هذا هو السبيل الوحيد أمام الجماعات والحركات الإسلامية *

صحوة الشباب الإسلامي يجب ترشيدها لا مقاومتها.. لكنها قدر من الله عز وجل يعجب الزراع ويغيظ الكفار.. لذلك فإن الغبار المثار في طريقها، والأشواك والعراقيل التي توضح في سبيلها، أكثر من أن تحصى.. كما أن أعداء الله لها بالمرصاد.. هذا بالإضافة إلى أن لهذه الصحوة بعض الأمراض الداخلية التي بدت تطفو على السطح.. ولكن بفضل الله وبرحمته تحولت هذه الصحوة بين الشباب المسلم، إلى صحوة مجتمعات، لها عراقتها وقواعدها.. ولهذا فإن الحوار مع فضيلة د. يوسف القرضاوي، أحد العاملين في هذا الحقل فكراً وجهاداً.. وفقهاً ودعوة.. وهو –والله حسيبه– أحد القلائل الذي يجمعون إلى عمق الفقه ورسوخه، حسن التجربة والدراية، وهو لا شك “فقيه الصحوة الإسلامية المعاصرة”، تناهز كتبه الخمسين كتاباً.. تجمع ما بين الفقه والدعوة والأصول والفكر والأدب والشعر يطرح من خلالها الحل الإسلامي كفريضة وضرورة.. ومن هنا، فإن هذا الحوار مع فضيلته حول آفاق الصحوة الإسلامية ومستقبلها له أهميته الخاصة.

– فقه الصحوة الإسلامية في حاجة دائماً إلى التسديد والتصويب (ثم رفع د. القرضاوي سبابته منبهاً ومحذراً)، إن من أوجب واجبات المسلم التي عليه أن يفهمها في عصرنا هذا ما نسميه بفقه السنن، فالله عز وجل لم يدع هذا الكون هملاً، وإنما أقامه على قوانين تضبط سيره وتنظم أمره في الاجتماع البشري، في قوانين الحياة كلها، وهي سنن ثابتة، قال تعالى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43).

ولذلك، فإن هذا الكون مرتبط بشبكة من الأسباب والمسببات يجب أن تفقه، وهناك بعض الناس يستعجلون الثمرة قبل أوانها، وهذا يوقعهم في الخطل والحظر.

والأشياء لا تأتي كما يريد الإنسان، ولكن لها أجلها المسمى وقدرها المحدد وأجلها المحدود، فالبذرة لابد أن تمر عليها مراحل؛ تضعها في باطن الأرض، وتصبر عليها حتى تنبت، وتصبر على النبتة حتى تورق، وتصبر على الزهرة حتى تثمر، وتصبر على الثمرة حتى تنضج.

ليس من المعقول أن تزرع اليوم وتحصد غداً.

وخلاصة ما نريد قوله: إن هناك بعض الإخوة من العاملين في الحقل الإسلامي يتعجل الثمرة قبل أوانها، وذلك لأنهم يتعجلون النصر.

ومن هنا كان المجددون الأصلاء في الإسلام هم الذين يعملون لتكوين القاعدة الإسلامية القوية، وبعد ذلك تأتي سنة الأجل المسمى.

النصر يا إخواني لا بد أن يمر بمراحل من الابتلاء، يصهر الناس في بوتقته، ويصقل معادنهم استعداداً لمرحلة الانتصار، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 2)، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).

لا بد من قبل التفكير في الوصول إلى السلطة أو إقامة الدولة الإسلامية، أن تكون لدينا القواعد الفكرية، والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ألا ترى يا أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم التحذير من الاستعجال.. وكان حرصه القوي على تربية الجيل المؤمن.. وكان يقول لهذا الجيل الرباني الأول.. عندما جاء سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول له، وهو متوسط رداءه في ظل الكعبة: ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا، وقد كان مولى لامرأة تؤذيه وتكويه وتعذبه بالنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد احمر وجهه الشريف: “إن من كان قبلكم كان أحدهم ينشر بالمنشار فلقتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.

