الظهور العلماني الجديد يستهدف مقاومة الصحوة الإسلامية [1]

فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي داعية له آراء ثاقبة في معظم الحياة المعاصرة، التقت به “المجتمع” وطرحت عليه عدداً من الأسئلة التي تجول في أذهان الشباب المسلم، ودار الحوار كما يلي:

– هناك عوائق تقف في طريق الدعوة والدعاة في العصر الحديث كما في العصر الوسيط والعصر القديم والعصر القادم.. بطبيعة الإنسان وطبيعة الحياة، فإن الله سبحانه وتعالى خلق الحق والباطل، والخير والشر، وآدم وإبليس، وموسى وفرعون، وإبراهيم والنمرود، ومحمداً وأبا جهل، هذا الصراع –وهو صراع أزلي أبدي– سيستمر ما دام هناك حق وباطل، وخير وشر، وفضيلة ورذيلة، وصلاح وفساد، لا بد إذا دعوت إلى الحق أن يقاومك أهل الباطل، وإذا دعوت إلى الخير أن يقف بوجهك أهل الشر، وإذا دعوت إلى الصلاح أن يقف الفاسدون والمفسدون في مواجهتك، هذا أمر طبيعي، كما قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان: 31)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام: 112)، أليس بغريب أن نجد في عصرنا من يقاوم الدعوة؟! هناك طبعاً عوائق خارجية وعوائق داخلية، وكثير من الناس يركز على العوائق الخارجية وحدها فيتحدثون دائماً عن هذا الثالوث الجهنمي الخطر الذي يعمل ضد الإسلام وأمته، وهو ثالوث اليهودية العالمية والصليبية الغربية والشيوعية الدولية.

ولا شك أن هذا الثالوث يعمل ليل نهار لتحطيم الأمة الإسلامية ومقوماتها، لكن أنا دائماً لا أحب أن أركز على العوائق الخارجية وحدها، وإنما ينبغي أن ننبه إلى العوائق الداخلية التي هي منا وفينا أساساً، فهناك عوائق من داخل المسلمين أنفسهم، ومن هذه العوائق الجهل بحقيقة الإسلام، وهذا الجهل طبعاً له بروز في عصور الانحطاط الإسلامي حينما أساء المسلمون لدينهم وأساؤوا تطبيقهم له، ثم جاء الاستعمار الذي احتل ديار المسلمين مدة غير قليلة من الزمن، وزاد تجهيل المسلمين بدينهم، إنه كان تجهيلاً منظماً فرغ فيه الرؤوس، وخصوصاً رؤوس النخبة، فرغها من حسن الفهم للإسلام؛ فنشأت أجيال من أبناء المسلمين تعادي الإسلام لأنها تجهله، ومن جهل شيئاً عاداه، كما قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (يونس: 39).

فنشأ من أبناء المسلمين من يعادي الإسلام نفسه، وخصوصاً العناصر القيادية سواء في القيادة الفكرية أو القيادة السياسية أو الإدارية، فحدث هذا الصراع الداخلي بين المسلمين، ووجد من أبناء المسلمين أنفسهم من يقاوم الدعوة إلى الإسلام، ويسير في خط أعداء الإسلام أنفسهم، لذلك رحل المستعمرون عن بلاد المسلمين ورحلت عساكرهم ولكن لم ترحل أفكارهم ولا تشريعاتهم ولا مخططاتهم.

– لعلك تريد أن تسأل: هل أفلح الغرب في أن يؤثر على المسلمين ويبعدهم عن الإسلام؟

طبعاً، في فترة من الفترات نستطيع أن نقول: إن الغرب أفلح إلى حد كبير ونجح فيما سميناه بالاستعمار الثقافي أو الغزو الفكري، وهو الغزو الذي لا يحتل الأرض ولكن يحتل العقول والأنفس، في فترة من الفترات أفلح إلى حد كبير، وسيطر على الفئة المثقفة، ولكن نستطيع أن نقول: الآن بفضل الصحوة الإسلامية أو فضل الدعوة الإسلامية التجديدية التي قام بها مجددون استطاعت هذه الدعوة أن تسترد الأرض أو تصد القدر الكبير من الغزو الاستعماري الثقافي، وأن تستعيد أبناء المسلمين إلى الساحة الإسلامية من جديد، هذا ما صنعته الدعوة وصنعته الصحوة، فأصبح كثير من المثقفين المسلمين الآن والحمد لله يحملون الإسلام فكرة واضحة في رؤوسهم، وعقيدة راسخة في قلوبهم، ورسالة يتنادون بها ويؤمنون بها، رسالة لإصلاح المسلمين وإنقاذهم، ورسالة لإنقاذ البشرية نفسها.

