«نداء الحق».. عرض كتاب للشاعر أحمد محمد الصديق (*)

منذ سنوات، سعدت بكتابة مقدمة لديوان “الشعاع” للشاعر العراقي المسلم وليد الأعظمي، واليوم يسعدني أن أكتب مقدمة ديوان “نداء الحق” للشاعر الفلسطيني المسلم الأستاذ أحمد محمد الصديق، وكان الإخوة، حفظهم الله تعالى، يريدون بهذه المقدمات أن يشدوني أو يريدوني إلى عقد الشعر بعد أن هجرته أو هجرني، وقلما يلتقي عقل العالم ووجدان الشاعر حتى يغلب أحدهما الآخر.

أما شاعرنا، فقد عرفته منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، حين أقبل بريد الالتحاق بالمعهد الديني الثانوي في قطر ليصل أسبابه بالعلم بعد أن قطعت حين آثر الرحيل من بلدته ومسقط رأسه “شفا عمرو” في الأرض المحتلة، متجشماً وعثاء السفر، ووعورة الطريق، ومخاطر الحدود، بين دولة الكيان الصهيوني ولبنان، موطناً النفس على ما يصيبه من لأواء، فلا غرو أن احتمل متاعب السجن في لبنان، والغربة عن الوطن والأهل بنفس راضية، وثغر باسم، فراراً من ذلك الرضوخ لسلطات الصهاينة، عرفته وعرفت قصته، فوجدت فيه شاباً متألق الفكر، متوثب الروح، متوقد العزم، صادق الرغبة في طلب العلم، فلم آل جهداً في معاونته، حتى التحق بالمعهد، وبرز فيه، وأنهى به دراسته الثانوية، بتفوق ظاهر، ليكمل دراسته العالية بجامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، ثم يعود إلى قطر مرة أخرى معلماً ومربياً، وفي تلك المرحلة، استمعت إلى أحمد الصديق شاعراً، كما قرأت نماذج من شعره، فوجدت فيه موهبة تشق طريقها بثبات، وتثبت وجودها بقوة، فهو يتمتع بطبع سخي، وشاعرية فياضة، وقدرة على التحليق الروحي، والإبداع الفني، مستخدماً أجمل الصور الشعرية في إطار من العبارات والألفاظ، ليست من الحوشي الغريب، ولا السوقي المبتذل، أحسن سبكها، وجود نظمها كأنها حبات عقد لؤلؤي، نظمها جوهري خبير، أو قلادة ذهبية، أجاد صنعها صائغ قدير.

وشعر الصديق يدور حول محورين أساسيين؛ دينه ووطنه، ودينه هو الإسلام، ووطنه هو فلسطين، فحولهما يدندن، ولهما أو عليهما يغني أو يبكي، فهو شادي الأفراح وندابة الأحزان، ولكنه استطاع أن يحول الحزن من سكب الدموع، وإطلاق العويل، إلى ثورة على الباطل، ودعوة إلى الحق يجتمع فيها الشتات، ويحيا الموات وتعلو راية الله، يحملها رجال مؤمنون، يعيدون من جديد صلاح الدين، ويحيون ذكرى “حطين”.

إن إسلاميات الصديق في ديوانه تستغرق معظم قصائده، فقد آمن بالإسلام؛ عقيدة وشريعة، عبادة وقيادة، ديناً ودولة، حضارة وأمة، مصحفاً وسيفاً، أخلاقاً وجهاداً، وهذا الإيمان الواعي الشامل نجد صورته ماثلة في شعره من قصائد تتغلغل في أعماق النفس، أو تصبح في آفاق الوجود، إلى أخرى تبين محاسن الشريعة أو تذود عنها، إلى ثالثة تتحدث عن قضايا الإسلام من المحيط إلى المحيط، إلى رابعة تحيي ذكريات الإسلام وبطولاته وأمجاده على امتداد أربعة عشر قرناً.

