلوم الدينية تقتصر وظيفته على إمامة مسجد أو “مأذونية” زواج وطلاق، أو عمل في المحكمة الشرعية، أو تدريس اللغة العربية والقرآن في المدارس الدينية، أو التدريس في المعاهد التي تخرج فيها.. إذا علمنا هذا اتضح لنا كيف استطاعت السياسة الاستعمارية أن تحارب شرعة الإسلام كفلسفة حياة، ونظام تعامل ودستور يرسم للأفراد حدود المساواة والحرية، وحقوق التكافل والتعلم والعمل.

4- نظام حكم ظالم: حيث فرض ملكاً على شعبه، وحيث صيغ دستور يحد من سلطة الحكومة المصرية ومن سياستها، ويعامل الأجنبي بقانون يختلف عن القانون الذي يسري على المواطنين، ويطبقه قاض من غير المواطنين.

كان الملك غريباً عن رعيته، لا يكاد يتحدث لغتهم، ودع عنك مشاركته لعواطفهم وآلامهم وآمالهم، وكان همه البقاء في الحكم، والاستمتاع بجاه الملك ونعيمه، وكان ينظر إلى هذا الوطن نظرته إلى ملك يمينه، يتحكم في الشعب ومصايره بما يراه ويهواه.

5- طبقة حاكمة استصفاها الملك ورضي عنها المستعمر، غالبيتها من سلالة ألبانية أو تركية، ورثت عن آبائها وأجدادها القريبين مساحات واسعة من الأرض الزراعية التي أممتها الدولة في عهد محمد علي باشا، ووزعها إسماعيل على أقربائه وأصفيائه.

وظلت هذه الطبقة التي لم تكن تعرف من القرآن إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا اسمه، وبعض شعائره، والتي تربت في مدارس الأوروبيين، وأتقنت لغاتهم أكثر مما أتقنت لغة القرآن والمواطنين، ظلت تتولى مقاليد الحكم حتى بعد قيام الثورة عام 1919م، وبعد دستور عام 1923م، إن ظهر على المسرح رجال من صميم الشعب انضموا إلى حزب الوفد، الذي كان يمثل غالبية المصريين، وكانوا يحكمون لفترات قصيرة، كلما هبت رياح أزمة أتى بهم الملك، ثم يعصف بهم إثر أزمة يفتعلها، أو يفتعلها له المستعمر المحتل.

كانت الطبقة الحاكمة هي الطبقة الغنية، وهي الطبقة المتعلمة، وهي المالكة لمنابع الثروة، وعلى الرغم من وجود الأحزاب المتعددة، فإن الأكثرية من الشعب كانت متعقلة بحزب واحد، هو حزب الوفد، الذي تزعمه رجل من صميم الشعب هو سعد زغلول، وخليفته مصطفى النحاس.

لم يناد الوفد قط بالإسلام نظاماً للحياة، ولم يكن في برنامجه أن يعيد للناس قوانينهم الإسلامية، أو أن يشيع بينهم الإسلام منهجاً وفكرة وشريعة، نزل بها وحي الله على نبيه عليه الصلاة والسلام تحدد المثل الأعلى، وترسي للناس قواعد معاملاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية، ومع ذلك كان زعماء هذا الحزب يدركون تماماً مدى تغلغل الإسلام في النفوس، فاستعملوا الدين وسيلة لتوطيد زعامتهم واكتساب قلوب العامة، وكان غير المسلمين من القادة الوفديين يحفظون من آيات القرآن الكريم ما يترنمون به في خطبهم، وهم يعلمون كم يلقى ذلك من قبول في نفوس السامعين، وكيف تخشع له قلوبهم.

هكذا كان حال مصر والمصريين، وطن ضربت عليه العزلة، وشعب مؤمن جاهل مغلوب على أمره، ومستعمر داهية متمكن من الحكم سافراً أو مقنعاً، وملك غريب عن شعبه لغة وفكراً وعاطفة، وطبقة حاكمة منعزلة عن الرعية، وهي المالكة لمنابع الثروة بغير حق شرعي، ونظام قانوني مستقى من الغرب بعيد عن أعراف الناس ومعتقداتهم، ونزعة وطنية مستحدثة، وإقصاء متعمد للدين الإسلامي عن واقع الحياة.. التعليم لا توجهه فكرة الإسلام، والثقافة لا ترتكز على مفاهيم الإسلام، والتقاليد لا ترجع إلى قيم الإسلام، كما أن القوانين لا تحتكم إلى شريعة الإسلام.

6- ووطن عربي وإسلامي يشبه حاله حال مصر، في تحكم الاستعمار في مقدراته، وفي اصطناع طبقة يربيها الاستعمار في حضانته، ويرضعها من لبان ثقافته، ويهيئها لحكم الشعب كما يريد المستعمر، وفجوات اجتماعية بين ذوي الثراء الفاحش والفقر المدقع، وفلسفة علمانية دخيلة عزلت الدين عن الحياة، وتبنت فكرة “الوطنية الإقليمية” أو فكرة “القومية العنصرية” بين شعوب المسلمين، حتى تغيب فكرة “الأمة الواحدة” التي أرادها الله لتتحول إلى “أمم شتى” يجافي بعضها بعضاً، بل يعادي بعضها بعضاً، بل ربما قاتل بعضها بعضاً، بعد أن كانت تضمهم “دار واحدة” هي دار الإسلام، وتحكمهم “مرجعية واحدة” هي شريعة الإسلام، وتجمعهم “دولة واحدة” هي دولة الخلافة.

في هذا الجو الغائم القاتم ولدت دعوة الإخوان المسلمين، أحوج ما تكون مصر -والوطن العربي والإسلامي الكبير– إليها، لتكون “دعوة البعث والإنقاذ” كما عبر عنها حسن البنا، مؤسس الحركة.

بدأت هذه الدعوة منطلقة من فكر مؤسسها وشعوره الداخلي الغامر بأن عليه فرضاً لأمته يجب أن يؤديه، وأن لديه طاقة يجب ألا يدخرها في إحياء الأمة، وتجديد دينها.

وقد كانت نشأته وتربيته ودراسته كلها مساعدة له على المضي في هذا الطريق، وكانت ظروف دراسته في القاهرة بعد دمنهور، وما رآه وسمعه وعايشه في عاصمة مصر دافعاً قوياً ليقوم بدعوته.

وبدأت الدعوة بسيطة، ولكنها عميقة، محدودة، ولكنها قوية، صغيرة في كَمّها، ولكنها كبيرة في كيفها، فقيرة في المال، ولكنها غنية بما تملك من إيمان لا يتزعزع، قليلة الإمكانات، ولكنَّ لديها يقيناً وطموحاً وآمالاً ستزلزل الدنيا يوم تعرفها.


([1]) العدد (1353)، ص42-45 – 24 صفر 1420ه – 8/6/1999م.  

Exit mobile version