يتعين القتال لرفع الظلم ونصرة الحق وإخماد الفتن وإنقاذ المستضعفين في الأرض (2-2)

كان السؤال حول أنواع الجهاد، وسمة القتال في الإسلام، فأجاب الشيخ يوسف القرضاوي، في العدد الماضي، بأن للجهاد أنواعاً كثيرة، منها جهاد النفس وجهاد الشيطان، ثم جهاد الظلم والفساد، ثم جهاد الكفار والمنافقين، مشيراً إلى أن الجهاد بالسيف نوع من ثلاثة عشر نوعاً من الجهاد.

وأضاف أن الجهاد في العهد المكي كان جهاد تبليغ ودعوة لم يؤمر فيه المسلمون بقتال، وتعين القتال عندما أصبح للمسلمين دار؛ ولأسباب كثيرة، منها دفع الظلم، ونصرة الحق، وإخماد الفتن، وإنقاذ المستضعفين في الأرض، فإذا ما حدث قتال فالمسلمون ملتزمون بأخلاقيات الحرب.

ويواصل الشيخ حديثه اليوم حول أن “الإسلام لا يتطلع لسفك الدماء” فيقول:

الإسلام لا يتشوف إلى القتال، ولا يتطلع إلى سفك الدماء، بل إذا انتهت الأزمة بين المسلمين وخصومهم بغير دماء ولا قتال، عقَّب القرآن بمثل هذه الكلمة المعبرة: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) (الأحزاب: 25)، فما أبلغ هذه الكلمة! وما أصدقها تعبيراً عن روح الإسلام السلمية! (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً).

وحين انتهت غزوة الحديبية بالصلح مع قريش، وإقامة الهدنة بين الفريقين، نزلت في ذلك سورة “الفتح”: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) (الفتح: 1)، وقال الصحابة: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: “نعم هو فتح”، فلم يتصوروا فتحاً بغير حرب.

وفي هذه السورة امتن الله على المؤمنين فقال: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (الفتح: 24)، فانظر كيف امتنَّ بكف أيدي المؤمنين عن أعدائهم.

وكان الرسول الكريم –وهو أشجع الناس– لا يحب الحرب، ويقول لأصحابه: “لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف”.

وكان يقول: “أحب الأسماء إلى الله: عبد الله           وعبد الرحمن.. وأقبح الأسماء: حرب ومرة”.

حتى لفظ “حرب” يكرهها، ولا يحب التسمية بها، كما كان يفعل العرب في الجاهلية، مثل حرب بن أمية.

انتهاك حرمات الإسلام ومقدساته سبب في الأمر بالقتال

مع هذا، يحرّض الإسلام على القتال، وبذل النفس النفيس، إذا انتهكت حرماته، أو ديست أرضه، أو دنس عرضه، بمثل هذه الآيات: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ {13}‏ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) (التوبة).

وهذه الروح القتالية المستبسلة هي التي يخشاها خصوم الإسلام، ويريدون إخماد جذوتها، أو –على الأقل– إضعافها ما استطاعوا، حتى يستسلم المسلمون لهم، ويرضخوا لإرادتهم، وهذا ما لا يكون ما دام للمسلمين قرآن يتلى، وأحاديث تحفظ، ومنابر تذكر.

وقد حاول الاستعمار من قديم إنشاء نحل مثل “القاديانية” تنادي بفكرة “إلغاء الجهاد” لكنها أخفقت، ولم تقدر على تغيير جوهر الأمة.

وهذه آثار الروح الجهادية نراها اليوم ماثلة للعيان في الانتفاضة الفلسطينية، والمقاومة الفلسطينية الباسلة، التي أذهلت العالم بما قدمت من بطولات وتضحيات وشهداء، رغم ضعف الإمكانات وقلة الناصرين.

ومع هذا لا يغلق الأبواب في وجه المسالمة والمصالحة، إذا تهيأت أسبابها، فقال تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال: 61).

أخلاقيات القتال في الإسلام

الجهاد في الإسلام تحكمه “أخلاقيات” صارمة ملزمة، فلا يجيز إلا قتل من يقاتل، ولا تقتل النساء ولا الولدان والشيوخ الكبار، ولا الرهبان ولا الفلاحون أو التجار، ولا يجيز الغدر ولا التمثيل بالجثث، ولا قطع الأشجار، ولا هدم الأبنية ولا تسميم الآبار، ولا يفعل سياسة الأرض المحروقة.

وهذا ما شهد به المؤرخون للمسلمين في فتوحهم – التي كانت في حقيقتها تحريراً للشعوب من طغيان الإمبراطوريات القديمة (الفرس والروم) – وقالوا: ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب، (أي المسلمين).


العدد (1505)، ص59 – 4 ربيع الآخر 1423ه – 15/6/2002م.  

Exit mobile version