استمع معي إليه يقول في إلهياته مناجياً ربه في قصيدة ابتهال:

بقربك تزدهي مني الرغاب                

                          ويعذب في محبتك العذاب

وقلبي جنة ما دمت فيه   

                        وإلا فهو محروم بباب

رضاك هو المراد.. فلا تدعني   

                         بعيداً.. دون أشواقي الحجاب

ومن قصيدة العودة إلى الله يتحدث عن غفلة أمه، ويقظة يومه ورجعته إلى ربه:

ويح نفسي.. إذا تقطعت

                           الأسباب دوني وخيبت آمالي

أين يرسو الشراع إن عدت يوماً

                               شاحب الوجه من بحار الضلال؟

وإلى أين حين أغسل بالدمع

                             الخطايا ترى أشد رحالي؟

يا إلهي، إليك وجهت وجهي

                           خالص القلب طاهر الأذيال

كنت يا رب عن حماك بعيداً

                           غافلاً.. تائهاً.. بعيد المنال

شارداً من حظيرة القدس مفتو

                              ناً كأني في سكرة وخبال

وأنا اليوم قد رجعت وقد

                          وثقت في عروة السماء حبالي

ويصور لنا ما جاء به الحديث النبوي من دعوة المظلوم:

تفلتت من شرور الأرض وانطلقت

                                كالسهم يحدو بها صدق وإيمان

حتى إذا غرقت في النور وانقشعت

                                  في حضرة القدس الأم وأحزان

ألقت إلى حكم عدل ظلامتها

                               فقام للحق عند الله ميزان

لأستجيبن للمظلوم دعوته

                          ولو تطاول أزمان وأزمان

فلا تكونن مكتوف اليدين على

                               عجز وعندك من ذي العرش سلطان

وهو لا يكتفي بالشعر العمودي المعتاد في إسلامياته، بل رأيناه يقفز بجدارة ومهارة إلى ما يسمى الحديث، فيستخدمه في مجال ربما ظن الكثيرون أنه أبعد ما يكون عن طبيعته، وذلك هو الشعر الإلهي، أو الشعر الروحي، لنستمع معاً إليه في قصيدته “ركعتان”:

في سكون الليل عني تجلوان

                          ظلمة اليأس وأكدرا الزمان

وتشيعان الرضا في أفق نفسي فإذا النجوى تعلت كالشذا تملأ حسي

وأصاح الليل في محراب أشواقي وأنسي وتهاوت دمعتان

خشع القلب والقى العبء في ظل الأمان

وبدت الروم أفاق ابتهالات وتسبيح قدس

فتعرى كل شيء دون تمويه ولبس

فإذا الدنيا متاع ذاهب يلهي وينسى

وإذا أسمى المعاني من مسرات وأنس

جمعتها في سكون الليل..

في ظل الأمان ركعتان..

وينتهز شاعرنا كل فرصة ليستفز أمته الإسلامية: لتصل يومها بأمسها فهو يناديها:

عودي إلى الإسلام عودي

وتسنمي عرش الوجود

عودي إلى النبع الأصيل

إلى نبوغك من جديد

عودي إلى الأمجاد بعد

متاهة الفكر الشرود

بعد ارتحال لاهث

خاف السراب بلا ورود

لك صبغة الرحمن أشر

ف ما اكتسبت من البرود

وشريعة عراء واضحة

المعالم والحدود

هلا اهتديت بهديها

إن شئت حقاً أن تسودي؟

ومن منظوره الإسلامي يطل على المجتمع مصوراً أو ناقداً أو داعياً، استمع إليه من قصيدته “من الصحافة”:

وتنبري صحافة لسانها أجير تؤله المسخ القميء.. تحرق البخور فتزكم الأنوف.. تؤذي الله والضمير روائح النفاق من أرجاسها تفور تنزه الحرف البريء عن مواطن الفجور، هم الذين أرغموه أن يموه الأمور، وأن يردد النباح حيث تضحك القبور، صحافة موبوءة.. مسمومة الجذور محرومة الأقلام من ترفع النور، صحافة تبصق طعم الموت في السطور نرفضها.. نرفضها.. حليفة الشرور نرفضها كافرة.. ملموسة المصير.

أما المحور الثاني لشعر الصديق فهو فلسطين فهو فلسطين: فلسطين والجهاد.. فلسطين المؤامرات والمتاجرات والمزايدات.

فلسطين الانتفاضات والثورات أجل، إنه ابن النكبة.. عايشها وعاينها، صبياً ويافعاً، فتركت آثارها في عقله وقلبه مرارة وأسى، وإصراراً على الثأر والكفاح.

وله في أحداث النكبة وذكرياتها شعر مبكر بلغ حد الروعة، لما اجتمع فيه من الصدق والجمال، بعضه من الشعر العمودي، وبعضه من الشعر الحديث.

