المبشرات بانتصار الإسلام من السُّنة النبوية (2-3) *

وفي السُّنة النبوية والسيرة النبوية مبشرات كثيرة وفيرة، مر بنا ذلك بعضها فيما نقلناه عن الحافظ ابن كثير.

وهذه المبشرات النبوية قد حفلت بها دواوين الحديث الشريف من الصحاح والسُّنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء، وغيرها من المصنفات الحديثية.

ولكن المسلمين –في عصور التراجع والتخلف– أغفلوها ونسوها، ولم يذكروا إلا أحاديث الفتن وأشراط الساعة، وقد فهموها فهماً يوحي باليأس من صلاح الحال، ومن كل عمل ينهض بالأمة من عثرتها، ويجتهد في تغيير الواقع إلى ما هو أحسن وأمثل، ولا يعقل أن يصدر من هادي الأمة أن يثبطها عن محاولة الإصلاح، وإرادة التغيير.

وكل هذه المبشرات أخبار بمستقبل الإسلام، وأن الغد له ولأمته، أخبر بها من لا ينطق عن الهوى.

وأود أن أذكِّر بأن الرسول الكريم لا يعلم الغيب بذاته، فالله وحده هو الذي يعلم الغيب بذاته، كما قال الله عز وجل: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل: 65).

وإنما يعلم الرسول من الغيب ما أعلمه الله تعالى به، فهو يخبر به كما أعلمه الله سبحانه، قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (الجن).

وسنذكر أهم هذه المبشرات في الصحائف التالية:

عودة الإسلام إلى أوروبا وفتح رومية

من ذلك: ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي المدينتين تفتح أولاً؛ قسطنطينية أو رومية؟ فقال: “مدينة هرقل تفتح أولاً”، ورومية هي روما عاصمة إيطاليا الآن، والقسطنطينية هي إسطنبول الآن، يفهم من السؤال أن الصحابة كانوا قد علموا قبل ذلك أن الإسلام سيفتح المدينتين، ويدخل أهلهما في دين الله، ولكن يريدون أن يعرفوا: أي المدينتين تسبق الأخرى، فأجابهم أن مدينة هرقل –وهي القسطنطينية– ستفتح أولاً.

وقد تحقق ذلك على يد الفتى العثماني الطموح محمد بن مراد ابن الثالثة والعشرين، الذي عرف في التاريخ باسم “محمد الفاتح”، وفتحت مدينة هرقل في القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي، وبالتحديد في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ/ 29 مايو 1453م.

وبقي الجزء الثاني من البشرى؛ فتح رومية وبه يدخل الإسلام أوروبا مرة أخرى بعد أن طرد منها مرتين؛ مرة من الأندلس، ومرة من البلقان.

وظني أن هذا الفتح سيكون بالقلم واللسان، لا بالسيف والسنان، وأن العالم سيفتح ذراعيه وصدره للإسلام، بعد أن تشقيه الأيديولوجيات الوضعية، ويتطلع إلى مدد من السماء وهدي من الله فلا يجد إلا الإسلام طوقاً للنجاة.

انتشار دعوة الإسلام في العالم كله

ومن هذه المبشرات ما رواه تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ليبلغن هذا الأمر (يعني أمر الإسلام) ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر”.

ومعنى بلوغه ما بلغ الليل والنهار: انتشاره في الأرض كلها، حيث يبلغ الليل والنهار، ودخول هذا الدين الحواضر والبوادي، فالحواضر هي التي بيوتها من مدر (أي من حجر)، والبوادي هي التي بيوتها من وبر وشعر، وسيدخل الإسلام جميعها، وبهذا يتحقق وعد الله تعالى في كتابه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وذلك في ثلاث آيات: في (التوبة: 33) وفي (الفتح: 28)، وفي (الصف: 9).

ومعنى ظهوره على الدين كله: غلبته على جميع الأديان، وفي القرون الإسلامية الأولى غلب الإسلام على اليهودية والنصرانية والوثنية العربية والمجوسية الفارسية، وبعض أديان آسيا وأفريقيا، ولكنه لم ينتصر على جميع الأديان، فمازلنا ننتظر هذه البشارة، ولن يخلف الله وعده.

وأكد هذه البشارة ما رواه المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز، أو بذل ذليل..” (الحديث).

اتساع دولة الإسلام في المشارق والمغارب

ومن هذه المبشرات ما رواه ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين؛ الأحمر والأبيض..” (الحديث).

