العلاقات العربية الأفريقية.. هل من عودة؟

 

يقول المفكر الكيني علي مزروعي: إن العلاقات الأفروعربية تتجاوز مفهومها الثقافي والسياسي، لتعني روابط الدم والاتصال الجغرافي المباشر بين شبه الجزيرة العربية وأفريقيا قبل التشكل الجيولوجي للبحر الأحمر(1).

في هذا السياق، وفي حين تتغير معادلات الصراع الدولي وتشتد أوتار المنافسة على القارة السمراء؛ تبرز علاقة العالم العربي بالقارة الأفريقية، لتثير تساؤلات عديدة أبرزها: لماذا غابت القارة الأفريقية عن منظور العالم العربي رغم التقارب الجغرافي والتاريخي والثقافي؟

ومع أن التعاون العربي الأفريقي أتى ثماره في وقت مضى، وقد يفتح آفاقاً مختلفة ورحبة أمام الطرفين في الوقت الحاضر؛ فإن العلاقات العربية الأفريقية ما زالت متأخرة جداً عن ميدان المنافسة.

في هذا التحقيق، تناقش «المجتمع» العلاقات العربية الأفريقية في ظل متغيرات الصراع الدولي، والجهود العربية المشتتة في التوجه إلى القارة الأفريقية، وأبرز التحديات التي تواجه التعاون العربي الأفريقي.

تُعَد أفريقيا في سياق متغيرات الصراع الدولي ساحة تنافس شرس حول الموارد والنفوذ بين القوة المهيمنة والقوى التعديلية؛ فالولايات المتحدة الأمريكية تحاول الاحتفاظ بموقعها القيادي في العالم، بينما تسعى الصين، مثلاً، إلى الاعتراف بنفوذ لها يعادل قوتها الاقتصادية الصاعدة؛ ما يجعلهما في احتكاك وتنافس في جبهات متعددة.

ومما لا شك فيه أن الاحتكاك بين القوى يُلقي بظلاله على علاقات أفريقيا الدولية، ومنها العلاقات الأفريقية – العربية؛ باعتبار ذلك الصراع قد يحول دون بناء نموذج ناجح للتعاون العربي – الأفريقي(2).

وتبدو خرائط اللاعبين في أفريقيا منقسمة بين فريقين:

الأول: الفريق التقليدي القائد للنظام العالمي منذ منتصف القرن الماضي ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي.

الثاني: اللاعبون الجدد الصاعدون نحو أدوار جديدة في النظام العالمي وأبرزهم الصين، وعلى مسافة منها تقع كل من تركيا وروسيا، وهؤلاء جميعاً يتسم أداؤهم بالحيوية والإنجاز مقارنة بالأداء العربي.

مع تصاعد الخسائر العربية في أفريقيا، فإن طبيعة التحديات المشتركة التي يواجهها الطرفان في المرحلة الحالية تتطلب نوعاً من التقارب والتعاون.

في هذا الصدد، يعتقد الصحفي الإريتري والباحث في شؤون القرن الأفريقي، عبدالقادر محمد علي، أن من الصعب الحديث عن توجه عربي متعدد الأطراف نتيجة لحالة الانقسام المعروفة، وقال: إنه من المُحزن الحديث عن صعوبات أمام توجه عربي إلى أفريقيا وثُلثا العرب أفارقة ونصف الدول العربية تقريباً أفريقية!

وبحسب علي، فإن هذا يؤشر إلى مدى التردي في تناول الملف الأفريقي عموماً في الدوائر العربية، رغم أن القارة الأفريقية قارة المستقبل وتختزن الكثير من الثروات الباطنية والقوى الشابة والأسواق المستقبلية، كما أن بعض مناطقها تمثل أحزمة حيوية للأمن القومي العربي ومناطق تماس يتكثف فيها التأثير المتبادل.