كذلك من حكمة الله تعالى أن جعل لكل شيء أجلاً مسمى، فالضيق له أجل مسمى، والنصر له أجل مسمى، والمولود له أجل مسمى، وإلا.. فلماذا يبقى الجنين في بطن أمه تسعة أشهر أو أقل؟ ولماذا يعيش الإنسان في طفولته أطول طفولة في كل الكائنات الحية؟

أقول دائماً –دون سأم أو ملل– سيأتي لكل أمر وقته؛ (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) (الأحقاف: 35)، وأنا يعجبني جداً قول الإمام حسن البنا لأتباعه: “ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول”.

والحركة الإسلامية الآن عليها –وقد قدمت بعض البدائل–بتحسين هذه البدائل حتى يكتسب الحل الإسلامي أصالته وخلوده وشموليته وواقعيته، ولكن علينا في كل شيء بالتدرج والأجل المسمى!

– هذا سؤال كبير ومهم، والإجابة عنه من حتميات العمل الإسلامي؛ هل الخلل في الفكر والفهم، أم الخلل في الحركة والتنظيم؟ هل الخلل في القادة والرواد، أم الخلل في القواعد والحركات؟ هل الخلل في الحكام، أم الخلل في المحكومين، أم أن الخلل داخلي؛ في الضمائر والنيات؟

البعض يرى أن المسؤولين هم الحكام؛ لأن بأيديهم سلطة اتخاذ القرار عبر الأجهزة المختلفة في عصرنا الحاضر، حيث أصبحت الحكومات تملك ما لم يكن موجوداً من قبل، وكما يقول الفيلسوف الوضعي الشهير “برتراند راسل”: إن عصرنا يتميز بأن الحكومات تمتلك فيه التأثير على الشعوب.

فبيدهم أمور التربية والتعليم والثقافة والإعلام والتشريع؛ لذلك فالبعض يقول: الحكومات هي المسؤولة والخلل فيها أولاً وأخيراً.

والبعض يرى أن العلماء هم المسؤولون؛ لأنهم المكلفون بإبلاغ رسالة الله وإعلاء كلمته دون تردد أو خوف؛ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب: 39).

فالعلماء هم المكلفون ببيان مواثيق الله للناس دون كتمان أو إعراض، ولا يكونون كأهل الكتاب الذين قال الله تعالى فيهم: (فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران: 187).

وهناك البعض الآخر يقول لك: إن الناس هم المسؤولون، فالحكام إقرار طبيعي للشعوب ولما هي عليه؛ “كما تكونوا يولى عليكم”، كما جاء في بعض الآثار، خصوصاً في عصرنا الحاضر الذي يختار النواب والحكام.

والبعض يقول –وأنا من هؤلاء– إننا جميعاً مسؤولون عن هذا الخلل، المسؤولية مشتركة، كل بقدر مسؤوليته وقوامته ورعايته، الحاكم مسؤول بقدر سلطته، والعالم بقدر علمه؛ “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، سئل أحد الدعاة يوماً: صار لكم خمسون سنة وأنتم تدعون إلى الله فماذا صنعتم؟ فقال: وأنتم تسمعون منذ أكثر من خمسين سنة فماذا صنعتم؟

هل نجعل المسؤولية على المتكلم ولا نجعلها على السامع؟ نحن جميعاً ركاب سفينة واحدة ومسؤوليتنا هي مسؤولية الجسد الحي الذي إذا شكا منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

– هناك ركيزتان أساسيتان في هذا الصدد.

أولهما: صحة القصد.

وثانيهما: حسن الفهم

لا بد من تضافر هاتين الركيزتين في كل ميادين العمل الإسلامي على جميع المستويات.

– الحق أننا بغير هذا الفقه الجديد لا نستحق أن نكون ممن وصفهم الله بأنهم “قوم يفقهون”، فالفقه في لغة القرآن ليس هو الفقه الاصطلاحي، بل هو الفقه في آيات الله وفي سننه في الكون والحياة والمجتمع، حتى التفقه في الدين الوارد في سورة “التوبة” في قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)، لا يقصد به الفقه التقليدي، فإن هذا الفقه لا يثمر إنذاراً يترتب عليه حذر أو خشية، بل إن هذه هي وظيفة الدعوة، وقد تحدثت في عدة مناسبات عن أنواع الفقه التي ننشدها على رأسها “فقه الموازنات”، و”فقه الأولويات”، ولكي تقوم صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، لا بد أن تعي جيداً فقه الموازنات حتى لا تسد على نفسها أبواب السعة والرحمة، وحتى لا تنغلق على ذاتها وتتخذ من الرفض تكأة للفرار من مواجهة المشكلات وعدم الاقتحام على الخصم في عقر داره، وفي ضوء فقه الموازنات سنجد أن هناك البديل الأنفع والأصلح للحركة الإسلامية مهما كانت العراقيل، سنجد سبيلاً للمقارنة بين وضع ووضع، والمفاضلة بين حال وحال، والموازنة بين المكاسب والخسائر، على المدى القصير وعلى المدى الطويل، وعلى المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي، ونختار بعد ذلك ما نراه أدنى لجلب المصلحة ودرء المفسدة.