ومعنى “زوى لي الأرض”: أي قبضها وجمعها له عليه الصلاة والسلام حتى يراها جملة واحدة، وهذا الحديث يبشر باتساع دولة الإسلام حتى تشمل المشارق والمغارب، أي الأرض كلها، فإذا كان الحديث السابق –الحديثان السابقان– يؤذنان بانتشار دعوة الإسلام، وعلو كلمته، فهذا الحديث يبشر بقوة دولة الإسلام واتساعها، بحيث تضمن المشارق والمغارب، التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.

الرخاء والأمن وفيض المال

ومن هذه المبشرات ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً”، وزاد أحمد في روايته: “وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق”.

ومنها ما رواه أبو هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل منه صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرَبَ لي”.

ويؤكده حديث أبي موسى مرفوعاً: “ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحداً يأخذها منه”.

ومثله حديث حارثة بن وهب مرفوعاً: “تصدقوا فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها”.

وهذا كله دليل على ظهور الرخاء ورغد العيش، وزوال الفقر من المجتمع، بحيث لا يوجد فيه فقير يستحق الصدقة أو يقبلها، وهذا من بركات عدل الإسلام، وأثر الإيمان والتقوى في حياة الناس، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف: 96).

عودة الخلافة على منهاج النبوة

ومن هذه المبشرات ما رواه حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” ثم سكت.

والملك العاض –وفي رواية: العضوض– هو الذي يصيب الناس فيه عسف وظلم كأنَّ له أنياباً تعض، أما الملك الجبري فهو القائم على الجبروت والطغيان، أشبه بالحكم العسكري المستبد في عصرنا.

فهذا الحديث يبشر بانقشاع عهود الاستبداد والظلم والطغيان، وعودة الخلافة الراشدة، المتبعة لمنهاج النبوة في إقامة العدل والشورى، ورعاية حدود الله وحقوق العباد.

الانتصار على اليهود

ومن هذه المبشرات ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقاتلكم اليهود، فتسلطون عليهم، ثم يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي، فاقتله”.

ومثله ما رواه أبو هريرة مرفوعاً: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتله”.

فهل ينطق الحجر والشجر بلسان المقال –آية من آيات الله، وما ذلك على الله بعزيز– أو ينطقان بلسان الحال؟ بمعنى أن يدل على كل شيء على اليهود، ويكشف عنهم.

وأياً كان المراد، فالمعنى أن كل شيء سيكون في صالح المسلمين وضد أعدائهم اليهود، وأن النصر لا ريب فيه، وأن أسطورة “القوة التي لا تُقهر” التي يشيعها اليهود لن تستمر، وأن الذين اغتصبوا فلسطين بقوة السلاح، وسلاح القوة، سيخذلهم الله، الذي يملي للظالمين، ثم يأخذهم أخذاً أليماً شديداً.

بقاء الطائفة المنصورة

ومن هذه المبشرات ما رواه عدد من الصحابة رضي الله عنهم مثل ما رواه معاوية عنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس”.

وقد صح هذا الحديث من رواية عمر، والمغيرة، وثوبان، وأبي هريرة، وقرة بن إياس، وجابر بن حصين، وعقبة بن عامر، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة، الذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.

ومعنى هذه الأحاديث كلها: أن الخير سيستمر في هذه الأمة، وأنها لا تخلو من قائم لله بالحجة، ومن ناصر للحق، مستمسك به، حتى تقوم الساعة، وأن هذه الطائفة المنصورة باقية حتى يأتي أمر الله، وإن أصابها ما أصابها من لأواء وأذى.

يؤكد هذا ما رواه أبو مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله أجاركم من ثلاث خلال؛ ألا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وألا تجتمعوا على ضلالة”.

ظهور المجددين في كل قرن

ومن هذه المبشرات ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.

وكلمة “من” في الحديث تشمل المفرد، كما قالوا عن عمر بن       عبد العزيز، والشافعي، والغزالي، كما تشمل الجمع، كما ذهب إليه بعض الشراح، وهو ما نختاره، فقد يكون المجدد جماعة دعوية أو تربوية أو جهادية، وهنا يكون سؤال المسلم: ما دوري في حركة التجديد؟ بدل أن يكون كل همه انتظار ظهور المجدد، وهو لا حول له ولا قوة!

