الشيخ محمد الغزالي.. فارس الكلمة الذي عاش للإسلام *

بقلم د. يوسف القرضاوي

وأخيراً هوى النجم الساطع، واندك الجبل الأشم، وطوى العلم المنشور، وغابت الشمس المشرقة، وترجل الفارس المعلم، ومات الشيخ الغزالي.

أخيراً فقدت الأمة الإسلامية علم الأعلام، وشيخ الإسلام، وإمام البيان، ورجل القرآن.

قلم كان سيفاً مسلولاً على أعداء الله، لم يفل له حد، طالما أرعب الملاحدة والمنافقين، وخرس لسانٌ ظل يجلجل ويدوي خلال ستين عاماً بالدعوة إلى الله تعالى؛ يحشد الناس ألوفاً ألوفاً في ساحته، ويجمعهم صفوفاً صفوفاً على دعوته.

مات الشيخ الغزالي وهو في قلب المعركة لم يلق السلاح، ولم يطو الشراع، بل ظل يصارع الأمواج، ويواجه العواصف التي هبت من يمين وشمال على سفينة الإسلام، تريد أن يبتلعها اليم، وأن تغرقها الرياح الهوج.

فقد نشرت وكالات الأنباء أن الشيخ أصيب بالأزمة القلبية الحادة، وهو يحاضر في ندوة “الإسلام والغرب” التي عقدت في الرياض، لقد سقط الفارس والسيف مصلت في يده، وأحسبه من الشهداء، إن شاء الله تعالى، فقد مات وهو يدعو ويدافع عن الإسلام، كما مات غريباً.

كنت أعلم أن الشيخ الغزالي مصاب بجلطة منذ سنوات، وأن أطباءه نصحوه وأكدوا عليه ألا يسافر؛ لأن صحته لا تحتمل متاعب السفر، ولكن الشيخ لم يكن يسعه إذا دُعي إلى عمل إسلامي أن يرفض، ويقول: “إن الكريم لو دُعي إلى طعنة لأجاب”.

ولهذا سافر منذ عدة أشهر إلى أمريكا ممثلاً لمجمع البحوث الإسلامية، وفوجئت حين قرأت في الأسبوع الماضي حضوره مهرجان الجنادرية الثقافي بالرياض، ليشارك في ندوة عن “الإسلام والغرب”، مع أن الشيخ أرسلت إليه دعوات كثيرة من عدة أقطار- وخصوصاً من الخليج– تلح عليه أن يساهم ببعض المحاضرات في ليالي رمضان، ولكنه اعتذر بلطف للجميع.

ويبدو أن الله تعالى قدَّر له هذا السفر لأمر يعلمه سبحانه، وهو أمر يحبه الشيخ، رحمه الله، ذلك أن يكون مثواه بالقرب من مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده الشريف، بمدافن البقيع بالمدينة المنورة التي ألَّف فيها كتابه القيّم “فقه السيرة” ودمعه يختلط بالمداد، تأثراً وحباً للرسول الكريم، وما كان يتاح له هذا إلا بمثل ما حدث، والله غالب على أمره.

وقد أخبرني صديقه وصديقي أ.د. محمد عمر زبير الذي حضر جنازته ودفنه بالمدينة، أن قبره في موضع متميز، قريب جداً من قبر الإمام مالك بينه وبين قبر الإمام نافع أحد القرَّاء السبعة، رضي الله عنهم جميعاً.

لقد عرفت الشيخ الإمام منذ نحو نصف قرن، فعرفت فيه العقل الذكي، والقلب النقي، والخلق الرضي، والعزم الأبي، والأنف الحمي.

عرفت الغزالي فما عرفت فيه إلا الصدق في الإيمان، والسداد في القول والإخلاص في العمل، والرشد في الفكر، والطهارة في الخلق، والشجاعة في الحق، والمعاداة للباطل، والثبات في الدعوة، والمحبة للخير، والغيرة على الدين، والحرص على العدل، والبغض للظلم، والوقوف مع المستضعفين، والمنازلة للجبابرة والمستكبرين، مهما أوتوا من قوة.

