نريد الهم الذي يتبعه همة وعمل

– لا شك أن ما يدور بأمتنا الآن يصيب القلب بالحزن والهم، لكننا نريد الهم الذي يتبعه همه وحركة وعمل دؤوب لتحقيق عزة أمتنا وكرامتها، والمسلم الصادق لا يعرف اليأس أبداً، بل هو دوماً في حركة دائمة في انتظار النصر المبين الذي بشره به المصطفى صلى الله عليه وسلم: “ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يبقى بيت مدر أو وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عز يعز الله به الإسلام، أو ذل يذل الله به الكفر”.

ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: “لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً”، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً؛ رومية أو قسطنطينية؟ فقال: “مدينة هرقل تفتح أولاً، وهي القسطنطينية وقد فتحت، وهي إسطنبول الآن، وقد بقي أن تفتح رومية؛ أي أن الإسلام سوف يدخل أوروبا من جديد، ولكن لهذا النصر سبيل لا بد من خوضه، ولا يقدر على المضي فيه إلا رجاله الذين تحلوا بالإيمان والصبر والثقة في نصر الله تعالى، فظهر تجردهم وكثرة تضحياتهم، وكل مطمعهم إما النصر وإما الشهادة.

والنصر لا يأتي عفواً، ولا ينزل اعتباطاً، ولا يخبط خبط عشواء، وهو لا يمنح إلا لمن بذل من أجله كل غال ونفيس، كما أن له قوانين لا بد أن يعيها من طمع النصر، وقوانينه سجلها الله تعالى في كتابه الكريم، ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة.

قوانين النصر

وأول هذه القوانين: أن النصر من عند الله تعالى، فمن نصره الله فلن يغلب أبداً، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، ومن خذله فلن ينصر أبداً، ولو كان معه العدد والعدة، وهذا ما نطقت به آيات القرآن واضحة بلا غموض، قاطعة بلا احتمال: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160)، (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال).

قد ينصر الله القلة على الكثرة، كما نصر أصحاب طالوت –على قلتهم– على جند جالوت مع كثرتهم، برغم أن في أصحاب طالوت من قال حين رأى كثافة العدد وقوة العدة في جيش جالوت: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249).

وقد ينصر الله تعالى من ليس معه جيش ولا سلاح قط، كما نصر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يوم الغار: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).

القانون الثاني: أن النصر للمؤمنين، فالله تعالى لا ينصر إلا من نصره، قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، وجاء في صورة الخبر الثابت المؤكد بلام القسم ونون التوكيد: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، فإنما تتحقق النصرة لله تعالى بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، وتحكيم شرعه في خلقه، وبهذا جاء في وصف من ينصرون الله تعالى عقب الآية السابقة قوله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41).

وقد يعبر القرآن عن نصر الله تعالى بالإيمان، أو الجندية لله تعالى، فمن آمن بالله حق الإيمان فقد نصر الله تعالى، وغدا جندياً في جيشه، وفي هذا يقول سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، ويقول: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات: 173).

القانون الثالث: أن النصر –كما لا يكون إلا للمؤمنين– لا يكون إلا بالمؤمنين، فالنصر لهم، والنصر بهم، فهم غاية النصر، وعدته، وفي هذا يخاطب الله تعالى رسوله الكريم بقوله: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) (الأنفال)، فقد ينصر الله من يريد نصره بالملائكة ينزلهم من السماء إلى الأرض، كما في غزوات “بدر”، و”الخندق”، و”حنين”؛ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ) (الأنفال: 12)، (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا) (الأحزاب: 9)، (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) (التوبة: 26).

وقد ينصر الله تعالى من يريد نصره بالظواهر الطبيعية يسخرها في خدمته، أو يسلطها على عدوه، كما سلط الريح على المشركين في “الخندق”؛ (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً) (الأحزاب: 9)، وكما أنزل المطر رحمة على المسلمين في “بدر”؛ (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) (الأنفال: 11).

وقد ينصر الله من يريد نصره بأيدي أعدائه وأعداء الله أنفسهم، بما يقذف في قلوبهم من رعب يدمر معنوياتهم، ويقتل شخصياتهم، كما حدث ليهود بني النضير: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2).

غير أن أدوات النصر هذه كلها تتوقف على وجود “المؤمنين”، فالملائكة التي نزلت في “بدر” لم تنزل من فراغ، بل قال تعالى لهم: (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ) (الأنفال: 12)، وفي غزوة “الأحزاب” أرسل الله تعالى ريحه وجنوده حين: (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب: 11)، وفي غزوة “حنين”: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 26)، وفي غزوة “بني النضير” كان يهودهم: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر: 2).


العدد (1498)، ص59 – 14 صفر 1423ه – 27/4/2002م.  

Exit mobile version