د. يوسف القرضاوي في أحدث دراسة عن: الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة (12)  [1]


الناس أمام الماضي والمستقبل أو التراث والعصر ثلاثة أصناف؛ طرفان وواسطة:

1- الموغلون في الماضوية:

الصنف الأول: ماضويون تراثيون موغلون في الماضوية، لا يكادون يرنون إلى الأمام، أو المستقبل، أو يتعمقون في الحاضر، فهم مشددون أبداً في الخلف، سجنوا أنفسهم داخل قضبان التراث، ولا يتصورون العيش في الحاضر أو المستقبل، إلا باجترار التراث كله، بجزئياته وتفاصيله، وخصوصاً فيما يتعلق بالتشريع والتوجيه والسلوك، وهم ينسبون موقفهم إلى الدين!

من سمات هؤلاء:

أ- أنهم يضيفون لوناً من القداسة على التراث، فهو حق كله، خير كله، صواب كله، مع أن الدراسة المنصفة للتراث تؤكد أن فيه من الباطل في الاعتقادات، والشرور في الأفعال، والخطأ في الآراء والأقوال.

وقد كان في عصر النبوة منافقون حدثنا عنهم القرآن في عدد من سوره، وكان فيه من أقيم عليه الحدّ، ومن ذمَّه الله ورسوله.

وكان في عصر الصحابة من الفتن ما هو معلوم، وإن كنا لا نجحد فضل هذا العصر في عمومه وجملته.

ب– وهم يسرفون في ردّ كل ما هو جديد إلى قديم من التراث، وإن لم يقم على ذلك برهان، فنظرية “التطور” توجد عند علماء المسلمين، مع الاختلاف البيّن بين ما ذهب إليه المسلمون، وما ذهب إليه “دارون” ومن تبعه، والطب الحديث يوجد عند الرازي، وابن سينا، وعلم الاجتماع المعاصر لا يخرج عن ابن خلدون، إلى غير ذلك من المبالغات التي يدفع إليها حماس يضيع الحقائق.

ونحو هذا من يتمحل لرد النظريات العلمية الحديثة إلى آيات من القرآن الكريم، مع أن القرآن الكريم في غنى عن هذا التمحّل.

جـ– وهم يعتبرون كل زمن شراً مما قبله، إلى أن تقوم الساعة، بناء على ما فهموه من ظواهر بعض الأحاديث، التي يفهمونها فهماً حرفياً، رغم مخالفتها لنصوص أخرى، وللواقع التاريخي أيضاً.

د– ومنهم من يتعلق بالصورة والشكل عند السلف، لا بالروح والجوهر، وبأعمال الجوارح لا بأعمال القلوب، وبالآداب الظاهرة، لا بالعبادات الباطنة، فأكبر همه تقصير الثياب، وإطالة اللحية، وعدم الأخذ منها، وإحفاء الشارب، والأكل باليد لا بالمعلقة والشوكة، والأخذ بالأقوال الجزئية للسلف لا بمنهج الاجتهاد والتفكر عندهم.

وهؤلاء قله قليلة، وإن كان لهم وجود في الساحة العربية والإسلامية، وآفتهم قصور فهمهم للدين وللعصر جميعاً، فقد جمدوا عند أفكار معينة في الدين، وأقوال محددة في التراث، انتهت بهم إلى الوقوف عند صورة الدين لا حقيقته، وشكله لا جوهره، وتمسكوا بظواهر النصوص وحرفيتها، لا بمقاصدها وأهدافها.

حتى سألني بعض الطلاب والطالبات في جامعة قطر عن أناس ينتقلون من جنوب قطر إلى شمالها، للدعوة وتبليغ رسالة الإسلام إلى الناس، ولكنهم أبوا إلا أن يذهبوا مشياً على أقدامهم، وأمتعتهم على ظهر جمل يصحبونه في رحلتهم، ولما سئلوا: لماذا لم تركبوا السيارات وهي متاحة؟ قالوا: نحن نتبع السُّنة في الدعوة!

