خطير.. «السوسيال» الإيطالي تدفع الطفلة التونسية عالية إلى الانتحار

 

إنه نفس الشخص الذي بدأ حديثه لـ«المجتمع» منذ عدة أشهر بابتسامة ساخرة وهو يقول: أنا الذي إذا سمعت يوماً قصة اختطاف الأطفال من قبل الدولة لم أكن لأصدقها، إنه الخيال الذي تحول إلى واقع.

ولكنه اليوم يبدأ حواره والعبرات تزاحم الكلمات، ويبدو الصوت حزيناً لكنه غير مكسور، يواصل معركته ببسالة ويخبرنا أن الخيال تحول إلى كابوس هذه المرة.

أنا أعيش أحداثاً لم أكن أتصور يوم تركت موطني تونس وأنا أحلم بالحرية والعدل والإنسانية التي خِلْت أنها ماتت في بلادنا، فركضت بحثاً عنها في إيطاليا.

في البداية، دعنا نلخص لمتابعينا القصة من البداية وحتى 1 مارس 2023.

– اسمي نبيل دريدي، من تونس، مقيم في إيطاليا إقامة شرعية، متزوج من سيدة تحمل الجنسية الأوكرانية، لدينا ثلاث بنات، وقعتُ وزوجتي فريسة للاحتيال من قبل منظمة «السوسيال»، حيث استغلت ظرفاً طارئاً نمر به وقامت بنزع البنات الثلاث من أحضاننا، وكان ذلك عام 2018، على وعد منهم بإعادة البنات لنا بعد أسابيع قليلة، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن.

ماذا حدث يوم 28 فبراير 2023؟

– كان ذلك قبل الحادثة بيوم واحد، مساء يوم الثلاثاء، الساعة الثامنة مساءً، موعدنا الأسبوعي الذي نتحدث فيه مع البنات عبر محادثة فيديو؛ صوتاً وصورة.

عالية ابنتي (17 عاماً) كانت أول من تحدثت، وقتها كانت مبتسمة، وقالت: بابا، إن لديَّ أخباراً سيئة قليلاً.

لاح في خاطري كل الأشياء السيئة، وتزاحمت الأفكار في رأسي، ثم قلت لها: ماذا حدث؟

أشارت إلى يدها التي كانت مربوطة بشاش، وببطء أزالت الشاش لتظهر لي ولأُمها آثار تشريط بآلة حادة الشفرة على ما يبدو.

تملكني الذعر عليها وصِحْت: لماذا فعلتِ ذلك؟

إلا أنها أجابت بنفس الابتسامة والهدوء: إنهم يُجبروننا على ذلك، ثم تركتْ الهاتف لأختيها وانصرفت بعيداً عنهما.

وماذا كان رد فعلك على ما حدث أنت ووالدتها؟

– اتصلتُ فور انتهاء المحادثة بالمشرفة الاجتماعية المسؤولة عنهن، إلا أنها لم ترد على اتصالي.

وكنت متوقعاً منها اتصالاً في صباح اليوم التالي لتشكو لي عالية، وكيف أنها قامت بإيذاء نفسها، لكن الصباح مرَّ دون اتصالها، وكنت من وقت لآخر أحاول الاتصال بها لكنها لا ترد، أرسلت لها رسالة عبر الهاتف قرأتها لكنها لم ترد.

ظهر الأربعاء 1 مارس 2023، ما الذي حدث بالتفصيل؟

– كانت الساعة السادسة إلا ربع مساءً عندما تلقيت اتصالاً هاتفياً من المرشدة الاجتماعية تقول: أسرع إلى المستشفى.

صرخت: لماذا؟ أجابت بأن عالية ارتكبت خطأ جسيماً وعليك التوجه إلى المستشفى حالاً.

سألتها: هل قامت بجرح معصمها مرة أخرى؟

أجابت: لا، لقد ألقت بنفسها من الطابق الثاني، مع العلم أن الطابق الثاني في مبنى الرعاية مرتفع، فهم يتجنبون محاولات هرب الأطفال.

متى حدث ذلك؟ سألتها.

أجابت: في الواحدة ظهراً، وهي الآن في غرفة العناية المركزة وحالتها غير مستقرة.

أغلقت الهاتف وانطلقت بملابس العمل إلى المستشفى ركضاً. 

لم تخبر الأم بما حدث؟

– أردت أن أطمئن على عالية أولاً ثم أعود لأخبر زوجتي بطريقة هادئة حتى لا تُفجَع وتصاب بانهيار عصبي.

كنت أحاول أن ألملم نفسي وأستجمع كل ذرة من قوتي حتى أبدو متماسكاً، وصلت إلى المستشفى ورأيتها من خلف الزجاج، ويا ليتني لم أرها.

كيف كانت وقتها؟

– كانت ملفوفة بالشاش من رأسها وحتى أخمص قدميها، تتنفس عن طريق جهاز التنفس الصناعي.

بكيتها وبكيت نفسي وبكيت حلم الحرية والعدل والإنسانية، فقد رأيتها جميعاً صرعى بجوار ابنتي.

ثم تحدثت مع المحامي الذي هو جزء من العصابة، وأعلم أنه يعمل لصالحهم، وهو معيَّنٌ من قِبلهم، فأظهر لا مبالاة كنت أتوقعها.

حاولت الاتصال بالمسؤولة، لكنها أبت أن تجيب عن أيٍّ من اتصالاتي.