مبشرات من التاريخ

ولا تقف المبشرات بانتصار الإسلام عند النصوص القرآنية الحديثية المتوافرة التي تملأ القلب يقيناً بأن الغد لهذا الدين العظيم، بل إننا نجد في وقائع التاريخ وأحداث الماضي ما يعمر قلوبنا بالثقة والأمل في مستقبله، برغم ما يقف في سبيله اليوم من عقبات، وما يعوق صحوته من عوائق هائلة، بعضها من صنع أعدائه في الخارج وأخرى من صنع خصومه في الداخل، وأعجب شيء أن يكون هؤلاء الخصوم أو أكثر ممن يحملون اسم الإسلام، ولكنهم –في الحقيقة– قد انضموا إلى صفوف محاربيه، فلا يريدون للشريعة أن تحكم، ولا لقيمه أن تسود، ولا لكلمته أن تكون هي العليا.

إن التاريخ يحدثنا أن في الإسلام “قوة ذاتية” مخبوءة، ولا تبرز إلا عند حلول الشدائد بساحته، وإحاطة المحن بأمته، فهناك نراه أصلب ما يكون عوداً، وأعظم ما يكون صموداً، وأشد ما يكون قوة، وأقدر ما يكون على تفجير الطاقات المكنونة لأمته، وإبراز ما خبئ من قوته وقدرته، فإذا هو يقاوم فيصمد، بل يغالب فيلغب، وإذا الضعف الظاهر الذي أطمع الناس قد استحال إلى قوة، بل إلى قوة قاهرة منتصرة.

رأينا ذلك في فجر تاريخ الإسلام؛ في يوم “بدر”، حيث انتصرت القلة على الكثرة، والضعف المادي على القوة، وامتنَّ الله على المؤمنين بقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران: 123)، (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26).

ورأينا ذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتدت قبائل العرب –فيما عدا المدينة ومكة والطائف– وظهر أدعياء النبوة الكذبة من كهنة العرب، وتبعتهم قبائلهم عصبية لهم، على حد قولهم: “كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر”، فكان مسيلمة، وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي.. وغيرهم، وانضم إليهم مانعو الزكاة، الذين أقروا بالصلاة ولم يقروا بالزكاة، وكانت فتنة عارمة، ومحنة قاسية، جعلت بعض الصحابة يقول لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، لا طاقة لك بحرب العرب جميعاً؛ الزم بيتك، وأغلق بابك، واعبد ربك، حتى يأتيك اليقين!

ولكنَّ أبا بكر الرجل الرقيق البكَّاء أبى أن يستسلم وثبت كالطود، وزأر كالليث، وجهَّز أحد عشر جيشاً لدحر المرتدين ومانعي الزكاة، ولما ناقشه عمر في مقاتلة مانعي الزكاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: “لا إله إلا الله”، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله”، وهنا قال له أبوبكر في يقين: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً (عنزة صغيرة) –وفي رواية: عقالاً– كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

وقامت معارك بين الصحابة –على قلتهم– والمرتدين ومانعي الزكاة –على كثرتهم– انتهت بانتصار المؤمنين على المارقين الذين رجعوا إلى حظيرة الإسلام تائبين مستغفرين مكفِّرين عن ردتهم بالانضمام إلى صفوف المجاهدين في قتال فارس والروم، وكانوا من أعظم الناس بلاء فيه، يعوّضون عما بدر منهم في حق الإسلام.

وعادت جزيرة العرب حصناً للإسلام على امتداد القرون.

وظهرت القوة الكامنة في الإسلام مرة أخرى، حين زحف عليه الغرب المسيحي بقضه وقضيضه، وثالوثه وصليبه، في تسع حملات شهيرة عرفت باسم “الحملات الصليبية”.

جاء الغرب الصليبي الزاحف يحمل في صدره حقداً أسود على الإسلام وأهله، طمعاً في خيرات بلاده، وأملاً في تحطيم قوته وميراث ملكه، وساعده على ذلك غفلة المسلمين، وغرق حكامهم في الشهوات، وتفرقهم من أجل الدنيا، وحرصهم على الإمارة، واستعداد هؤلاء الأمراء التافهين أن يبيع أحدهم أخاه ويشتري الدخيل الغريب، وأن يبيع أمته ويشتري إمارته.

فلا غرو أن ينتصر الصليبيون في أول الأمر، وأن يقيموا لهم ممالك وإمارات في ديار الإسلام، بالتعاون مع الخونة من الأمراء، وأن يدخلوا بيت المقدس، بعد مذبحة قُتل فيها عشرات الألوف، وجرت الدماء للركب.

وبقي الصليبيون في الشام نحو مائتي عام، وبقي بيت المقدس في أيديهم تسعين سنة كاملة.