وهذا يذكّرني بما حكاه لي بعض الإخوة في بعض البلاد العربية؛ أن داعية من هذا النوع وقف يوماً يقول: الحمد لله الذي سخر لنا الكفار من الإفرنج وغيرهم، يقدمون لنا العلم والتكنولوجيا، لنتفرغ نحن لعبادة الله وطاعته! وجهل المسكين أن تخلفنا في مضمار العلم والتكنولوجيا يعتبر جريمة في نظر الإسلام، لأننا لم نعدّ ما استطعنا من قوة، ولم نقم بحق فرض الكفاية، في إتقان كل علم به قوام الدين أو الدنيا، كما قرر علماؤنا من قبل، وغدونا في كثير من الأمور عالة على غيرنا من هؤلاء “الكفار”، فأضعنا واجبات كثيرة، لأننا أضعنا وسائلها ومقدماتها اللازمة لها، التي قال فيها علماؤنا: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.

إن هذا الصنف من “الماضويين” أو “التراثيين” غائبون عن العصر وإنجازاته وتياراته، وكأنما خرجوا لتوّهم من مقابر دفنوا فيها منذ خمسة قرون، مع أن بعضهم قد يكون خريجاً في أحدث الجامعات العصرية، وربما كان مهندساً أو طبيباً أو صيدلياً، أو محاسباً، أو محامياً، أو غير ذلك مما تفرزه جامعات عصرنا.

2– المغرقون في المستقبلية:

الصنف الثاني: مستقبليون مغرقون في المستقبلية، لا يكادون يلتفتون إلى الوراء، إنما ينظرون أبداً إلى الأمام، يرون أن الإنسان يتطوّر دائماً إلى ما هو أحسن وأمثل، فلماذا العودة إلى الخلف؛ أي إلى الماضي أو التراث أو التاريخ؟

نحن أبناء اليوم والغد، لا أبناء الأمس، فلماذا التشبث بالأمس، واعتباره أفضل من اليوم؟ ولماذا التمسك بالتراث إلى حد التقديس؟

أهم ما لدى الإنسان عند هؤلاء هو المخيلة، إذ كان أهم ما في الإنسان عند الأولين هو الذاكرة.

كأنما يريدون أن يلغوا الماضي من الزمن، و”أمس” من اللغة، والفعل الماضي من الكلام، ويحذفوا “الوراء” من الجهة، والذاكرة عن الإنسان.

التراث عندهم متهم، والماضي لديهم مبغض، والسلف في نظرهم مجرحون، وتاريخ الأمة ظلمات بعضها فوق بعض.

هم مع التراث كما قال الشاعر في جيران سوء له:

إن يسمعوا الخير أخْفَوْهُ، وإن سمعوا شراً أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذبوا!

ما في هذا التاريخ أو التراث من حسنات وإنجازات علمية وحضارية وأخلاقية، منسيّ أو مسكوت عنه، وما فيه من فتن وانحرافات، لا يخلو منها تاريخ بشر، ينظرون إليه من خلال “ميكروسكوب” يضخم الصغير حتى يجعله كبيراً.

لقد رأينا من هؤلاء من يهاجم السلف الصالح، ويتهم الخليفة العادل عمر بن العزيز بتخريب الدولة الإسلامية، لجهله بشؤون الإدارة والسياسة!

رأينا من هؤلاء من سخر من كل من يكشف عن إنجاز علمي أو حضاري حقيقي –غير متمحل– سبق به العرب والمسلمون، ومن يردد مع المستشرقين المتحاملين: أن المسلمين لم يكن لهم فضل ولا أصالة في علم ولا عمل ولا فن ولا أدب.

فعلومهم وفلسفتهم منقولة عن اليونان، وفقههم متأثر بتشريع الرومان، ونظمهم مقتبسة من الفرس، وحضارتهم خليط مركب مأخوذ من الأمم السابقة.

والإسلام –بعقيدته وشريعته وأخلاقه– محسوب على هذا الماضي، أو هذا التراث، فهو لا يصلح لهذا العصر، وليس كما يقول المشايخ والدعاة: بعضه صالح لكل زمان ومكان، وكيف تصح هذه المقولة مع تغير الزمان، واختلاف المكان، وتطور الحياة والإنسان؟

على الإنسان أن يخلي مكانه لأفكار العصر و”أيديولوجيات” العصر، وإن كان لا بد من بقائه، فعليه أن يبقى محصوراً في حنايا الضمائر، بوصفه علاقة بين الإنسان وربه، فإن سمح له بالخروج منها، فليكن في حدود دور العبادة “الموجَّهة” التي لا تتدخل في أمور الحياة وسياسة الأمة، إذ لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة!

