“الإسلام السياسي” تسمية مرفوضة (1-3)

كما أنهم يطلقون كلمة “الإسلام السياسي” للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة وديناً ودولة.

فهل هذه التسمية المحدثة “الإسلام السياسي” مقبولة من الناحية الشرعية؟ وهل إدخال السياسة في الإسلام أمر مبتدع من لدن الدعاة المعاصرين، أم هو من الدين الثابت بالقرآن والسُّنة؟

– هذه التسمية مرفوضة، وذلك لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلاماً واحداً كما أنزله الله وكما ندين به نحن المسلمين، بل هو “إسلاميات” متعددة مختلفة كما يحب هؤلاء، فهو ينقسم أحياناً بحسب الأقاليم؛ فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الأفريقي.

وأحياناً بحسب العصور؛ فهناك الإسلام النبوي، والراشدي، والأموي، والعباسي، والعثماني، والإسلام الحديث.

وأحياناً بحسب الأجناس؛ فهناك الإسلام العربي، والهندي، والتركي والماليزي.. إلخ.

وأحياناً بحسب المذهب؛ فهناك الإسلام السُّني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السُّني إلى أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضاً.

وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة؛ فهناك الإسلام الثوري، والرجعي، أو الراديكالي، والكلاسيكي، واليميني، واليساري، والمتزمت، والمنفتح.

وأخيراً الإسلام السياسي، والروحي، والزمني، واللاهوتي!

ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يخبئها ضمير الغد؟!

والحق أن هذه التقسيمات كلها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد، لا اعتراف بغيره، هو “الإسلام الأول” إسلام القرآن والسُّنة. 

إنه الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممن أثنى الله عليهم ورسوله.

فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشوبه الشوائب، وتلوث صفاءه ترهات الملل وتطرفات النحل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفرق، وأهواء المجادلين، وانتحالات المبطلين، وتعقيدات المتنطعين، وتعسفات المتأولين الجاهلين.

وهنا نذكر بعض الضوابط:

الإسلام لا يكون إلا سياسياً:

فهو يوجه الحياة كلها، الإسلام الحق –كما شرعه الله– لا يمكن أن يكون إلا سياسياً، وإذا جردت الإسلام من السياسة، فقد جعلته ديناً آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا، وذلك لسببين رئيسين:

الأول: إن للإسلام موقفاً واضحاً، وحكماً صريحاً في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة.

فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبدية فحسب، أي أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة.. كلا.. إنه عقيدة وعبادة، وخلق وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى، هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصَّل من قواعد، وما سنَّ من تشريعات وما بيَّن من توجيهات، تتصل بحياة الفرد، وشؤون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأُسس الدولة، وعلاقات العالم.

ومن قرأ القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي، بمختلف مذاهبه وجد هذا واضحاً كل الوضوح.

حتى قسم العبادات من الفقه ليس بعيداً عن السياسة، فالمسلمون مجمعون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهر عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبوبكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.

بل قالوا: لو ترك أهل بلدة ما بعض السنن التي هي من شعائر الإسلام مثل الأذان أو ختان الذكور أو صلاة العيدين، وجب أن يدعوا إلى ذلك وتقام عليهم الحجة، فإن أصروا وأبوا وجب أن يقاتَلوا، حتى يعودوا إلى الجماعة التي شذوا عنها.

الإسلام له قواعده وأحكامه وتوجيهاته في سياسة: التعليم، والإعلام، والتشريع، والحكم، والمال، والسلم، والحرب، وكل ما يؤثر في الحياة، ولا يقبل أن يكون صفراً على الشمال، أو يكون خادماً لفلسفات أو أيديولوجيات أخرى، بل يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم.

بل لا يقبل الإسلام أن تقسم الحياة بينه وبين سيد آخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع، ولا يرضى المقولة التي تنسب إلى المسيح عليه السلام: “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.

فإن فلسفته تقوم على أن قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد، الذي له من في السماوات ومن في الأرض، وما في السماوات وما في الأرض ملكاً وملكاً.

وفكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله رباً، ولا يتخذ غير الله ولياً، ولا يبتغي غير الله حكماً، كما بينت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعرفة باسم سورة “الأنعام”.

وعقيدة التوحيد في حقيقتها ماهي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوة للبشر، حتى لا يتخذ بعض الناس بعضاً أرباباً من دون الله، وتبطل عبودية الإنسان للإنسان، ولذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).

وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، منذ أول يوم بمجرد رفع راية “لا إله إلا الله”، فقد كانوا يدركون ما وراءها، وما تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.

شخصية المسلم.. سياسية

السبب الثاني: إن شخصية المسلم –كما كوَّنها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته– لا يمكن إلا أن تكون سياسية إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.

فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وقد يعبر عنها بعنوان “النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم”، وهي التي صح في الحديث اعتبارها الدين كله، وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خسر الدنيا والآخرة، كما وضحت ذلك سورة “العصر”.


العدد (1495)، ص58-59 – 23 محرم 1422ه – 6/4/2002م.  

Exit mobile version