عرفت الشيخ الغزالي فعرفت رجلاً يعيش للإسلام وللإسلام وحده، لا يشرك به شيئاً ولا يشرك به أحداً، الإسلام لحمته وسداه مصبحه وممساه، ومبدؤه ومنتهاه، عاش له جندياً شاهر السلاح، فأيما عدو اقترب من قلعة الإسلام يريد اختراقها صرخ بأعلى صوته يوقظ النائمين وينبه الغافلين، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه على الله.

قد تختلف مع الشيخ الغزالي في قضية أو أكثر، وقد تنقده في بعض ما ذهب إليه من آراء، ولكنك لا تستطيع أن تشك في صدقه وإخلاصه وغيرته، وهو على كل حال مجتهد في فهم دينه وفي خدمته بالطريقة التي يراها أصلح وأصوب، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.

لقد ترك الشيخ الغزالي بصمات واضحة على العقل الإسلامي، لا يمحوها اختلاف الليل والنهار؛ بما ألَّف من عشرات الكتب، وما أنشأ من مئات المقالات، وما أقام من آلاف الدروس والخطب والمحاضرات، وما أذيع له من أحاديث.

في وجه الصهيونية التي شردت الأهل، وخططت لهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه.

وفي وجه التنصير الذي يريد أن يسلخ المسلمين من عقيدتهم ليصبح المسلمون عبيداً للصليبية الغربية.

وفي وجه الشيوعية التي سماها “الزحف الأحمر”، ونبه على خطرها من قديم، واكتساحها للجمهوريات الإسلامية في آسيا.

وفي وجه الحضارة المادية وإباحتها الجنسية، وعصبيتها العنصرية، ومحاولتها للسيطرة الإمبريالية، وإن لم ينكر ما فيها من عناصر إيجابية يمكن الاستفادة منها.

وفي وجه العلمانية اللاتينية، التي تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، تريد الإسلام عقيدة بلا شريعة، وسلاماً بلا جهاد، وديناً بلا دولة، واتباعاً أعمى للغرب شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

وقد بدأ الشيخ هذه الحركة من قديم، حين رد على صديقه الشيخ خالد محمد خالد في كتابه “من هنا نعلم”، ولكنه لم يقس عليه، وكان يظن به خيراً، وأنكر على الأزهر حين فكّر بعضهم أن يجرد الشيخ خالداً من شهادة العالمية، وقد صدقت الأيام ظن الغزالي، وعاد خالد إلى رحاب الإسلام الذي نشأ في ظله، وتربى في أحضانه.

وبقدر لين الشيخ مع أ. خالد، كان ناراً تكوي وتحرق على العلمانيين المعادين علناً لشريعة الإسلام، وهو يقول: لماذا لا نسمي هؤلاء باسمهم الحقيقي؟ إنهم “المرتدون”!

لقد عرفت الشيخ الغزالي عن كثب، عرفته في معتقل الطور، وعرفته بعد المعتقل، وعايشته وصحبته في السفر والحضر.

وقد وجدت الشيخ الذي يشتد ويحتد في نزاله الفكري، فيهدر كالموج، ويقصف كالرعد، ويزأر كالليث، حتى إنك لتحسبه في بعض ما كتبه مقاتلاً في معركة لا مجادلاً في قضية، وتحسب القلم الذي في يده، السيف أو الرمح في يد ابن الوليد! وجدته –عن كثب– إنساناً رقيق القلب، قريب الدمعة، نقي السريرة، صافي الروح، حلو المعشر، كريم الخلق، باسم الثغر، موطأ الأكناف، عذب الحديث، سريع النكتة، بسيطاً متواضعاً، هيناً ليناً، بعيداً عن التكلف والتعقيد والتظاهر والادعاء، تسبق العبرة إلى عينيه إذا سمع أو رأى موقفاً إنسانياً، ويهتز خشوعاً وتأثراً إذا ذكر الله والدار الآخرة، ولا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، يعترف لكل ذي موهبة بموهبته، لا يحسد ولا يحقد، يكره الظلم والتسلط.

ما أقدمه اليوم إنما هو ذكريات وخواطر وأفكار، تحاول أن تقدم صورة للشيخ الإمام، صادرة من معرفتي به، ومعايشتي له، وقراءتي وسماعي له، نحو نصف قرن من الزمان.