ومن هؤلاء من يسمح للإسلام بدخول العصر، بشرط أن تعاد قراءته، ويعاد تفسيره من جديد، دون تمييز بين الثوابت والمتغيرات، أو بين منطقة القطعيات ومنطقة الظنيات، فهم يرون أن “يتعصْرن” الإسلام، لا أن يسلم العصر، ويطالبون الإسلام أن يتطور، ولا يطالبون التطور أن يسلم.

3– دعاة الوسطية:

والصنف الثالث: هم الذين سلِموا من إفراط الأولين وتفريط الآخرين، وهداهم الله إلى الوساطة، وهم الذين قال فيهم الإمام عليّ رضي الله عنه: “عليكم بالنمط الأوسط الذي يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي”.

إنهم يجتهدون أن يقيموا الموازين القسط بين عناصر الزمن كله؛ الماضي والحاضر والمستقبل، ويعايشون الحاضر، ويستشرفون المستقبل.

يفرقون بين الإسلام والتراث، فالإسلام كلمة الله العليا، وأمره الذي لا يعصى، والتراث صنع البشر، ونتاج عقولهم وإرادتهم، حتى التراث الديني نفسه، هو عمل العقل الإسلامي.

يعلمون أنه من الخطأ البَيّن اعتبار الإسلام ماضياً، فالإسلام هو الماضي والحاضر والمستقبل جميعاً.

إنهم لا يرفضون القديم لمجرد قدمه، ولا يعشقون الحديث لمجرد حداثته، بل يستمسكون بكل قديم نافع، ويرحبون بكل حديث صالح.

إنهم ينكرون على الفريق الأول جمودهم على كل قديم، وعلى الفريق الآخر انفتاحهم على كل حديث، وفي كل من القديم والحديث شر وخير، وصواب وخطأ، وصلاح وفساد، والموقف المقبول شرعاً وعقلاً هو القصد إلى اجتناب الشر والخطأ والفساد، وتحري الوصول إلى الخير والصواب والصلاح، بغض النظر عن قدم ذلك أو حداثته.

ثم إن القدم والحداثة أمران نسبيان، فرب حديث عند قوم يعتبر أمراً قديماً كل القدم عند غيرهم: على أن الحديث لا يبقى حديثاً أبداً الدهر، فقديم اليوم كان حديث الأمس، وحديث اليوم سيصبح قديم الغد.

وقد كان من قبلنا –على عكس السائد اليوم– يعظمون القديم، ولا يحتفلون بالحديث، ويرون الأقدمين أعلى مكانة من المحدثين، والأوائل أفضل أبداً من الأواخر، فقال أحد الشعراء ناقداً هذا التوجه:

قُل لِمَن لا يَرى المُعاصِرَ شَيئاً

وَيَــرى لِلأَوائِلِ التَــقــديــمــا

إِنَّ ذاكَ القَــديـمَ كـانَ جَـديـداً

وَسَـيَـغـدو هَـذا الجَديدُ قَديما

إن هذا الفريق من دعاة الوسطية يرحبون بالتطور والتجديد في الحياة والمجتمع، بل في الدين نفسه، الذي نوه رسوله بـ “المجددين” فيه، الذين يبعثهم الله في كل قرن لهذه الأمة “ليجددوا لها دينها”.

فهم يقاومون الجمود البليد، ويحاربون التقليد، ويدعون إلى الجهاد، ويؤمنون بتطوير العلم والفكر، إنهم يؤمنون أن الثبات والتغير ظاهرتان متجاورتان من ظواهر الكون والحياة والإنسان، فكل منها فيه الثابت والمتغير، وإن كان الملاحظ أن الجوهر ثابت، والأعراض هي المتغيرة أبداً.

