الفتوى.. هي تنزيل الحكم على الواقع *

على هامش فعاليات معرض الدوحة الدولي الحادي عشر للكتاب، ألقى فضيلة د. يوسف القرضاوي محاضرة أثار فيها أهم قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، وهي قضية الاجتهاد، ومما قاله في محاضرته:

إنها قضية من أهم القضايا وأشدها ضرورية في هذا العصر، فنحن مبتلون في عصرنا هذا –وخصوصاً في القضايا الكبيرة الفكرية– بأننا نقع أبداً بين الإفراط والتفريط، وهذه مشكلة، وقلما نقف الموقف المتوازن الوسط الذي يليق بالأمة الوسط كما سماها الله تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: 143)، ونحن نحاول أن نقف هذا الموقف، وننهج هذا النهج، ونكون من هذا النمط الذي قال عنه الإمام علي رضي الله عنه: “عليكم بالنمط الأوسط الذي يلحق به التالي ويرد إليه الغالي”، هذا النمط الأوسط هو الذي نحاول أن نكونه في هذا الموضوع الخطير، موضوع الاجتهاد، خصوصاً أننا وجدنا الناس اليوم ما بين منغلق يريد أن يسد علينا أبواب الرحمة فلا تنفذ إلينا نسمة من النسمات، ولا يريد أن نعيش عصرنا، ويريد أن نظل أسرى الماضي، سجناء الموروث.

ومن ناحية أخرى، هناك من يريد أن نفتح الأبواب على مصاريعها دون التقيد بأي قيود، أو احترام لأي ثوابت، وكلاهما خطأ.

نحن نريد أن نتحدث عن الاجتهاد بضوابطه دون أن نجنح إلى هؤلاء ولا أولئك، ولكن قبل ذلك: ما معنى الاجتهاد؟

وأجاب فضيلته:

الاجتهاد يعرفه العلماء بأنه استفراغ الوسع في استنباط حكم شرعي من أدلته التفصيلية، وقد أخذوا كلمة استفراغ الوسع من الكلمة نفسها؛ أي اجتهد من جهد أي بذل الجهد أو تحمل الجهد.

ومعنى هذا أن المجتهد يبذل ويتعب ويعاني، وليس مجرد أن يقرأ عدة صفحات أو كتاباً أو كتابين، ويظن نفسه مجتهداً، فقد قال العلماء: اجتهد في حمل الصخرة العظيمة، ولا يقال: اجتهد في حمل الورقة.

الاجتهاد: المعاناة، ولذلك عبّر عنه باستفراغ الوسع، حتى إن بعض الأصوليين يقول: بحيث يشعر بالعجز عن المزيد منه، لا يستطيع أكثر من هذا، فقد بذل كل ما في طاقته وما عنده، فليس كل من كتب سواداً في بياض يقال عنه مجتهد، ثم استنباط الحكم من أدلته، فإن الله تعالى تعهد هذه الأمة بأن تستنبط الأحكام من الأدلة، لقد أنزل الله الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فهناك نصوص قطعية الثبوت والدلالة، ونصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، ونصوص ظنية الثبوت والدلالة معاً، ومن أجل هذه الظنية الثبوت والدلالة كان هناك مجال للاستنباط والاختلاف ما بين موسع ومضيق، بين ميسر ومتشدد، بين أهل ظاهر وأهل رأي، هكذا وسعت النصوص الجميع.

والله تعالى أراد ذلك ولم ينص على كل شيء، هناك أشياء نص عليها وأشياء تركها قصداً كما جاء في الحديث، وهو من أحاديث الأربعين النووية: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وترك أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها”.

منطقة العفو

وفي الحديث الآخر الذي رواه الحاكم وصححه عن أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) (مريم)”، وهذا ما أسميه أنا منطقة العفو، منطقة فراغ من التشريع ليس فيها نصوص ملزمة، تركها الله قصداً غير نسيان، وقد تركها لعقولنا لنملأها عن طريق القياس عن طريق الاستصلاح والاستحسان ومراعاة العرف والاستصحاب، ثم إن كثيراً من الأشياء التي نص عليها القرآن نص عليها بطريقة كلية، لا بطريقة تفصيلية.