اقرأ معي قصيدته “وا بلدتي” التي خاطب فيها أباه عن ذكريات المأساة:

ما زلت أذكر يا أبي والذكريات بلا حدود يوم ارتحلنا عن مغانينا وخلفنا الديار.. ما زلت أذكر يوم أن هجم التتار.. وصرخت من أعماق صوتي في الظلام: هجموا علينا يا أبي مثل الجراد بلا عدد الوطن، والأهل، فلسطين النخبة، والمأساة، والتشرد، والخيام… وا بلدتي..

طللاً.. تخيم في أشباح الدمار..

بين الكروم.. على البيادر يزحفون

والليل معتكر..

وصوت البوم ينعق من بعيد

في حائط خرب عتيق

والريح تعول..

والنساء مولولات في الطريق

ودوي قنبلة.. وأشلاء تناثر في العراء يضج صوت شارد النبرات..

يخنقه البكاء

ويلاه.. مات أخي تحطم بيتنا..

حرق الأثاث

وتطل أحداق النجوم بلا اكتراث..

وتفر أسراب الحمام عن السطوح..

وروائح البارود في الأجواء خانقة تفوح

ويخر جندي على الأنقاض والهفي عليه..

ويمضي على هذا المستوى من الصدق والروعة في التصوير والتعبير إلى نهاية القصيدة.

ومن عجب أن هذه القصيدة أنشأها في فجر شبابه عام 1959م، مما يدل على أصالة مبكرة.

وعلى منوال هذه القصيدة، نجد أمثالها نظمها عام 1387هـ، عن ليل النازحين في مخيمات الغربة والشتاء:

الليل أوغل في الخيام السود

يزرعها هموم..

والريح تجأر كالسياط

تسوق أسراب الغيوم

سوداء في أون الردى..

ترغي فتنطفئ النجوم

وهزيم رعد صال في عرض السماء

وهطول أمطار..

وأشباح تخييم في العراء

وعواه حين مرو عن الجوار..

ومواء قط جامع يعدو..

ويلتمس الفرار..

وهنا.. هما في الخيمة السوداء..

خيمنا الحزينة..

طرحت على الأسهال أكباد ممزقة طعينة

وتكومت في كل زاوية كآلام دفينة

أوصال إخوتي الصغار

يتصورون من الطوى..

يتقلبون على انتظار..

والليل يعصف..

يستبد..

ولا يقر له قرار..

لقد حفرت المأساة في ذاكرته ووجدانه هوة لم يسدها اختلاف الليالي والأيام، ولم تزل جراحها في قلبه تتنزى، ونيرانها تكوى، تزيدها الغربة ألماً على ألم، وحرقة على حرقة.. لا سيما أن غربته لم تكن على النار فحسب، كغيره من أبناء فلسطين، بل عن الدار والأهل جميعاً.. عن الأم والأب والإخوة والأخوات.. نجد نار هذه الحرقة واللوعة في قصيدته التي يبكي فيها أمه، وقد بلغه النبأ الفاجع بوفاتها أنه يبكيها بحرار مضاعفة، كأنما يبكي فيها الأم والوطن معاً، وكأنما جمع حزنه على موتها، وحزنها وحرقة قلبها على فراقه، محرومة من قبلة وداع، فهو يبكيها ويعتذر إليها ويسألها العفو والسماح.

ذكراك تبكي جرحاً ليس يندمل

لولا مصابرتي، هيهات يحتمل

أماه.. هذا مقام العفو إن كلمت

يدي فؤاداً رفيقاً خطبه جلل

أني جهلت وما جهلي بمغتفر

إذ رحت في البنية عن مغناي ارتحل

خلفت فيه الصبا والأمنيات وما

يضم من ذكرياتي السهل والجبل

ومهجة منحتني كل ما ملكت

لم يثنها تعب يوماً ولا كلل

ولكنه هنا لا يقف عند البكاء على الأطلال، والنواح على ما فات، ومن مات، بل يحول الصدور الحزينة إلى مراجل تغلي بالغضب، والأعين الباكية إلا مواقف تقدح بالشرر، يرسل صيحاته مدوية تنادي بالجهاد.

بغير الكفاح المر لن نبلغ المنى

ومن غير بذل لن نحرر موطناً

وما يسترد الحق إلا بحقه

وكان قبيحاً أن نذل ونذعنا

وفي نكبة عام 1967م يقول:

من رعشة الجرح، بل من وطأة الألم يجيش بالشعر في ليل الأسى قلمي ويرسل الصيحة النكراء.. محتدماً يصب بين ضلوعي ثائر النقم، عجبت من أمة قد أسلمت يدها للقيد.. مذلولة، منكوس العلم، إلا بغية إيمان تحريها، ونفح من إباء الروح والشمم.

