رسالة من فضيلة د. يوسف القرضاوي إلى شعب الجزائر المسلم *

أيها الإخوة الأحبة في الجزائر الحبيبة.

يا أبناء المجاهدين والشهداء، ويا أحفاد الأئمة المصلحين والدعاة.

الأمير عبدالقادر، والمقراني، وعبدالحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، والعربي التبسي، والفضيل الورتلاني.. وغيرهم من أبطال الدعوة والجهاد.

أحمد إليكم الله تعالى وأصلي وأسلم على رسوله وعلى آله وصحبه، وأحييكم جميعاً على اختلاف نزعاتكم واتجاهاتكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أبعث إليكم أيها الإخوة الأعزاء بهذه الرسالة الحزينة بعد أن هزني النبأ الفاجع بمقتل أخينا الفاضل النبيل لحسن بن سعدالله، النائب الثاني لرئيس جمعية الإصلاح والإرشاد، رئيس تحرير مجلة “الإرشاد”، أمام منزله بست رصاصات قضت عليه في الحال، رحمه الله تعالى وتقبله في الشهداء المرضيين عند ربهم.

وقبل ذلك إخوة له من الملتزمين بالإسلام والدعاة إليه، ولا ذنب لهم نعلمه إلا أن يقولوا: ربنا الله، ورسالتنا هي الإسلام!

فهل يا ترى رخصت الدماء في الجزائر الحبيبة إلى هذا الحد؟! وبأي كتاب أم بأي سُنة يستباح الدم الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله؟ وقد عصم الإسلام الدماء والأموال بكلمة الشهادة، فإذا قال الناس: “لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله”.

وقد روى ابن مسعود وغيره من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة”.

فهل قتل لحسن بن سعدالله نفساً حتى يتقص منه، أو اقترف جريمة الزنى وهو محصن، وشهد عليه أربعة شهداء، أو ارتد عن دينه وفارق جماعة المسلمين؟

كلا والله، فما عرفته إلا مسلماً مستمسكاً بعروة الإسلام الوثقي، ملتزماً بالعمل بالإسلام، والدعوة إليه والغيرة على حرماته، والبغض للكفر والطاغوت مع أدب جم ولسان عف، وسلوك مهذب، وخلق كريم.

حتى تلك الجرائم التي ذكرها الحديث الشريف مبيحات القتل، لم يدعها لتقدير الأفراد، بل القضاء العادل يحكم فيها بعد أن يستوفي كل الشروط والإجراءات، ويدع المتهم يدافع عن نفسه، ويدعو المرتد الصريح إلى التوبة، ويزيح عنه الشبهة حتى لا يترك عقاب المجرمين لفرد متحمس، مراهق في السن أو مراهق في الفكر، يعميه الغضب فلا يرى، أو تصمه العجلة فلا يسمع، يجعل من نفسه مفتياً وقاضياً ومنفذاً، وبهذا يتعرض المجتمع كله للخطر.

أنا لا أبعث بهذه الرسالة معزياً في رجل عرفته، فقد قُتل مظلوماً، وهو شهيد عند ربه إن شاء الله، والشهداء لا يعزى فيهم، فهم أحياء عند ربهم يُرزقون.

ثم مَنْ يعزَّي ومن يعزِّى وكلنا في الواقع مصابون؟!

فيا أيها الإخوة الأحبة في الجزائر..

اتقوا الله في إسلامكم الذي تشوّهه فئة منكم اليوم بهذه الأعمال التي لا تميّز بين بر وفاجر، ولا تفرق بين بريء ومسيء، والتي عميت عن أوليات الإسلام في تحريم الدماء والأموال والأعراض، فهي لا تبالى بقتل الصالحين وقتل النساء والأطفال وقتل المجاهدين وغير ذلك من التصرفات غير المسؤولة التي يطيرها الإعلام العالمي في الآفاق، ويتخذ منها ذريعة لإبراز المسلمين في صورة الوحوش، بل إن الوحوش لا يقتل بعضها بعضاً، ولكن الإسلاميين يستحل بعضهم دماء بعض؛ لمجرد اختلافهم في المواقف والاجتهادات، وهذا ينعكس بالسوء على إخوان وأخوات لكم يعيشون في أوروبا وفي الغرب عامة.

اتقوا الله أيها الإخوة في شعبكم، الذي قدم في حرب تحريره المليون ونصف المليون من الشهداء، وصبر على ظلم الحكم، وحكم الظالم أكثر من ربع قرن، هذا الشعب الذي أولى ثقته وأعطى أصواته لمن ناداه باسم الإسلام.

اتقوا الله في وطنكم لا تعرّضوه للخراب والانهيار بتحطيم مؤسساته وتهديم أبنيته ومقومات حياته، فإن الوطن إذا خرب وانهدم سينهدم على رؤوس الجميع، وأولهم أنتم، وإذا كنتم تريدون أن تحكموا هذا الوطن، فكيف تحكمون وطناً خراباً يباباً؟!

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى أصحابه في حروبهم مع المشركين والكفار المحاربين: “ألا يقطعوا شجراً، ولا يهدموا بناء”، فكيف يجوز لنا أن نحرق نحن أرضنا أو مدارسنا أو نخرب بيوتنا بأيدينا؟!