ومثل فضيلته على ذلك بقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، لكن كيف تكون الشورى؟ ومن يُستشار؟ لم يحدد لنا ذلك، ولو حدد لنا صورة مفصلة في هذا لألزمتنا طوال العصور، والله تعالى لا يريد أن يلزمنا ويجمدنا في كيفية أو آلية أو صورة محددة، بل ترك ذلك لعقولنا.

كما مثل أيضاً لترك الكيفية باختلاف اختيار كل خليفة من الخلفاء الراشدين بطريقة غير الآخر، وهذا من رحمة الله بنا، كما مثل فضيلته بطريقة الحكم وشكل المحاكمة: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، فلم يحدد الكيفية التي تكون عليها المحكمة ولا تخصصها أو عدد قضاتها، وقد ترك ذلك لعقولنا، وعلق قائلاً: النص –فيما فيه نص– جاء بطريقة كلية في أغلب الأحيان، يفصل شؤون الأسرة أحياناً في المواريث، لأنه أراد ذلك، فهي مسائل يمكن أن يترتب عليها نزاعات.

لكنه استطرد قائلاً: حتى الأشياء التي نص عليها تفصيلاً، فإنما نص عليها في الغالب بحيث تتعدد فيها الأفهام، وتختلف فيها التفسيرات؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولغة العرب تتحمل الحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية، والمنطوق والمفهوم، وما يفهم بالعبارة، وما يفهم بالإشارة، ولذلك فإن الله تعالى لم يضيّق علينا في هذا.

ثم قال: معظم النصوص (99%) منها تقبل اختلاف الأفهام، وضرب مثلاً لذلك بالآية الكريمة: (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) (النساء: 43)، واختلاف أهل العلم في اللمس؛ هل هو لمس حقيقي، أو كناية عن الجماع؟

وأكمل: ثم إن الله تعالى قد وضع أيضاً المخففات وراعى الظروف الطارئة (الضروريات)؛ لأن الإسلام دين واقعي لم يحلّق بالناس في أجواء الخيال ويعاملهم كبشر يمشون على الأرض، ليسوا ملائكة، واستشهد في ذلك بقول حنظلة عن النفاق.

تغيير الفتوى بين الزمان والمكان

ثم انتقل فضيلة د. القرضاوي إلى قاعدة مهمة في مساق هذه القضية، وهي أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، وهذه قاعدة لها أدلتها من القرآن والسُّنة وعمل الصحابة والسلف.

وعلَّق على قول مجلة الأحكام العدلية في الدولة العثمانية حين قالت: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان، فقال: إنه يجب أن يقول لا تنكر الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، كما قال ابن القيم، كما كان يجب أن يقول: لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادي، فالأحكام القطعية لا تتغير، وإن هذا ملحوظاً ومفهوماً، لكنه مهم في مقام الصياغات لتكون دقيقة جامعة مانعة.

وتعني كلمة الفتوى عند القرضاوي: تنزيل الحكم على الواقع، وقال: إن هذا التنزيل يتغير، وهذا ما جعل الأئمة يختلفون فيما بينهم، ويختلف أحدهم مع نفسه، فكان للإمام الشافعي مذهبان قبل وبعد استقراره في مصر، وخالف أبا حنيفة أصحابُه في ثلث المذهب، لأنهم عاشوا بعده ورأوا وسمعوا ما لم يكن قد رأى أو سمع، فقالوا: لو عاش إمامنا ورأى ما رأينا لقال بمثل ما قلنا، يقول علماء الأحناف: إن هذا الاختلاف اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.

واستشهد باختلاف قضاء عمر بن عبد العزيز في المدينة عنه في بلاد الشام في الأخذ بالشاهد واليمين.

وأضاف: إن الفتوى قبل الابتلاء بالفعل غيرها بعد الابتلاء بالفعل.