بيد أن شاعرنا لا يستسلم لليأس، وإن توالت النكبات والنكسات، فهو يطل بخياله على الأرض المقدمة وقد دخلها الأبطال المؤمنون ظافرين منتصرين، وعلى شفة أحدهم هذه الأنشودة:

لا شيء يطريني ويشجعني مسمعي

كأزيز رشاشي وصولة مدفعي

من عزمتي احتشوا القذيفة.. من لظى

روحي عبئ نارها.. من أضلعي

نفخم الأهوال.. لا أخشى الردى

إن المخاطر لا تعجل مصرعي

والشاعر (الصديق) حين يتكلم عن قضية فلسطين في شعره، ويصور مأساة شعبها وتشرد أبنائها، وينسج الأمل الذي يستمده من إيمانه بحتمية العودة الظاهرة والتحرير المرتقب.

حين يتحدث عن ذلك إنما يتحدث من منطلق إسلامي، حيث يعتقد اعتقاداً جازماً بأن قضية فلسطين هي إحدى قضايا الإسلام الكبرى في هذا العصر التي تشكل تحدياً سافراً بين الإسلام والقوى المعادية جميعها على اختلاف نزعاتها وهوياتها.. فالكفر ملة واحدة.. والإسلام حرب عليها جميعها، كما أنها هي أيضاً لا تهادن الإسلام ولا تسأله، فهي حرب عليه كذلك، وهذا أمر طبيعي، فإن المعركة بين الحق والباطل دائمة أبداً لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة على هذا الكوكب الأرضي.

إن شاعرنا يؤكد هذا المعنى بشكل قاطع، ويهيب بالمسلمين كافة إلى ضرورة العمل الجاد، والنهوض بواجب الجهاد.

ففي قصيدته “يا مسلمون” التي نظمها إثر نكبة 5 يونيو 1967م يحفزهم ويستثيرهم بقوله:

يا مسلمون.. ومن سواكم للحمى

إن كشرت عن نابها الأخطار

يدعوكم الوطن الذبيح ومسجد

أسرى إلى ساحاته المختار

يجتر في القيد العذاب مردداً

شكواه.. أين الأمة الأخيار؟

أين الذين هم الرجال إذا دعوا

هبوا.. وإن دوى النفير أغاروا..

وهو لا يشك لحظة في أن تحرير فلسطين لن يتأتى إلا على أيدي المسلمين الصادقين الذين يرفعون شعار الإسلام والعبودية لله وحده، وفي هذا يقول مناجياً بلاده:

إليك سننهض يوماً قريباً

وتزحف بالحق منا الحشود

هم المؤمنون.. هم الصادقون

هم الصفوة الراكعون السجود

وهم قدر الله يوم النزال

إذا وقعوا بالدماء العهود

وينظر إلى تلك المعركة المقبلة، فيرى فيها المسلمين وقد توحدت صفوفهم، واشتدت عزائمهم، وتمثلت فيهم صولة الحق على الباطل، واستعلت بهم راية الإسلام، وأقيمت الموازين القسط مع الباغين والمعتدين، فهي وثبة مباركة يستشفها من وراء الغيب:

يحيون بدراً وجالوت وحطين، ويبلغ إيمانه بهذا المستقبل درجة اليقين الذي لا يداخله ريب فيقول:

لا بد من صولة للحق آتية

نقيم فيها مع الباغي الموازينا

ونسترد ببذل الروح ما سلبت

منا.. وما دست ظلماً أعاديات

وشيء آخر نلاحظه بصفة عامة في هذا الديوان، هو أن الشاعر لا يفتأ يذكّر بقضية فلسطين الإسلامية في شتى المواقف والمناسبات، ولعله يقصد من ذلك أن تسري أنفاس فلسطين، ولهيب جراحها في كل نفس، وأن تخالط كل وجدان، وأن تمتزج مع كل روح.. بحيث لا تغفل عنها لحظة من زمان، حتى يظل واجب الجهاد المقدس، وفرضية التحرير أمانة معلقة في عنق كل مسلم، لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار حتى يعود الحق إلى نصابه، والوطن إلى أصحابه.

