«العقل الإستراتيجي للأمة».. نظرة في بناء تصور إسلامي لترشيد العقل الجمعي

 

شكلت قضية العقل الجمعي وتأثيراته على الفرد والمجتمع جانباً كبيراً من اهتمام القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، ومن ثم فقد مثَّل الخطاب القرآني للمؤمنين النموذج البنائي الجماعي للمجتمعات والأمم، فكان الخطاب الرباني في معظم آيات العقيدة والسلوك والأخلاقيات والعبادات والتوجيهات العامة والخاصة بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد.

ففي تزكية النفس يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب: 70)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر: 18)، فالخطاب القرآني هنا يأمر المؤمنين جميعاً بالتقوى، فتقوى الفرد وحده غير كافية لتطهير المجتمع وبنائه على أساس صحيح، يجب أن تكون التقوى حالة مجتمعية شاملة حتى يمكن قياس حاضر المجتمع ومستقبله القريب والبعيد، وفي المعاملات يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، فالوفاء الكلي بالعقود يؤمن المجتمع كله من رجس الخيانة، وكذلك تسري تلك القوانين على ما تلاها من آيات، ففي أخص وأهم أدوار الأمة يقول تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، ويقول سبحانه بنفس الصيغة الجماعية: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110).

كذلك كانت الآيات التحذيرية بصيغة المجموع الكلي لأفراد المجتمع فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران: 100)، وفي موضع آخر يقول سبحانه: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (الأنعام: 116)، هذه الآيات وغيرها تدور في فلك أهمية العقل الجمعي وتأثيره على سلوك الأفراد.

وفي الحديث النبوي عن حذيفة، وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا».

ففي الحديث الشريف إقرار ومراجعة، إقرار بقدرة الرأي العام على توجيه سلوك الفرد في اتجاه الوعي العام، ومراجعة ودعوة للعقل الفردي بالتمرد على الواقع الفكري العام ومقاومته إذا لم يكن في الاتجاه الصحيح.

فتلك الأدلة الشرعية وغيرها يجب أن تأخذ علماء الأمة ومفكريها لمنحى آخر حين يتعلق الأمر بعمليات التغيير الكبرى، فالرأي العام المجتمعي مهما كانت إيجابياته أو سلبياته قد يمثل موجهاً كبيراً للسلوك الإنساني ولشريحة كبيرة لأفراد المجتمع مما يشكل مفاهيمه ووجهته المستقبلية بشكل صحيح.

ويشكل مستقبل الأمم وقت بنائها أربعة عقول، وهذه العقول هي: العقل الجمعي الشعبوي، والعقل الجمعي النخبوي، والعقل الجمعي السلطوي، ويتداخل في كل هذه العقول العقل الفردي.

وبناء على ما تقدم، نستطيع أن نكون صورة واضحة في حال وضع إستراتيجية لحل مشكلات الأمة العارضة -التي تمر اليوم بأحد منحنياتها الخطيرة- حيث تمر بفترة سقوط ثقافي مهلهل ومبتدع ومستورد ومختلط مع تمدد حالة وعي شعوبي عربي ورغبة في التغيير الواعي.

غير أن الشعوب لا تتحرك حركة ذاتية لمجرد سريان الوعي، وإنما يلزمها قيادة مخلصة مدركة وقادرة على تحريك ونشر مجموعة القيم وتصحيح المفاهيم وحمايتها في ذات الوقت.

وبعد تشعب العلوم والتخصصات، فلا حل سوى تشكيل عقل إستراتيجي جمعي للأمة، يشمل كافة التخصصات الأدبية من فقهاء مجددين، وعقول إعلامية مستنيرة، وعلماء خارج إطار التبعية، وأدباء وفلاسفة مبدعين، تعرض أمامهم الإشكالية، ومعطيات الحاضر وأسباب التغيير وشروط الاستمرار بشكل تفصيلي يمكن من خلاله صنع حالة رأي عام أممي في كافة الأقطار العربية والإسلامية لتشكيل وعي جديد وتهيئة الجماهير لتلقي ثقافة جديدة تطلق للفرد فرص الإبداع العقلي والأدبي والعملي في أجواء ملائمة، أو يمكن أن نقول باختصار عن دور ذلك العقل الإستراتيجي أنه: إعادة تشكيل الوعي والإدراك (العقل والوجدان).

مؤتمر حضاري لعلماء ومفكري الأمة العربية والإسلامية

وفي ضوء تلك المعطيات، هل يمكن أن نجد حلاً لخروج الأمة من حالتها الثقافية المتأرجحة بين الهبوط ومحاولات الخروج؟

بالطبع هناك حلول كثيرة، ومن رحمة الله بهذه الأمة أنها لا تموت وإن طالت غفوتها، وأنها لا تنضب من عقول وقلوب تحيا لتحييها، وتموت في سبيل بقائها، وهم كُثر في بلادنا رغم شدة البلاء ولا نستطيع حصرهم في مقال.

وهناك أفكار موجودة على الساحة سبقت مقالي أختار منها فكرة د. سيف الدين عبدالفتاح «العقل الإستراتيجي للأمة»، تمثل لب الموضوع المطروح بين أيدينا وهو تكوين «عقل إستراتيجي للأمة» لا ينوب عنها، وإنما يقودها، ويشكل عقلها الجمعي ليساعدها على أن تبرأ من تلك المحنة العصيبة التي تمر بها.

إن الجماهير المسلمة لم يعد ينقصها فهم، ولا معرفة، وإنما ينقصها ذلك العقل الموجّه والمنظم الذي يتمثل في علمائها ومفكريها لتحديد الوجهة، وإحياء الهوية، وإشعال فتيل التغيير بحكمة وتنظيم وفي قضايا محددة.

ولذلك، أدعو المعنيين للمضي قدماً في تنفيذ وتكوين «العقل الإستراتيجي» على هيئة مجموعة من العلماء في تخصصات إنسانية مختلفة في مؤتمر جامع دائم تدير فيه المرحلة.

الهدف العام منه:

– تشكيل الإنسان المسلم الحضاري القادر على تغيير حاضره وصنع مستقبله.

وأهدافه المرحلية:

– صنع حالة من الوعي والإدراك لدى شباب الأمة في قضاياها المصيرية كقضية الوحدة العربية الإسلامية ووحدة المصير والتاريخ والهوية.

– إعادة تشكيل بعض المفاهيم الحضارية الأساسية التي تقع حولها بعض الخلافات والملابسات لأي بناء أممي لدى شباب الأمة كبداية، منها: مفاهيم: التوحيد، الأمة، الإجماع، الرسالة، الخيرية، الوسطية، الخلافة، الجهاد، الرشد، الآخر، الجماعة، الشمول، وغيرها من عشرات المفاهيم التي لا يتسع المجال لذكرها هنا، التي يجب أن تصحح وتقدم بصورة محددة لشباب الأمة.

التشكيل البنائي للعقل الإستراتيجي

بالنظر إلى حال الأمة وأمراضها الأساسية التي طرحت سالفاً، يمكننا أن نحدد أعضاء المؤتمر العام من خلال تخصصاتهم:

أولاً: علماء في العقيدة.

ثانياً: علماء في الفقه.

ثالثاً: مختصون في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

رابعاً: مختصون في مجال التاريخ وعلومه واستقراء أحداثه.

خامساً: مختصون في علم الاجتماع وطبائع الشعوب والمتغيرات والسنن الكونية.

سادساً: مختصون في مجال الإعلام والدعاية.

Exit mobile version