باب الاجتهاد مفتوح

وعاد فضيلته إلى الاجتهاد فقال: إن باب الاجتهاد مفتوح لم يغلق، على غير ما شاع عن المتأخرين أنه مغلق، وتساءل: من يملك إغلاق باب فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل أغلقه المجتهدون؟ لا يتصور أن يغلق المجتهد باباً فتحه وولج فيه، هل أغلقه المقلدون؟ إن قولهم غير معتبر حتى لو أجمعوا، لأن الإجماع المعتبر هو اتفاق المجتهدين وليس اتفاق المقلدين.. لم يغلق باب الاجتهاد، إن بعض الناس قالوا هذا ليقطعوا الطريق على الأمراء والحكام الذين يستخدمون بعض ضعاف النفوس من العلماء، فهناك أناس يتخوفون من استخدام العلماء في تفريخ الفتاوى لأهل السلطان، وهذا ما نشهده في عصرنا للأسف، وأسميهم “علماء السلطة” أو “عملاء الشرطة”، فكي يسدوا الطريق على هؤلاء قالوا: لا اجتهاد.

وقال: إن الاجتهاد ظل واستمر، فلا يوجد عصر إلا وبه نوع من الاجتهاد، حتى في عصور الالتزام المذهبي الصارم، كان هناك نوع من الاجتهاد، وقد رأى العلماء تغير الزمان والمكان، وبعضهم أفتى بمذهب غيره حين وجد الضيق في مذهبه، ومثل بفتوى ابن زيد القيرواني باتخاذه كلباً لبيته مع كراهية مالك لذلك، ورد على منتقديه قائلاً: لو كان مالك في زمننا لاتخذ أسداً ضارياً! كما أن ابن تيمية في عصر التتار أوصى بترك التتار يشربون الخمر حتى يكفوا بها عن قتل المسلمين وسرقة الأموال!

وهذا يدلنا على أنه يجب أن نُعمل عقولنا في مقاصد النصوص، فلا نقف عند ظاهرية النص كما فعل الكثيرون ممن نسميهم اليوم “الظاهرية الجدد” غير مبالين بما وراء النص، لكن ابن تيمية راعى مقصد النص، وبيَّن لنا تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال.

وأكمل: من أجل هذا أقول: إن باب الاجتهاد مفتوح، وبعض المتشددين أوجبوا على الناس التقليد (تقليد شيخ في المذهب ومذهب في الطريقة).

وقال: من الذي أوجب اتباع مذهب معين، الواجب ما أوجبه الله ورسوله، وما قام الدليل على وجوبه من الكتاب والسُّنة، فهل هناك كتاب أو سُنة يقول اتبعوا مالكاً أو الشافعي أو أبا حنيفة أو غيرهم؟ لا يوجد، وهم أنفسهم نهوا عن تقليدهم! فكيف نوجب التقليد؟! ليس عندنا أي دليل يوجب علينا أن نقلد ولا نجدد وألا نجتهد في ديننا!

ثم رد فضيلته مقولة القائلين بأن الأقدمين قالوا كل شيء وتركوا لنا ما يغنينا في حياتنا المعاصرة وعلينا أن نبحث عما قالوه، وقال: إن هذا ليس بصحيح، إن الموروث الفقهي ينفعنا في كل شيء، صحيح أنه ينفعنا في أشياء كثيرة ولا نستطيع أن نبدأ من الصفر كما ينادي بعض الناس، فإن أي علم في الدنيا يبدأ من الصفر، وأي علم مؤسس فيه اللاحق على ما بناه السابق، ويضيف كل واحد جديداً، وبهذا التراكم يصبح العلم شيئاً كبيراً، فعلم الفقه تراكم واتسع وتعمق وأصبح ثروة كبيرة، لا نستطيع أن نستغني عن هذه الثروة الفقهية، ولو تركتها في كتابي فقه الزكاة ورجعت إلى القرآن والسُّنة فقط لأتيت بشيء يسير لا وزن له ولا قيمة، فلا بد أن نستفيد بهذه الثروة كلها، نستأنس بها، ونغترف منها كلها بجميع مدارسها وجميع مذاهبها، وممن هو خارج المذاهب، فليس كل الفقه الإسلامي داخل المذاهب، فهناك الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، وهناك مذاهب انقرضت مثل الثوري والأوزاعي والطبري، ومذاهب الظاهرية، فكل هذه الثروة ملك للأمة، فالفقه الإسلامي في نظر المجامع العلمية إحدى الثروات التي يجب الانتفاع بها، فكيف نهملها؟ فليس معنى الاجتهاد أن نطرح القديم، لكن لا نجعله قيداً ولا نطبقه مثل الناس حرفياً “مثل قاعدة المثل والقيمة”.