كما أنهم يعلمون أن التطور أو التغير ليس دائماً إلى الأحسن والأمثل، وكثيراً ما يكون من حسن إلى سيئ، ومن سيئ إلى أسوأ، وهذا ما يشهد به التاريخ، وما يصدقه الواقع، فالتطور لا يقتصر على الجانب العلمي والمعرفي الذي يتقدم باستمرار، بل يشمل جوانب الإيمان والقيم والسلوك أيضاً.

لهذا يرحبون بالتطور إذا كان ارتقاء إلى ما هو أفضل، وينكرونه إذا كان في وجهة الهبوط والانحدار.

كما أنهم يميزون بين الثوابت والمتغيرات، بين ما يقبل التجديد والاجتهاد والتطور وما لا يقبله.

فهم يدعون إلى الثبات في المقاصد والغايات، وإلى المرونة في التطور في الوسائل والآلات.

الثبات في الأصول والكليات، والمرونة والتطور في الفروع والجزئيات.

الثبات في حقائق الدين، والمرونة والتطور في أمور الدنيا.

هذا الفريق من دعاة الوسطية الإسلامية يؤمنون بالعقيدة أساساً، وبالعقل نبراساً، وبالشريعة منهاجاً، وبالأخلاق سراجاً، وبالاجتهاد مذهباً، وبالتجديد مشرباً، وبالعلم مركباً، وبالانفتاح على العالم دون ذوبان، وبالتمسك بالأصول دون جمود على كل ما كان.

يؤمنون بما نقله العلاَّمة ابن عبدالبر النمري: ليس هناك كلمة أضر بالعلم والعلماء من قول القائل: “ما ترك الأول للآخر شيئاً”، فكم ترك الأول للآخر، وكم في الإمكان أبدع مما كان، وهو ما شهدت به العصور والأزمان، ويرددون معه قوله: وليس هناك كلمة أحض على طلب العلم من قول الإمام عليّ رضي الله عنه في خطبة خطبها: “واعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون وقيمة كل امرئ ما يحسنه”.

ولئن قيل ذلك في شأن الفرد، فإنه ليصدق في شأن الأمم، فقيمة كل أمة ما تحسنه، فليس المهم أن تعمل، لكن المهم أن تُحسن إذا عملت، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.

إن تيار الوسطية لا يغفل المستقبل كما لا ينسى الماضي، وفي مكتبة الإسلاميين اليوم أكثر من كتاب يتحدث عن المستقبل من منظور الإسلام.

وقد أقام بعض الإسلاميين مركزاً لدراسات المستقبل الإسلامي مقره لندن، وهو الذي أقام ندوته الشهيرة في الجزائر عام 1990م عن قضايا المستقبل الإسلامي.

وهذا التقسيم الثلاثي واقعي ومنطقي، وترجيح فريق الوسط هو الذي يدعو إليه العقلاء، أياً كانت ثقافتهم، ولا بأس أن أستعير هنا كلمات الفيلسوف الأديب د. زكي نجيب محمود في التعبير عن هذا المعني ذاته في كتابه “ثقافتنا في مواجهة العصر”، قال: إن الثقافة العربية الحديثة إذا واجهت العصر بمقولاتها، لم تجد مقولاتها تلك معدة كل الإعداد لتلقي مادة العصر، فانقسم رجال الثقافة عندنا ثلاثة مذاهب:

مذهب وجد الصيد نافراً من القفص، لكنه لم يزل به حتى طوعه بعض التطويع فاستكان له ولو إلى حين، وفي رحاب هذا المذهب تقع الكثرة الغالبة من أعلام الأدب والفكر في تاريخنا الحديث: محمد عبده، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم، فهؤلاء جميعاً –على اختلاف نزعاتهم وأذواقهم– لم يرفضوا العصر، لكنهم حاولوا أن يصيغوه في قوالب الثقافة العربية الأصيلة، مع تفاوت بينهم في درجة النجاح، ومع هؤلاء القادة يذهب معظم المثقفين.

ومذهب آخر وجد الصيد نافراً من القفص فاستغنى عن الصيد، واحتفظ بالقفص يضع فيه من كائناته المألوفة ما يجده حاضراً بين يديه، وفي هذا المذهب تقع جماعة لا حصر لعددها ممن ملؤوا أوعيتهم من كتب التراث، وغضوا أنظارهم عن العصر بكل ما يضطرب به من قضايا ومشكلات فكرية، ومع هذه الجماعة تذهب عامة الناس من غير المثقفين.