أجل، لست أؤرخ للغزالي، فما أنا بالمؤرخ، ولكني أشير إلى ملامح من حياته وسيرته، عرفتها عن معايشة وقرب، ولا أزعم أني رسمت له صورة بيِّنة الملامح، فما أنا ممن يحسن الرسم.

وربما قيل: إنك تكتب بقلم المحب لا بقلم الناقد، وأنا أشهد أني أحب الغزالي وأتقرب إلى الله بحبه، ولكني لم أعدم الحق فيما خط قلمي، ولا ينبغي أن يغمط الإنسان من يُحب، فراراً من أن يُتهم بالتحيز، فالعدل يحكم القريب والبعيد، والصديق والعدو؛ (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152).

وإني لأنكر على الإسلاميين أنهم لا يعطون مفكريهم وعلماءهم وأدباءهم ما يستحقون من تكريم وتقدير ينزلهم منازل، في حين يصنع العلمانيون والماركسيون هالات مكبرة حول رجالاتهم، حتى يجعلوا من الحبة قبة، ومن القط جملاً، وصدق فيهم قول الشاعر:

وبقيت في خلف يزين بعضهم

بعضاً ليدفع معور عن معور!

وإذا قيل: إنك تنظر إلى الشيخ بعين الرضا، وعين الرضا لا تبصر العيوب، فحسبي أن أقول: إني لا أزعم أن الغزالي مبرأ من العيوب، فما هو بالملك المطهر، ولا بالنبي المعصوم، إنما هو بشر يخطئ كما يخطئ البشر، ويصيب كما يصيب البشر، ولكنَّ أخطاءه وزلاته مغمورة في محيط حسناته وميزانه.

“وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث”، فكيف إذا كان بحراً لا تكدره الدلاء؟!

والحق أن هذا الكتاب أو هذه الدراسة التي قدمتها عن الشيخ الغزالي، رحمه الله، أثبت أننا أمام قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام فذ من أئمة الدعوة والتجديد.

بل نحن أمام مدرسة متكاملة متميزة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح، لها طابعها، ولها أسلوبها ولها مذاقها الخاص، وتحتاج إلى دراسات عدة لإبراز خصائصها ومواقفها وآثارها، فليس الغزالي ملك نفسه، وملك جماعة أو حركة، ولا ملك قطر أو شعب، بل هو ملك الأمة الإسلامية جمعاء.

لقد عاش الشيخ، رحمه الله، بشعور يغمره ويملأ فؤاده ووجدانه؛ إنه حارس من حراس هذا الدين الأيقاظ، ولا ينبغي أن يؤتى الدين من قِبَله وتفريطه، بل يجب أن يتنبه دائماً لأعدائه في الداخل والخارج، وأن يقف لهم بالمرصاد مدافعاً ذائداً، بل مقاتلاً مهاجماً، فخير وسائل الدفاع الهجوم، لا يلقي السلاح، ولا ينشد الراحة، ومعركة المصحف في العالم الإسلامي قائمة، والحرب على الإسلام وأمته دائرة، لم ينطفئ لها أوار، والدم الإسلامي مستباح، وأكثر الموكلين بالحراسة يغطون في نوم عميق أو مشغولون بالجدل حول فروع المسائل، وصغائر الأمور.

لقد كتبت الأقدار على الشيخ أن يحارب في جبهتين واسعتين:

الأولى: جبهة الخصوم الكائدين للإسلام، المتربصين به الشر، الكارهين لانتشار أنواره وعودته إلى قيادة الحياة من جديد.

بعض هؤلاء من خارج الإسلام، وخارج أرضه، من القوى العالمية التي تخافه أو تبغضه من اليهودية والصليبية والشيوعية والوثنية، الذين اختلفت دياناتهم، واختلفت طرائقهم، ولكن اتحدت أهدافهم على ضرب الإسلام، ووقف مسيرته، ووضع الأحجار والعثرات في طريقه، وهم الذين قال الله فيهم: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (الأنفال: 73).