إن الجهاد في سبيل الله –بأهدافه الكبيرة وضوابطه الشرعية– مطلوب ومفروض، ولكنَّ هناك فرقاً بين الجهاد المنضبط والعنف العشوائي الذي تمارسه فئة تسللت إلى صفوف الإسلاميين وليست منهم، فهي تخرب مقومات البلد، وتسفك الدماء بالجملة، وفي النهاية لا يستفيد من هذا أحد، إلا أعداء الإسلام، وأعداء الأمة، وأعداؤكم أنفسكم.

اتقوا الله في إخوانكم، “فكل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله”، والقرآن الكريم يقرر (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32)، ويقول تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (النساء: 94).

والأحاديث النبوية الشريفة ترهب أبلغ الترهيب من سفك الدماء؛ “لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم، ولا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً”، وكل ذنب عسى أن يغفره الله إلا الرجل يموت مشركاً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً.

وإياكم أيها الإخوة الطيبون في أنفسهم، المخلصون في نياتهم، أن تخدعوا أنفسكم أو يخدعكم آخرون لم ترسخ أقدامهم في العلم بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من الشرع برهان، فإن الأصل في نفوس المسلمين العصمة، وفي دمائهم الحرمة، بل صح الحديث: “من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة”، فكيف بقتل المسلم؟ وكيف إذا كان هذا المسلم داعية إلى الله وإلى دينه؟!

وقد قال علماؤنا من قديم: إن ترك ألف كافر يستحق القتل أهون من سفك دم مسلم واحد بغير حق.

فاتقوا الله في دماء المسلمين، وأعدوا للسؤال جواباً، حين يجيء المقتول يوم القيامة تشخب أوداجه دماً يقول: “يا رب، سل هذا فيم قتلني؟”.

واحذروا أن تدعوا المحكمات إلى المتشابهات، وتقوموا بتأويل ما لا يجوز التأويل فيه.

أيها الإخوة في الجزائر الحبيبة..

أنا أعلم مقدار ما وقع عليكم وعلى الشعب الجزائري كله من ظلم وبغي بغير الحق، فقد ألقت السلطة الظالمة نتائج انتخابات الشعب، وصادرت حقه في اختيار من يمثله، وفرضت الوصاية عليه بالقوة الباطشة، وقطعت عليه الشوى والديمقراطية التي كانوا يتفقون بها، وحاصرته بالأحكام الجائرة، فأخذت بالظنة، وأعدمت بالشبهة، وقتلت وعذبت، وشردت الأبرياء الذين لا جرم لهم تحت عناوين شتى وبغير عناوين أيضاً.

ولكن لا ينبغي، أيها الأحبة، أن نعالج الخطأ بالخطأ، ونداوي الظلم بظلم آخر، فمن المقرر شرعاً: “أن الضرر لا يزال بضرر مثله”، ناهيك بضرر أكبر منه.

أما أنتم أيها الإخوة المظلومون والمعتدى عليهم، أدعوكم إلى أن تعتصموا بالصبر والمصابرة، وأن تكظموا غيظكم في سبيل الله، ولا تفكروا في القصاص والانتقام من ظالميكم، حتى لا تزيد النار اشتعالاً، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 35).

في الفتنة تكون النصيحة “كن عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل”، “كن كخير ابني آدم”، وهو الذي قال له أخوة الجائر: “لأقتلك”، فكان جواب المؤمن: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ {28} إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ) (المائدة).

يا إخوة الجزائر..

لقد عشت بينكم وعرفتكم وأحببتكم من كل قلبي، وأنا والله مشفق عليكم وعلى مصير هذا البلد العزيز علينا، الحبيب إلينا، فخذوها مني نصيحة مخلصة لوجه الله تعالى، لا أريد منكم جزاءً ولا شكوراً، وانتفعوا بدروس التاريخ من قبلكم ومن حولكم.

وليس هناك من سبيل الخروج من المأزق الراهن، ومن المحنة القاسية التي تعانيها البلاد إلا بالحوار والتفاهم الذي يحترم الثوابت الشرعية والوطنية، ويصون الحريات، ويرعى الحقوق والحرمات لكل الناس، ويعمل بجد وإخلاص للعودة إلى الشورى والمسار الانتخابي، والرجوع إلى الشعب ليختار لنفسه في ظل الثوابت المقررة وتحت راية الإسلام.

وإن الشعب الجزائري اليوم ليرتقب ذكرى عزيزة عليه؛ ذكرى الأربعين لبدء ثورته المجيدة للتحرير في أول نوفمبر القادم؛ فاجعلوا من هذه المناسبة فرصة لمصالحة وطنية عامة، يعود فيها الجميع إلى رحاب الوطن، مكفّرين عن الماضي، معنيين بالحاضر، مستشرفين للمستقبل.

فإذا لم نستجب لدعاء الدين ونداء العقل ونداء التاريخ ونداء المصلحة، فلا يعلم إلا الله ماذا ستكون العواقب؟ وكم ستكون الخسائر والتضحيات؟ وسيندم الجميع حينذاك حيث لا ينفع الندم ويرجون الخلاص ولات حين مناص.

(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر: 44).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Exit mobile version