شعرتُ بأعراض الجلطة مرة ثانية تزحف ببطء نحوي، فجسدي لم يعد يقوى على تحمُّل المزيد.

تلوتُ قليلاً من القرآن لتهدأ نفسي وأنا أدعو ربي أن يزيل الخطر عن ابنتي.

في اعتقادك، لماذا فعلتْ ذلك؟

– هروباً من الضرب والتعذيب، إنهم يمارسون أسوأ أنواع القسوة على الأطفال، وقد سبق وأخبرتكم بذلك في حواري معكم، إنهم يتاجرون بأطفالنا ويتكسبون من وراء ذلك، إن ما يحدث جرائم، ولكن تحت رعاية القانون والدولة!

وقد كانت أول الكلمات التي نطقت بها ابنتي بعد ذلك: «إنهم دفعوني للتخلص من حياتي».

لذلك، أنا أعتبرها جريمة، القاتل فيها هي المرشدة والمنظمة وكل من يعمل فيها.

وماذا حدث في اليوم التالي للواقعة؟

– ذهبتُ أنا وزوجتي إلى المستشفى بعد أن أخبرتها بما حدث مع عالية، وتركت زوجتي معها وتوجهت نحو المرشدة التي كانت محاطة بعدد كبير من رجال الشرطة المتواطئين معها، رفضت أن تتحدث معي أو تخبرني عن أي تفاصيل، فوجهتُ بصري نحو الشرطة لأسألهم، لكنهم لم يختلفوا عن المرشدة، فلم أتلقَّ جواباً شافياً.

فتركت زوجتي عند ابنتي وتوجهت لقسم الشرطة لمقابلة رئيس الشرطة، الذي رفض في البداية أن يقابلني، لكن مع إصراري تمكنت من الدخول إليه.

فسألني ببرود: ماذا تريد؟

أجبته: أنا أتهم المرشدة والدار بمحاولة قتل ابنتي.

فأجاب بنفس الهدوء لكن يصحبه السخرية: وما دليلك على ذلك؟ لقد ألقت ابنتك نفسها من الشرفة.

فأخبرته أن التعنيف والتعذيب الذي يحدث في الدار للبنات يدفعهن للانتحار، وكنت قد قدمت لكم أكثر من تسجيل مصور بالصوت والصورة عن العنف الذي يقع في دار الرعاية الاجتماعية التي من المفترض أنها تحمي الأطفال من العنف، لكن كل ما قدمته هو حبيس أدراج مكتبك؛ لأنك جزء من نفس المنظومة!

أراد أن يُخرجني، إلا أنني صممت على كتابة شكوى تتضمن اتهاماً للدار والمنظمة وكل الأجهزة المتواطئة.

رضخ تحت إصراري، وإن كنت أعلم أن الشكوى لن تغادر درج مكتبه أبداً.

وماذا فعلت مع المرشدة والدار؟

– طلبت من المرشدة تفريغ كاميرات المراقبة ليوم الحادث واليوم الذي قبله، لكنها رفضت بشدة.

طلبتُ منها تسجيلات المحادثات بيني وبين بناتي في الأسابيع القليلة التي سبقت الحادثة، لكنها رفضت أيضاً.

ذهبتُ إلى الدار لرؤية ابنتيَّ والتحدث معهما، فقالتا: إن عالية أختهما كانت تتعرض للتعذيب بسبب وبدون سبب، وإنهم يمارسون على البنات كل أساليب التعنيف، وفي الفترة الأخيرة صاروا يهددون الفتيات بنقلهن إلى مصحة للأمراض النفسية، وعليهن تحمُّل عاقبة ذلك؛ مما دفع ابنتي لمحاولة الانتحار للتخلص من العذاب الأكبر المستمر ليل نهار في دار الرعاية.

وما وضع عالية الصحي الآن؟

– تم نقلها عن طريق طائرة هليكوبتر إلى مستشفى كبير في نابولي، ما زالت تحت تأثير المخدر، وما زالت تتنفس عبر أنبوب التنفس الصناعي.

وأنا ما زلت أواصل معركتي معهم، لن أستسلم، رغم أنهم هددوني عندما نشرت ما حدث عبر صفحتي الشخصية بـ«فيسبوك»، هددوني أن يصل صوتي لأي جهة.

ولكنني لم أرضخ، تحدثت مع «إذاعة تونس»، وقصصت ما حدث، وهي الجهة العربية الوحيدة التي سمحت لي بالحديث بعد منبركم الذي كان معنا منذ بداية المعركة.

والآن نحن في انتظار رحمة الله تعالى بنا، وشفاء ابنتي التي ما زالت زهرة لم تتفتح كل أوراقها بعد.

واختفى صوت الأب وراء تزاحم العبرات والأفكار، ولكني ما زلت أحفظ عنه هذه الكلمات التي اختتم بها حواره معنا منذ عام حيث قال: كأننا لسنا بشراً أو مواطنين، الإعلام الذي يتحرك من أجل قطة، أو كلب، أو حتى عصفور؛ لم يتحرك لنا طيلة 5 سنوات! نحن نعاني من صمت قاتل، ليصمد منا من يستطيع الصمود وليسقط من أعياه المسير.

أما أنا فأحسبني صامداً، وإن سقط الجميع فهذا هو الأب الذي أريد.

Exit mobile version