وبعض آخر –للأسف الشديد– من داخل أرض الإسلام، بل من أبناء المسلمين أنفسهم، وممن يحملون أسماء المسلمين؛ محمد، وأحمد، وحسن، وحسين، وعمر، وعلي.. ولكنهم لا يضمرون للإسلام إلا شراً، ولا لدعاته إلا عداوة، ولا لشريعته إلا تنكراً.. وربما عادوه، لأنه ضد شهواتهم المحرمة، وضد مظالمهم المفترسة، وضد مصالحهم الآثمة، وضد مطامعهم الفاجرة.

والجبهة الثانية: جبهة “الأصدقاء الجهلة” للإسلام، الذين يضرون الإسلام أبلغ الضرر من حيث يريدون أن ينفعوه، ويهشمون وجهه من حيث يظنون أنهم يدفعون ذبابة عنه، هؤلاء الذين سماهم الشيخ “الدعاة الفتانين” الذين يشغلون الناس بالفروع عن الأصول، وبالجزئيات عن الكليات، وبالمختلف فيه عن المتفق عليه، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب.

لقد كان يشكو من دعاة أغلبهم نكبة على الإسلام، قذى في عينه! لا يقرؤون ولا يعانون، والقليل من الحقائق لديهم لا يضعونه في موضعه الصحيح، وعلل الأمة لا تلقى منهم أساة ولا بكاة؛ لأنهم مشدودون إلى جدليات الماضي السحيق، ولا يدركون ما جدَّ حولنا ولا الطفرات الهائلة التي قفزت بها الحياة على أرضنا.

وإذا كان الجسم المصاب بفقر الدم يسقط في أول مراحل الطريق، فالعقل المصاب بفقر المعرفة أعجز من أن يلاحق مطالب الجهاد، أو يلبي حاجات الحق.

إن مكمن الخطر على مستقبل الإسلام ومستقبل أمته وصحوته تكمن في هؤلاء الذين وجَّه إليهم الشيخ جل كتبه في المرحلة الأخيرة، عساهم أن يتعلموا من جهل، وينتبهوا من غفلة، وينتهوا عن الإعجاب بالرأي، والازدراء للغير، وأن يتعلموا الذلة على المؤمنين، والتوقير للكبار، والرحمة للصغار.

يقول الشيخ: “والخطورة تجيء من أنصاف متعلمين أو أنصاف متدينين، يعلو الآن نقيقهم في الليل المخيم على العالم الإسلامي، ويعتمد أعداء الإسلام –في أوروبا وأمريكا– على ضحالة فكرهم في إخماد صحوة جديدة لديننا المكافح المثخن بالجراح.

إن الحضارة التي تحكم العالم مشحونة بالأخطاء والخطايا، بيد أنها ستبقى حاكمة ما دام لا يوجد بديل أفضل!

هل البديل الأفضل جلباب قصير ولحية كثة؟ أو عقل ذكي، وقلب أنقى، وخلق أزكى، وفطرة أسلم، وسيرة أحكم؟

لقد نجح الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلامية، فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعاً أو جذوراً، وجعلوا الأصول المهمة أوراقاً تتساقط مع الرياح!

وشرف الإسلام أنه يبني النفس على قاعدة (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس)، وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج: 41)” (السنة النبوية، ص8).

وهذا ما يخيف الشيخ الإمام ويثير فزعه على غد الأمة، يقول رحمه الله:

“لقد خامرني الخوف على مستقبل أمتنا لما رأيت مشتغلين بالحديث –ينقصهم الفقه– يتحولون إلى أصحاب فقه، ثم إلى أصحاب سياسة تبغي تغيير المجتمع والدولة على نحو ما رووا ورأوا..!

إن أعجب ما يشين هذا التفكير الديني الهابط هو أنه لا يدري قليلاً ولا كثيراً عن دساتير الحكم، وأساليب الشورى، وتداول المال، وتظالم الطبقات، ومشكلات الشباب، ومتاعب الأسرة، وتربية الأخلاق.. ثم هو لا يدري قليلاً ولا كثيراً عن تطويع الحياة المدنية، وأطوار العمران لخدمة المُثل الرفيعة والأهداف الكبرى التي جاء بها الإسلام.