الحساب الفلكي.. النفي والإثبات

ثم استنكر د. القرضاوي الانغلاق الذي يجده من بعض أهل الفقه، واستشهد في ذلك بالاختلاف حول الأخذ بالحساب الفلكي الذي كاد أن يقر في مؤتمر فقهي لولا اعتراض واحد، وأكد أنه يأخذ بالحساب الفلكي في النفي لا الإثبات، في رؤية الهلال مثل هلالي رمضان والعيد.

لا إفراط ولا تفريط

وقال: هناك بعد الجمود في بعض الذين يشتغلون بالفقه وهو الانغلاق الذي نرفضه، كما نرفض كذلك الانفتاح أو الانفراط الذي لا يحترم الثوابت، ويريدون أن يفتحوا الباب على مصراعيه وليس عندهم أي ثابت أو قاطع.

هناك منطقتان أيها الإخوة: منطقة مغلقة لا تحتمل اجتهاداً ولا تغييراً ولا تبديلاً (منقطة القطعيات) التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة لا تحتمل وجهاً آخر، وبعض الناس لا يفهم هذه المصطلحات، وهي تمثل الثوابت وهي دائرة محدودة جداً، وهي مهمة جداً (1% أو أقل من ذلك)، تجسد وحدة الأمة العقدية والفكرية والشعورية والعملية، تحفظ الأمة من الذوبان من أن تصبح أمماً، وهي منطقة يجب أن تحترم، لكننا للأسف نرى بعض المجتهدين المعاصرين لا يراعون هذا، وأستشهد بما قاله أحدهم في إحدى القنوات الفضائية من أنه ليس عنده خطوط حمراء، فكل شيء عنده قابل للمناقشة، يناقش في الألوهية وفي القرآن وفي الآخرة وفي الجزاء.. وهو بذلك ليس مسلماً، فهو شخص لم يثبت عنده الإسلام حتى يجتهد فيه، فهناك تعمل عقلك حتى يثبت لك صحة الإسلام، ولا يصح هذا إلا باستعمال العقل، وقال المحققون من علمائنا: إن الإيمان المقلد لا يقبل، فلا بد أن تعرف الإيمان عن بصيرة، تعرفه بالدليل ولو إجمالاً، قال الإمام الغزالي: إن العقل أساس النقل، وهو مذهب الأشاعرة الماتريدية جميعاً، وشرح ذلك تفصيلاً.

نحترم الثوابت

ثم عاد فضيلته إلى الثوابت فقال: إننا حين ندعو للاجتهاد نحترم الثوابت، ندعو للاجتهاد من أهله وفي محله، ليس الاجتهاد مفتوحاً لكل من هبَّ ودبَّ، فهناك من لا يستطيع القراءة من الرسالة للشافعي، ومع ذلك يريد أن يجتهد في أعوص المسائل، فهناك شروط وضعها الأصوليون للمجتهد: أن يكون عالماً بالقرآن والسُّنة وباللغة العربية وبمواضع الإجماع والخلاف، وبأحوال الناس، وأن يكون عنده مَلَكة في الفقه والاستنباط، فليس كل من قرأ الفقه يعتبر فقيهاً، وهذا معنى “من أهله”.

ومعنى “في محله”؛ أي فيما هو ظني من الأحكام، وهي المنطقة الأخرى، وهي منطقة الظنيات، وهي تمثل 99% أو أكثر من النصوص والأحكام، ولذلك تجد الاختلافات شائعة في الفقه الإسلامي في كل المسائل.

وهذه رحمة من الله تبارك وتعالى، هناك نصوص لكن فيها أكثر من فهم، سألني بعضهم: كيف تخالف الحديث؟ ورددت: لم أخالف الحديث، لكني خالفت فهمك للحديث!

هذه المنطقة هي التي توسع أمامنا الآفاق فنستطيع أن تجتهد في الموروث وفي المسائل الجديدة، فليس كل ما في الفقه صالحاً لزماننا. ينبغي أن نختار من هذا التراث وفق قواعد وليس عبثاً، يختار أهل العلم وفق أصول مرعية وقواعد شرعية، ونرجح من هذا التراث الهائل.


* العدد (1237)، ص54-55 – 26 رمضان 1417ه – 4/2/1997م.

Exit mobile version