وكثيراً ما نجده يخاطب صلاح الدين الأيوبي، وكأنه يجعل منه رمزاً بطولياً إسلامياً يستلزم بعثه في أمتنا من جديد، وهذا يقتضي التزام الخط الإسلامي الواضح في معركة التحرير، كما التزم صلاح الدين يوم أن طهر بيت المقدس من عدوان الصليبين، يقول:

سلاماً صلاح الدين يا خير قائد

بأمجاده تاج الفتح تزينا

سلاماً صلاح الدين إنا بحاجة

لمثلك من يعلي على الحق صرحنا

ألم تر بيت المقدس اليوم قد غدا

أسيراً، فجرد دون السيف والقنا

ووحد بني الإسلام في الحرب معلناً

جهادك واجعل منهج الحق ديدنا

ويقبل أول عيد نكبة 1967م، فيقف الشاعر منه موقفاً مأساوياً، يناجيه بمرارة، ويقول:

لله كم عادتي هم وتسهيد

فأعول الجرح إذ أقبلت يا عيد

أين الربوع التي شعت منائرها

طهراً فدنسها رجس وتهويد؟

والآمنون صغار الحي والهفى

أنحى على عشهم بؤس وتنكيد

ترى بأي خيام سوف يشملهم

يا عيد منك ومن آلائك الجود؟

وإذا جلس الشاعر منفرداً اضطربت أشجانه، وثارت كوامن حزنه وذكرياته، فأنشد:

الريح تزأر خلف نافذتي غير تجف الجدار

وأنا وأحلامي وحيد حيث شط بي المزار

وتلوح لي خلف الرمال السمر أشرعة

ودر حلم يعيش به الغريب إذا نأت عنه الديار

وأحس في أعماق نفسي الفت عاصفة تثار

ويذهب الشاعر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، فيؤدي المناسك خاشعاً لله متعبداً لجلاله، وتستوقفه هناك حمامات الحرم الشريف فيناجيها ويذكرها بأخت لها في القدس، مهيضة، طاوية الجناح، أصمتها رمايات العدو فسقطت على الأرض ولم تجد إلفاً يداوي جرحها، ولا أذناً تصيخ شدوها وعويلها، فلا تملك حينئذ إلا الدمع الثائر تطفئ به نيران لوعتها:

يا أخت طاوية الجناح مهيضة

في القدس، تمضغ في الأسى أنغاما

أصمت رمايات العدو مؤداها

ظلماً.. فباتت تعلق الآلاما

ورنت.. فلا إلف يداوي جرحها

في القيد.. أو يرعى هناك ذماما

وشدت فلا أذن تصيخ وأجهشت

أسفاً.. لتطفئ لوعة وضراما

وفي الحجيج قصيدة أخرى، فيقول ويوجه حديثه بعد ذلك إلى وفد:

وفد الحجيج متى تمضي مسيرتنا؟

وحقت بالكفاح المر ننزعه؟

لا تتركوا القبلة الأولى، ومسجدها

يشكو وكم طال في البلوى تفجعه

من ها هنا من ظلال البيت طاهرة

أذيالنا.. مبدأ التحرير نزمعه

وحين يذهب إلى السودان للدراسة في جامعة أم درمان الإسلامية، ينتهز إحدى المناسبات الوطنية هناك ليلقي قصيدة في دار اتحاد الطلاب بالجامعة مهنئاً ومذكراً، فقال:

هل تذكرون القدس حاضرة الهدى

والقبلة الأولى غدت أشـلاء

مأساتها تجـــري لهيبا في دمى

وتذوب في شفة القريض نداء

يدعو لتحـــرير الديار مجلجلاً

وأحر قلب بالفجيعة نــاء

هيهــــات يجدينا الكلام وإنما

يجدي بأن نتقحم الهيجــاء

وندك أســــوار الظلام بوقعة

للحق وارية اللظى غــراء

وختم القصيدة قائلاً:

ما مات حق للشعـوب وراءه

سيف يجالد دونه العــداء

وهكذا يمضي شاعرنا في معظم قصائده، مذكراً بقضيته المقدسة، قضية فلسطين الإسلامية، مستنهضاً الهمم ومستثيراً العزائم؛ من أجل تحرير الديار، وتطهير المقدسات، وإعلاء كلمة الله، والأمل الحي المتوثب يحدوه من خلال ذلك إلى التأكيد على حتمية العودة المظفرة إلى الأرض السليبة والبلاد الحبيبة، وشرط هذه العودة: الاعتصام بالله أولاً، والاحتكام إلى شرعه، ثم الأخذ بأسباب القوة الممكنة؛ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* العدد (388) – 19 ربيع الأول 1398هـ/ 28 فبراير 1978م – ص30-33.

Exit mobile version