إن العقول الكليلة لا تعرف إلا القضايا التافهة، لها تهيج وبها تنفعل وعليها تصالح وتخاصم! هززت رأسي أسفاً وأنا أرمق مسار الدعوة الإسلامية.

إن الرسالة التي استقبلها العالم قديماً استقبال المقرور للدفء، واستقبال المعلول للشفاء، هانت على الناس فلم يروا فيها ما يستحق التناول، وهانت على أهلها فلم يدروا منها ما يرفع خسيستهم ويحمي محارمهم” (هموم داعية، ص55).

وفي مقدمة كتاب “الإسلام في وجه الزحف الأحمر”، كتب الشيخ يقول:

“رأيت أن أكتب هذه الصحائف الحافلة بالحقائق العلمية والتاريخية، وأودعتها صرخات قلب غيور على دينه، شفيق على أمته، وأعرف أنني بكتابتها سأتعرض لعداوات مميتة! ولكن بئست الحياة أن نبقى ويفنى الإسلام!”.

وفي مقدمة كتاب “قذائف الحق”، قال الشيخ:

“أعداء الإسلام يريدون الانتهاء منه، ويريدون استغلال المصائب التي نزلت بأمته، كي يبنوا أنفسهم على أنقاضها.

يريدون بإيجاز القضاء على أمة ودين.

وقد قررنا نحن أن تبقى معنا رسالتنا الخالدة، أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة، ولو اقتضى الأمر أن نذهب في سبيلها، لترثها الأجيال اللاحقة”.

إلى أن يقول في نهاية المقدمة: “إن الله أخذ على حملة الوحي أن يعالنوا به، ويكشفوا للناس حقائقه، وأكد عليهم ذلك في قوله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187)، فما بد من البيان وعدم الكتمان.

وأعلم أن ذلك قد يعرض لمتاعب جسام، ولكني أقول ما قال صديقنا عمر بهاء الدين الأميري:

الهول في دربي وفي هدفي

وأظل أمضي غير مضطرب!

ما كنت من نفسي على خور

أو كنت من ربي على ريب!

ما في المنايا ما أحاذره

الله ملء القصد والأرب!

(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 147)”.

شيخنا الحبيب..

لقد فقدتك الأمة أحوج ما تكون إليك، فقدتك والمعركة بين الإسلام وأعدائه حامية الوطيس، والأعداء قد جاؤوا الأمة من فوقها ومن أسفل منها، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وظن الناس بالله الظنون؛ (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب: 11).

كنا في حاجة إلى قلمك السيف، أو السيف القلم؛ ليصول ويجول مدافعاً عن الحق في مواجهة الباطل، عن الإيمان في مواجهة الكفر، عن الإسلام المحاصَر من اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والوثنية الشرقية، ومن عملائهم في ديار الإسلام ممن ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء.

فقدناك يا شيخنا، والمؤامرات تُبيَّت، والمؤتمرات تُعقد؛ لضرب صحوة الإسلام –بيد أبنائه– تحت أسماء خادعة، وعناوين كاذبة تحت اسم “الإرهاب” وهم أكبر الإرهابيين، وتحت عنوان “العنف” وهم أول من استخدمه، وتحت اسم “التطرف” وهم صانعو المتطرفين.

يريدون ألا يبقوا للجهاد جذوة تتقد، ولا للدعوة شمعة تضيء، ولا للصحوة صوتاً يجلجل، ولكنا تعلمنا منك أن كيد الله أقوى من كيدهم، ومكره سبحانه أسرع من مكرهم، ويده أشد من أيديهم؛ (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30)، (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة”: 32).

شيخنا الحبيب..

لا نجد كلمات في روعة بيانك نودعك بها، كل ما نقول لك: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم اغفر لشيخنا الغزالي وارحمه، وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبله في عبادك المخلصين، وأجزه خير ما تجزي به الأئمة الصادقين، واحشره مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وأجرنا في مصيبتنا فيه، واخلفنا فيه خيراً، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.. آمين.


* العدد (1192)، ص38-41 – 29شوال 1416هـ – 19/3/1996م.

Exit mobile version