– نعم الدين يتجدد، وصاحب الرسالة نفسه أطلق هذا المعنى: “يأتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”، يتجدد فهمه والإيمان والعمل له، بل تجديد الفهم نفسه هو تجديد الالتزام بالدين للعمل به للدنيا والآخرة.

والدعوة إلى الدين تتجدد في وسائلها وأفكارها تربوياً وعملياً، وهناك أشير ومحذراً إلى أن هناك فرقاً بين “التجديد” و”التبديد”، فلدينا من المناوئين والمعاندين قوم مبددون يريدون أن يسلخوا الأمة من ذاتيتها الإسلامية باسم الإسلام، وهذا ليس أقل جرماً من استيراد الأنظمة الأجنبية وخلع “العمامة” عليها، وهذا ما نرفضه لاقتناعنا أن التجديد الذي نريده هو ذلك التجديد الذي يستمد أصوله من أصول الإسلام، والذي يمضي على منهجه ويهتدي بقواعده سواء في الفهم أو الاستدلال أو السلوك، أما الآخرون فهم كما قال شوقي، رحمه الله:

لا تحذ حذو عصابة مفتونة

يجدون كل قديم شيء منكرا

ولو استطاعوا في المجامع أنكروا

من مات من آبائهم أو عمرا

من كل ماضٍ في القديم وهدمه

وإذا تقدم للبناية قصرا

– أجيبك بكل صراحة: الحقيقة أننا نخاف على الصحوة الإسلامية من داخلها.

– أخشى أن تتآكل الصحوة الإسلامية من الداخل، ويأكل بعضها بعضاً، وأقولها، أخاً ومحباً وجندياً: على أبناء الصحوة أن يتضامن بعضهم إلى بعض خاصة والأخطار محدقة بها من كل صوب، وتحضرني هنا عبارة لجمال الدين الأفغاني حيث يقول: “بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المتناثرة”، وهذا هو المفروض، فالناس في وقت الغنائم والانتصارات قد يختلفون، ولكن في أوقات الكروب والشدائد والابتلاءات، فالاجتماع واجب حتمي، وكما قال شوقي: “إن المصائب يجمعن المصابينا”، فإذا كان بعضنا يختلف ويتصارع في وقت الأزمات، فماذا أبقى لزمن الانتصارات؟!

– إن أي جماعة إسلامية تخطئ خطأ جسيماً حين يتصور أصحابها أن بإمكانهم وحدهم إقامة حكم إسلامي معاصر والقيام بأعبائه، والتصدي لمؤامرات الداخل والخارج في السبيل مهما كانت إمكانات هذه الجماعة، والسبيل الوحيد هو أن تتضامن هذه الجماعات والحركات وتتكاتف فيما بينها ليتكون من مجموعها ذلك العمل الإسلامي الضخم الذي يستطيع تحمل التبعات وتخطي العقبات بإذن الله وتوفيقه، أو على الأقل يكون هذا التعدد للعمل الإسلامي تعدد “تساند” “لا تعاند”؛ كأن تعمل جماعة في التربية وأخرى في الاقتصاد وغيرها في المؤسسات الإسلامية وأخرى في الناحية السياسية.. والميدان يتسع للجميع، ولكن لا بد من التفاهم والتنسيق والتعاون والتحرر من الأنانية وحب الذات، ولا بد قبل وبعد كل شيء من تزكية النفوس وتطهير القلوب؛ (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73).


* العدد: (1034)، ص20-22 – بتاريخ: 26 رجب 1413هـ – 19 يناير 1993م.  

Exit mobile version