الإسلام رسالة عالمية، ونقول الآن: إن الكرة أصبحت بأيدينا بعد أن كانت بأيدي غيرنا، أصبح لنا الآن جامعات إسلامية التي بنيت أساساً لتكون قلعة للعلمانية، فهذه صروح الجامعات الإسلامية في كل بلد من البلدان، وأصبح عماد الصحوة الإسلامية الآن ليسوا من الفلاحين أو العمال، بل الشباب المثقف شباب الجامعات والمعاهد العليا، هذا أمر واضح، الذين يسمونهم الأصوليين الآن هؤلاء هم الشباب الذي تعلم معظمه في جامعات مدنية وتثقف بثقافات غربية، ولكن القوة الذاتية للإسلام استطاعت أن تجتذبه وتعيده إلى أرضه وموقعه الصحيح.

– هذا الطرح العلماني موجود من قديم، وكان –من قبل– أقوى عما هو عليه الآن، ولكن الذي جعله يبرز الآن بروزاً قوياً ونراه في كل موقع وفي مختلف البلاد العربية والإسلامية، وهذا أمر واضح، الذي جعله يحيا ويصحو ويقوى ويبرز هو قوة الصحوة الإسلامية، هذه الصحوة نبهت هؤلاء القوم وأيقظت فيهم غرائز الدفاع عن وجودهم، وجعلت القوى العالمية المختلفة تتنبه لهذا الخطر الذي يعتبرونه خطراً على أنفسهم، هذه الصحوة لم تعد مجرد كلمات تقال، ولا دعوة تدعى، وإنما أصبحت هذه الصحوة تمثل جيلاً وتياراً إسلامياً عند الرجال والنساء، جيلاً له شأنه، وصحوة ليست صحوة مشاعر وعواطف، بل بالإضافة إلى ذلك صحوة عقول وأفكار، والآن أثبتت الإحصاءات أن الكتاب الإسلامي هو الكتاب الأول في سوق التوزيع بأي معرض، وفي أي سوق دولية يكون الكتاب الإسلامي هو الأول، هذا ما تدل عليه الأرقام والإحصاءات، إذاً فهم يقرؤون عن الإسلام ويعرفون الإسلام.

هذه الانتخابات في كثير من البلاد برغم العوائق التي توضع وبرغم مقاومة السلطات الحاكمة وبرغم الأموال التي تبذل، فإن هذا التيار الإسلامي يثبت وجوده في مصر تحت شعار “الإسلام هو الحل”، في السودان دوائر الخريجين كلها أخذها الاتجاه الإسلامي، وفي أماكن شتى والحمد لله هذا كله جعل هذا الغرب يجن جنونه، وأحياناً يحرك قواه العسكرية، طبعاً نحن نعلم أنه يمكن أن يستعمل القوة ويريق الدم حينما لا يجد سبيلاً إلا الدم.

قتلوا أحمدو بللو من قبل، وقتلوا عدنان مندريس، وقتلوا حسن البنا، وقتلوا سيد قطب، وعبدالقادر عودة، وهم مستعدون أن يقتلوا ويذبحوا كل من يجدونه خطراً عليهم، ولكن أيضاً يستعملون سلاحاً آخر؛ ألا وهو الثقافة والفكر، فعندما ظهرت هذه الصحوة قوية وامتد أثرها بدأت هذه الحركات العلمانية تظهر، وبدأت هذه الأقلام تكتب في كل مكان، يلاحظ الإنسان أن هذا ليس في بلد واحد ولكن أكثر من بلد؛ الصحف هنا وهناك، كأن هناك محركاً يحرك هؤلاء في وقت واحد، وكأن هناك منسقاً ينسق بين هؤلاء؛ لأن العدو واحد يوجه هؤلاء العلمانيين كما يريد، وإن كان يتمثل بأعداء كثيرين، ولكنهم يتفقون مع اختلافهم علينا، كما قال فقهاؤنا: “الكفر كله ملة واحدة”، وهذا كما قال الله تعالى: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (الأنفال: 73)، من أجل هذا نرى هذا الظهور العلماني الواضح في وقتنا هذا.

– أنا لا أريد حركة إسلامية واحدة، طبعاً أتمنى أن تكون هناك حركة إسلامية، ولكن بحكم طبيعة البشر واختلافهم في أفكارهم واختلافهم في أمزجتهم واختلافهم في أساليبهم؛ لا بد أن يحدث هناك اختلاف على تحديد الأهداف، وعلى أولوية الأهداف، أيها رقم واحد، وأيها رقم اثنين، وبماذا نبدأ وماذا نؤخر، ومن ناحية أخرى، حتى لو اتفق الناس على الأهداف يختلفون في الوسائل؛ هل نتبع وسيلة التربية، أم نتبع وسيلة الانقلاب، أم نتبع الطريق الديمقراطي، أم الطريق العسكري، هل نبدأ من القمة أم نبدأ من القاعدة؟ يختلف الناس في هذا، ولو اتفق الناس أيضاً على الأهداف والوسائل سيختلفون على الأشخاص، فهذا يثق بزيد وآخر يثق بعمرو.. من أجل هذا يختلف الناس.