ثم هيأ الله للإسلام رجالاً صمموا على أن يقاوموا العدوان، وأن يستردوا الأرض المغتصبة، ويستعيدوا الحق السليب، فكان عماد الدين زنكي، وابنه البطل نور الدين محمود الشهيد، الذي كان يُشبَّه بالخلفاء الراشدين في سيرته وشجاعته والتزامه وعدله، وتلميذه القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي، الذي كتب الله له النصر على الصليبيين في معركة “حطين” الشهيرة، وفي معركة فتح بيت المقدس، وإعادته إلى أمة الإسلام، وكانت بعد ذلك معارك في مصر، انتهت بأسر لويس التاسع في “دار ابن لقمان” بالمنصورة.

وذلك دليل على أن الأمة الإسلامية قد تنام، وقد تمرض، ولكنها لا تموت، ما دام يجري في عروق أبنائها دم العقيدة، وما دام فيها من يقودها بـ “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

وكما تعرض الإسلام للغزو من الغرب على أيدي الصليبيين الأوروبيين النصارى، تعرض للغزو من الشرق على أيدي التتار الوثنيين، الذين هاجموا بلاد الإسلام كالريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.

وقد ظهروا والمسلمون ضعفاء متفرقون، ليس لهم قيادة قوية تجمع صفوفهم، ولا نهضة إيمانية توقظ شعوبهم، والتتار كانوا في ذلك الزمن قوة عسكرية عاتية، لها قيادة مهيبة مطاعة، لا يقف في وجوههم أولئك الملوك الممزقون، والأمراء المفرقون والولاة المترفون، فسقطت البلاد في أيديهم بلداً بلداً، وأميراً أميراً، والنصر يغري بالنصر، والظفر يدفع إلى الظفر، حتى كان المثل السائد في ذلك الزمان: “إذا قيل لك: إن التتار قد انهزموا فلا تصدق”! إنها أسطورة “القوة التي لا تُقهر” تتكرر ما بين عصر وآخر.

وأخيراً زحفوا على عاصمة الخلافة العباسية بغداد دار السلام، وأرقى بلاد الإسلام، فسقطت تحت ضرباتهم وبمعونة مَن خانَ ممن ينتسبون إلى الإسلام، وسالت الدماء أنهاراً، واسودَّ نهر دجلة من كثرة ما ألقي فيه من كتب الحضارة، التي سال مدادها، حتى أحالت ماء النهر أسود حالكاً.

ولم تكن تمضي سنوات، حتى تحققت معجزة الإسلام مرتين؛ انتصر الإسلام على التتار عسكرياً في معركة من معارك التاريخ الحاسمة؛ وهي معركة “عين جالوت” بقيادة القائد المملوكي سيف الدين قطز، الذي حقق الله على يده النصر، ومعه جنود مصر، في يوم من أيام الله في 25 رمضان 658هـ، أي بعد سقوط بغداد بسنتين فقط.

وانتصر الإسلام مرة أخرى معنوياً، فإذا هؤلاء الجبابرة الذين غزوا الإسلام يغزوهم الإسلام، وإذا سيف الغازي المصلت يسقط أمام تأثير العقيدة الإسلامية العزلاء، وإذا الغالبون يدخلون أخيراً في دين المغلوبين! على خلاف ما هو معروف ومألوف، وهو ما قرره ابن خلدون أن “المغلوب هو المولع دائماً بتقليد الغالب المنصور”.

وفي العصر الحديث، رأينا الجهاد البطولي ضد الغزاة المستعمرين، في سائر ديار الإسلام، جهاد الأمير عبد القادر الجزائري ضد الفرنسيين، والأمير عبد الحكيم الخطابي ضد الإسبان، والبطل عمر المختار ضد الطليان، والشيخ عز الدين القسام ضد الإنجليز واليهود، مروراً بثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، ومعارك فلسطين ضد الصهاينة، والقناة ضد الإنجليز.

وكما اعترف المؤرخون الغربيون أنفسهم –أمثال برنارد لويس، في كتابه “الغرب والشرق الأوسط”– أن الحركات الدينية كانت هي قائدة معارك التحرير في سائر البلاد الإسلامية ضد الاستعمار، حتى حركة كمال أتاتورك نفسها، ولكن المؤسف أن الإسلاميين يزرعون، والعمانيين هم الذين يحصدون، إنهم لصوص مدرَّبون على سرقة ثمار الجهاد وثورات المجاهدين!


* العدد (1207)، ص44-46 – 23 صفر 1417هـ – 9/7/1996م.

Exit mobile version