وفي سياقٍ متصل، يرى المحاضر بمعهد الشرق الأوسط بجامعة سكاريا، د. محمد سليمان الزواوي، أن العمل العربي المشترك في حال تحققه يستطيع أن ينافس أي قوى منفردة، بالنظر إلى حجم الاستثمارات العربية والخبرات والتقارب الجغرافي، وكذلك التشابه

الثقافي والاجتماعي، والقدرة على إنشاء مناطق تجارية وصناعية واستثمارية باستغلال البحار والأنهار المشتركة في عملية التصدير من أفريقيا إلى الشمال، وكذلك استغلال التطور في البنية التحتية لشبكة الطرق التي يجري إنشاؤها الآن، لتربط شمال أفريقيا بجنوبها وشرقها بغربها.

وأضاف الزواوي لـ«المجتمع» أن هناك مكاسب جمّة للتعاون العربي الأفريقي، نظراً للتقارب الجغرافي، أولها: قرب الأسواق العربية من نظيرتها الأفريقية، وثانيها: أن الساحة العربية تُعَد مُستقبِلة لأعداد كبيرة من الوظائف التي يمكن أن تساهم في تقليل البطالة الأفريقية، وثالثها: أن الجوار العربي يمكنه أن يصدر التقنية إلى الأسواق الأفريقية وخبراته المكتسبة في تحديث البنية التحتية، حيث باتت التجارب العربية في هذا الصدد رائدة على مستوى العالم.

كما تستطيع الأموال العربية أن تساهم في تعزيز الصناعات الأفريقية لا سيما تلك المعتمدة على التصنيع الغذائي، مثل الشراكة العربية مع إثيوبيا في مجالات البن والشاي، ويمكن أن يمتد ذلك لمجالات تربية الماشية وتصدير اللحوم، وكذلك منتجات الألبان والصناعات القائمة عليها.

جهود مشتتة

إن التعاون الثنائي بين العرب والأفارقة متقدم على التعاون متعدد الأطراف؛ ما يعكس غياب رؤية عربية موحدة تجاه أفريقيا، حيث إن كل دولة عربية تفضل التوجه نحو أفريقيا بشكل منفرد، الأمر الذي قد يندرج ضمن إستراتيجية القوى الدولية الفاعلة في أفريقيا.

بيد أن تعثر التعاون العربي – الأفريقي على المستوى متعدد الأطراف لم يمنع الدول العربية والأفريقية من تطوير علاقات تعاون ثنائية.

ويمكن الإشارة هنا إلى الإمارات العربية المتحدة، التي تعد رابع أكبر مستثمر عالمي في أفريقيا، بعد الصين وأوروبا وأمريكا، باستثمارات قدرها 25 مليار دولار، خلال المدة ما بين عامي 2014 إلى 2019م، تشمل مجالات: الطيران، والبنيات التحتية، وصناديق الاستثمار، في دول مثل نيجيريا، وجنوب أفريقيا، وكينيا، وأوغندا، وتركز الإمارات على تعزيز علاقاتها الثنائية بالصومال والسودان كذلك؛ حيث أقامت مشروعات كبرى في مجال الزراعة من أجل تأمين الغذاء لمواطنيها.

أيضاً نجد المملكة العربية السعودية، التي تركز استثماراتها على قطاع الزراعة والطاقة، بحيث تستثمر في مليوني هكتار في عدد من دول القارة، وبالتالي تأمين حاجاتها الغذائية، وهي كلها استثمارات تقع في شرقي القارة، مثل السودان وإثيوبيا.

كما يتبنى المغرب إستراتيجية متعددة الأبعاد، تركز على دول منطقة غرب ووسط أفريقيا، عبر مداخل: الأمن والسياسة، والاقتصاد والتجارة والربط، والبيئة والتنمية المستدامة، وقد اكتست الإستراتيجية المغربية في أفريقيا زخماً جديداً بعد عودته إلى منظمة الاتحاد الأفريقي في عام 2017م(3).

وعن التنافس الإقليمي بين الدول العربية في الفترة الأخيرة، يقول د. محمد الزواوي: إنه بدلاً من وجود تحالفات متماسكة داخل العالم العربي، وجدنا استقطاباً وتنافساً على الزعامة، وذلك في ظل تراجع القوى الإقليمية التقليدية وعلى رأسها مصر، مما كان له تداعيات سلبية على العمل الجماعي العربي المشترك.