ولهذا نقول: ليس من المهم أن يكون الجميع حركة واحدة، إنما المهم أن يكون هناك تعاون وتنسيق بين الجميع، أنا أكتب في هذا في أكثر من تعدد الجامعات الإسلامية والحركات الإسلامية على أن يكون تعدد نوع وتخصص لا تعدد تعارض وتناقض؛ جماعة تشتغل بالتربية، وجماعة تشتغل بالسياسة، وجماعة تشتغل بالإصلاح الاجتماعي، وجماعة تشتغل بالجهاد العسكري، وجماعة تشتغل بقضية المرأة، وجماعة تشتغل بالقضية الاقتصادية، وجماعة تشتغل بتأسيس شركات وبنوك، والميدان يسع الجميع.. المهم أن هؤلاء جميعاً في القضايا المصيرية يقفون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، يساعد بعضهم بعضاً، ويشد بعضهم أزر بعض، ولا يحاول بعضهم هدم بعض، فهذا لا نريده، ولا بد أن يكون هناك قدر من التنسيق، وأن يسع الجميع هذا الشعار وهذه القاعدة الذهبية “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”.

–  نصيحتي للشباب هي أنهم عدة الدعوة وذخيرة الإسلام، وهم ثروة الأمة، وإذا أردنا أن نعرف ماذا عند أمة من الغنى والثروة نعرف ماذا عندها من شباب واع لرسالته مؤمن بربه وبدينه ومستقبله، على الشاب أن يهيئ نفسه لمستقبل عظيم، لمستقبل الإسلام، أنا أعتقد أن القرن القادم هو قرن الدعوة الإسلامية إن شاء الله، القرن العشرون قرن ظهرت فيه الشيوعية، أنا أعتقد أن القرن الحادي والعشرين ونحن على أبوابه سيكون قرن الإسلام بإذن الله، فعلى هؤلاء أن يعدوا أنفسهم لهذا القرن لينهضوا بأمتهم ويخرجوها من عصر التخلف ومن دائرة العالم النامي أو العالم المتخلف، عليهم أن يخرجوها إلى عالم التقدم، نحن كنا العالم الأول لمدة قرون، ثم أصبحنا العالم الثالث أو الرابع، علينا أن نعود كما كنا عالماً أول، وهذا لن يكون إلا بالإسلام الصحيح، الإسلام الأول، كما فهمه الصحابة والتابعون بعيداً عن غلو المغالين وتفريط المفرطين، هذا الإسلام الوسط، الوسطية هي التي ندعو إليها، الاعتدال في فهم الإسلام وفي سلوكه مع أنفسنا ومع الناس ومع من نحب ومع من نكره، وهذا السلوك الصحيح والفهم الصحيح هو الذي ندعو إليه شبابنا، نرجو أن يسدد الله خطاهم وينير لهم الطريق، إن شاء الله تعالى.

– الانتفاضة في الحقيقة هي تعبير عن الجروح الإسلامية الجديدة، وهي مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية التي أخافت أعداء الإسلام، وجعلت العلمانيين يتحركون؛ لأن الصحوة الإسلامية كان لها ظهور عسكري في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي أماكن شتى، كما كان لها ظهور فكري وسلوكي وحركي ودعوي، ظهرت هذه الانتفاضة وكانت تسمى في أول الأمر ثورة المساجد؛ لأنها انطلقت من المساجد ورفعت المصاحف، رفعت شعارات “لا إله إلا الله والله أكبر”، هذه الثورة حقيقة هي تعبير عن روح الشعب الفلسطيني المسلم، هي الآن الأمل في أن تحقق النصر في هذه القضية التي نعتبرها قضية الصراع الأول بالنسبة للمسلمين؛ لأنها ليست مجرد صراع، فهي وإن كانت تأخذ من الناحية الشكلية صراعاً من أجل الأرض المقدسة وأرض الإسراء والمعراج، ولكنها في حقيقة الأمر صراع عقدي وحضاري، صارع من أجل الوجود.

هذه اليهودية العالمية تريد أن تقتلعنا من وجودنا، وفتش عن اليهود في كل مكان، تجدهم في السودان، وتجدهم في السنغال وباكستان، وهم وراء كل مصيبة إسلامية، لذلك نحن من أجل تحرير الأمة الإسلامية وإنقاذها يجب أن نحرر فلسطين، وعلى جميع المسلمين في العالم أن يؤيدوا هذه الانتفاضة، أو هذا الجهاد الإسلامي الجديد، بعد أن رفع راية “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وأن نقدم الأرواح والأنفس، وأن نقدم كل ما نستطيع لشد أزر أهلنا حتى يحققوا ما يريدون وما نريد نحن لهم إن شاء الله؛ (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).



[1] العدد: (925)، ص 34-36 – بتاريخ: 22 ذو الحجة 1409هـ – 25 يوليو 1989م.

Exit mobile version