ومذهب ثالث وجد الصيد نافراً من القفص؛ فحطم القفص، وجرى مع الصيد حيث جرى، وهؤلاء قلة قليلة لا تجد بأساً في أن نمحو صفحتنا محواً، لنملأها بثقافة العصر وحده كما هي معروفة في مصادرها، بغير تحريف ولا تعديل.

فمن ذلك نرى جماعتين من الجماعات الثلاث، هما اللتان تصدتا للعصر؛ إحداهما بتعديله ليلائم قالبنا الموروث، والأخرى بغير تعديل في حصونها، فلا مواجهة بينها وبين العصر، ومن ثم فلنا أن نسقطها من حسابنا، برغم كثرة عددها، وبرغم أنها هي التي ظفرت بتأييد الجماهير.

وكذلك نستطيع أن نسقط من حسابنا –في موضوعنا هذا– تلك القلة القليلة التي وإن تكن قد شاركت العصر في مشكلاته الفكرية وقضاياه، إلا أنها قد شاركته كما يشاركه رجال الفكر من أصحاب الحضارة الغربية نفسها، فكأن هذه الجماعة “المستغربة” تنظر إلى هذه الأمور بعين أوروبية أو أمريكية، وكل ما لها من انتماء إلى الثقافة العربية الحديثة هو أنها تكتب ما تكتبه باللغة العربية، ولعل أهم ما قامت به في صنيعها ذاك، هو أنها عرضت على الأمة العربية ثقافة الغرب، لا عن طريق الترجمة المباشرة، بل عن طريق تمثلها لتلك الثقافة ثم عرضها بأسلوب حي فيه روحها وشخصيتها، فلئن كانت الفئة الكبيرة هي التي لاذت بالماضي بغير تعديل، قد خرجت من ميدان المواجهة بالفرار، فإن هذه الفئة الصغيرة التي دمجت نفسها في حاضر الغرب كما هو، قد خرجت هي الأخرى من ميدان المواجهة بالذوبان في عالم غير عالمهم.

وتبقى بين أيدينا جماعة واحدة، هي التي اضطلعت بالمواجهة الثقافية بكل ما في هذه الكلمة من أبعاد، وأعني تلك الجماعة التي تستقطب جمهور المثقفين، التي جعلت همها أن تسرق ثقافة العصر في مقولات الثقافة العربية كما عرفها التاريخ.

إن نظرتنا لا تخالف نظرة المفكر الكبير من ناحية المبدأ، ولكن قد تخالفه من ناحيتين:

1– من ناحية التطبيق، فقد يعتبر هو طه حسين في جماعة الوسط، ونحن نراه أقرب إلى طرف الاستغراب، وإن كان في أواخر حياته قد عدل كثيراً من موقفه.

وقد يرى هو مثل رشيد رضا، وحسن البنا، ومحمد عبد الله دراز، وأمثالهم من جماعة التراث، مع أننا نسلكهم في دعاة الوسيطة.

2– من ناحية التعبير، فقد اعتبر العصر هو “الصيد” الذي يُطلب ويُنشد، والتراث أو الماضي مجرد “قفص” أو وعاء مهمته الاحتواء والحجز، فليس له أي قدرة على العطاء.

وأحسب أن الإنصاف يقتضي أن نعطي للتراث حقه، كما فعلنا مع العصر.

على أن جل من نشؤوا في أحضان الثقافة الغربية لم يميزوا بين الإسلام والتراث؛ أي بين ما هو وحي إلهي وما هو فكر إنساني، فالأصل أن الإسلام بعقائده وشعائره وشرائعه وقيمه وأخلاقياته الثابتة بقرآنه وسُنته، أعلى من التراث، فهو الميزان الذي يحتكم إليه المختلفون، والنور الديني يهتدي به المتحيرون.


([1]) العدد (1095)، ص45-47 – 1 ذو القعدة 1414ه – 12 إبريل 1994م.

Exit mobile version