وأضاف أن هناك تنافساً على الزعامة الخليجية إلى جانب التنافس على الزعامة العربية، وهذا يجعل التوجه نحو أفريقيا امتداداً لذلك التنافس، مما يلقي بظلال سلبية على العمل العربي المشترك من ناحية وعلى الدائرة الأفريقية من ناحية أخرى.

وأكد الزواوي، في حديثه لـ«المجتمع»، أن التنافس على حلول المشكلات ذات الأبعاد الإستراتيجية مثل «سد النهضة»؛ يجعل هناك تضارباً في التوجهات ما بين توجهات تنموية وأمنية، وهذا يعطي ميزة إضافية للدول الأفريقية لاستغلال ذلك التنافس لصالحهم ومن ثم الخروج بأكبر استفادة من التنافس العربي.

وعليه؛ يرى الزواوي أن وجود رؤية عربية موحدة للقضايا الأمنية، وكذلك للملفات التنموية، من شأنه أن يعطي زخماً للتعاون العربي مع نظرائهم الأفارقة، ويجعل العلاقة مبنية على التعاون وليس التنافس، ومن ثم الخروج بمكاسب لكلا الطرفين.

الأفروعربية.. تاريخ متلاحم

يقول الرئيس الغيني الأسبق أحمد سيكوتوري: «إن دعمنا للقضايا العربية ينبع من مسألة التضامن العربي الأفريقي، ولا يعتمد على أي مكافآت مالية تُدفع لنا من قبل العرب، أود أن أقول لأولئك الذين يُحاجون بأننا نتعامل مع العرب من أجل المال: إننا شعب متدين، يؤمن بالله، ولدينا شعور عميق بالكرامة والمسؤولية».

وعلى الرغم من عمق الروابط التي تجمع بين الجانب العربي والأفريقي؛ فإنهما واجها تحديات خطيرة خلال الحقبة الاستعمارية، فقد دأبت الدول الأوروبية على تقطيع أواصر الالتقاء والتلاحم بين الكيانين العربي والأفريقي بشتى السبل.

ومن ذلك القضاء على العلاقات والمواريث المشتركة بين الفريقين وإعادة توجيه الاقتصادات العربية والأفريقية لربطها بالدول الأوروبية، ولا يخفى كذلك أن الغرب حاول خلق جذور العداء والصراع بين شعوب المنطقة، اتضح ذلك بجلاء في دول مثل السودان وموريتانيا وتنزانيا.

بيد أن تحديات ما بعد الاستعمار التي شهدت التأكيد على جملة من السياسات العامة التي التف حولها كل من العرب والأفارقة مثل محاربة الاستعمار، ومواجهة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أعادت وصل ما انقطع بين الطرفين.

وقد تجلت الأفروعربية في لحظات تاريخية لا تنسى؛ كما حدث في أعقاب انتصار أكتوبر 1973م حيث قطعت معظم الدول الأفريقية علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني تضامناً مع الموقف المصري؛ وهو ما أدى بدوره إلى التفكير في مأسسة العلاقات العربية – الأفريقية، وهو ما أسفرت عنه القمة العربية – الأفريقية الأولى في القاهرة عام 1977م، التي وضعت الأسس القانونية والمؤسساتية للتعاون متعدد الأطراف بين المجموعتين العربية والأفريقية(4).

لكن الحصيلة تبدو محدودة جداً؛ فالقمم العربية – الأفريقية على مستوى رؤساء الدول انعقدت أربع مرات فقط: قمة القاهرة عام 1977م، وقمة سرت عام 2010م، وقمة الكويت عام 2013م، وقمة غينيا الاستوائية عام 2016م، وكان مقرراً أن تنعقد القمة الخامسة في السعودية عام 2019م، لكنها لم تنعقد حتى الآن.

إن مقدار التعاون العربي الأفريقي يبقى مرهوناً بمدى رغبة الطرفين ومقدار قوة التلاحم بينهما، وأن العلاقة يجب ألا تعتمد على المساعدات المالية فحسب، بل يجب أن تقوم على قواعد إنمائية من خلال التعاون الشمولي في إقامة المشاريع والاستثمارات الاقتصادية المتعددة، بحيث يؤدي التعاون إلى تنمية متكافئة ومتكاملة في كلا الجانبين.

غياب الإستراتيجية

يرى الصحفي الإريتري عبدالقادر محمد علي أن أحد أهم التحديات هو غياب إستراتيجية شاملة تضمن المصالح العربية، وتبني أدوات تواصل إستراتيجي عربي مع القارة السمراء، وهذا بالطبع راجع لحالة التشرذم العربي التي تحول دون التخطيط والتنسيق المشترك، وأضاف أن ما تم في السنوات الأخيرة هو نقل الصراعات العربية البينية إلى القارة الأفريقية في أكثر من منطقة.

وأكد علي، في حديثه لـ«المجتمع»، أن من أبرز التحديات غياب المقاربات العربية القادرة على منافسة نفوذ القوى الخارجية المختلفة في القارة، سواء ذات الإرث الاستعماري، أم الوافدة حديثاً كالصين؛ التي تقدم رؤية قائمة على المصلحة المشتركة والمتساوية، وتطوير البنى التحتية للدول الأفريقية مقابل القروض الصينية، وهي تلقى رواجاً على المستوى الرسمي أو الشعبي كما هو ملحوظ.

وأضاف أن قوة إقليمية كتركيا تحاول تقديم إستراتيجية شبيهة لما تقوم به الصين، في حين تقوم روسيا بالاستفادة من التهديدات الأمنية لاختراق الدول الأفريقية، فأين المبادرات العربية المنافسة؟

ويعتقد علي أن تعزيز العلاقات العربية الأفريقية يستلزم الحد الأدنى من توافق عربي على إستراتيجية مشتركة للتعاطي مع القارة، والتوسع في استخدام أدوات القوة الناعمة والوسائل الدبلوماسية في خلق رأي عام مرحب بالحضور العربي، وهي تجربة نجحت فيها تركيا نسبياً.

وأكد الصحفي الإريتري أن هذا يتضمن زيادة عدد البعثات الدبلوماسية العربية في القارة وتنشيط الأقسام الإعلامية فيها، ونسج الروابط بين المؤسسات والاتحادات الرسمية والأهلية العربية ونظيراتها الأفريقية، بما يسمح بدخول المبادرات المجتمعية والشعبية ساحة العمل التعاوني، ومخاطبة الأفارقة بلغاتهم عبر وسائل إعلام محلية قادرة على شرح وتوضيح وجهة النظر العربية في العديد من القضايا وإزالة سوء الفهم أو المفاهيم السلبية حول العرب.

وأضاف أن إفساح المجال لتوسيع المنح الدراسية للأفارقة في الدول العربية، واستثمار المساعدات العربية للقارة بتحويلها إلى مشاريع تنموية إستراتيجية؛ قادرة على ترسيخ الوجود العربي في القارة والتأثير في الوعي الأفريقي تجاه العرب.

وختاماً، تبقى الدول العربية تتكبد خسائر عدم توجهها للقارة الأفريقية، وفي ظل تغير معادلات الصراع الدولي؛ هل يدرك العالم العربي قيمة أفريقيا التي كانت تقف جنباً إلى جنب مع قضاياه في وقت من الأوقات، ويبادر بإعادة العلاقات معها؟ أم تظل الساحة الأفريقية خالية من وجود عربي موحَد؟

 

 

 

 

_______________________________________________________________________

(1) حمدي عبدالرحمن، رؤية وحدودية مغايرة للعرب والأفارقة: «أفرابيا» علي مزروعي، مجلة المستقبل العربي، ع 453، نوفمبر 2016، ص 10.

(2) إسماعيل حمودي، واقع وتحديات التعاون العربي الأفريقي في ظل متغيرات الصراع الدولي، مركز الجزيرة للدراسات، 5 أكتوبر 2022.

(3) المرجع السابق.

(4) حلمي شعراوي، التعاون العربي الأفريقي من التحرر الوطني إلى العولمة، المجلة العربية للعلوم السياسية، 2007، ص 77.

Exit mobile version