بين الخطيب المطبوع والمصنوع

 

ظاهرة الضعف الخطابي

إن مهمة الدعوة إلى الله تعالى من أشرف المهام، وأفضل القربات، فهي لبّ رسالات الأنبياء والسابقين، والوسام الجليل الذي يصطفي له رب العالمين من يشاء من خلقه، قال جل ثناؤه (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33).

وإن كان البصراء قد عرفوا الخطابة بأنها «فن مخاطبة الجمهور وإقناعه واستمالته»(1)، فإن هذه الركائز الثلاث تحتاج إلى دربة ودراية لتكون الخطبة ناجحة وهادفة.

وبقليل من التروي، فإن من ينظر إلى الواقع الخطابي المعاصر يجد أمارات التجاعيد وعلامات الشيخوخة عليه ظاهرة، بل ونزق المراهقة وقلة الخبرة، فهو في الأعم الأغلب –إلا من رحم الله– لا يقيم معوجاً ولا يشبع نهماً، فأحياناً يكون الخطاب بارداً برود الشتاء، تظهر عليه أعراض التكلف في الصنعة الخطابية، وأحياناً يكون حارّاً حرارة الصيف الملتهب، ومن الحكمة التوسط بينهما ومراعاة الحال.

رسالة المسجد

المسجد قلب المجتمع النابض، ورسالته رسالة الإسلام بشموله وكماله، وأهم أدواره التوجيه والإرشاد وتصحيح العقائد والأفكار وتزويد الأنفس بالغذاء الروحي والإيماني حتى يتجدد اللقاء في هذا المؤتمر الأسبوعي، فكم من انحرافات شبابية عولجت! وكم من ثلمة في الجدار الإسلامي سُدت ووضع لها الدواء الناجع والعلاج الناجح! وكم من أمور حيَّرت أفهام الناس وتصارعت حولها العقول وكان في خطبة الجمعة الإجابات الشافية لهذه الحيرة، وفصل القول بين العقول المتصارعة على يد خطيب يقظ يربي ويوجه ويعلم مطبوع على حب الخطابة وحسن الأداء وروعة البيان، وشتان بين الخطيب المطبوع والخطيب المصنوع، وهنا سؤال مفاده: هل تقوم خطبة الجمعة بوظيفتها كاملة؟ وهل تواكب التطور الإعلامي الهائل في هذه الأيام؟

الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تضعنا أمام حقيقة ليست سهلة على النفس المسلمة، بل مؤلمة جداً، فرغم كثرة منابر المساجد وخطبائها، فإنك تجد فرقاً هائلاً بين خطبة الجمعة اليوم وما كانت عليه عند السلف، مع أن المنابر هي المنابر.

إنك في الأعم الأغلب ستجد خطبة ضاعت روحها الفتية، واختفت معانيها الغنية، وغابت آثارها القوية، ويهولك أن تراها أضحت كلمات ثقيلة ومعاني عليلة لا تبل لظامئ صدى، ولا تدفع عن أمة ردى، الناس في واد وهي في واد آخر، لا تحس بآلام الأمة، ولا تحاول إنقاذها من الغمة، فلا تعجب إن أصابها الهزال ولم يتأثر بحبها الرجال(2).

والأمر ليس على إطلاقه، ففي الحياة أئمة وخطباء جعلوها رسالة لا وظيفة يبتغون بها رضا الله وتعمير القلوب، لا ملء الجيوب، فكتب الله لهم في دنيا الناس القبول، وقدر لصادق كلماتهم البلاغ والوصول.

الأسباب والحلول

المستوى العلمي والثقافي المتواضع، وعدم الإلمام بالثقافة العلمية والأدبية والتاريخية، وقصر النظر والمطالعة على فرع واحد أو رأي واحد؛ وهذا بدوره يؤدي إلى التعصب وجمود الفكر، ومن البديهيات أن الداعية يجب أن يكون مدمن قراءة، يطالع ويبحث ويرقب كل جديد؛ لأن القراءة عنوان التقدم والازدهار والرقي الحضاري، وهي للدعاة زادهم الأصيل، ورحم الله الإمام البخاري، فقد سأله وراقة يوماً في خلوته: هل من دواء يشربه الرجل فينتفع به الحفظ؟ فقال: لا أعلم شيئاً أنفع بالحفظ من فهمة الرجل ومداومة النظر(3).

الهبوط الملحوظ في التحدث باللغة العربية، واستبدال العامية واللهجات المحلية بها، التي غالباً ما تُفقد الحديث رونقه، والخطبة بهاءها، وكذلك التقعر واستخدام الألفاظ المستعصية على الأفهام.

ومعلوم أن اللغة العربية هي وعاء الإسلام، ولسان التنزيل، وآصرة العقيدة، ورمز الأمة وعنوانها، فهي نبت القرآن الكريم ووليدته، والخطيب يجب أن يكون له منها النصيب الأوفى، وليس المقصد استعمال الفصحى التي تحتاج في فهمها إلى بحث في المعاني، بل اللغة العربية السهلة الواضحة التي يفهمها الخاصة والعامة.

عدم الإلمام بالواقع ومعايشة الأحداث، فمن المفارقات العجيبة أن تمر الأمة بمرحلة عصيبة، وينتقص من أطرافها وتنتهك حرماتها ومقدساتها، وترى من يتحدث في موضوعات ليست ذات بال، وعلى الخطيب أن يكون على دراية بالواقع ومواكبة الأحداث الاجتماعية والثقافية، فالداعية والطبيب كلاهما رفاق سلاح لا بد من معايشة مشكلات الناس واستدعاء الحلول الناجحة لها من القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، من غير أن يعرض الداعية نفسه للمخاطر والمهالك، وألا يتعرض لأحد من المستمعين «ينتقد الفعل ولا ينتقض الفاعل»، فنحن نعالج المرض ولا نحارب المريض، مع ضرورة الموازنة بين عرض الدعوة وسلامة الداعية.

شعور الداعية بالإحباط تجاه الواقع الفردي والجمعي للأمة ورضوخه للواقع والرغبة في عدم التطور والفتور، وإغفال استخدام أساليب التشويق والإثارة وبراعة الاستهلال، فمنهم من يتحدث بصوت ضعيف لا يوقظ الوسنان ولا يحرك الغفلان، والخطيب يجب أن يكون بارعاً في إيصال الفكرة بأقصر عبارة، وأوجز إشارة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم(4).

فأولى بالخطيب أن يحرص على استخدام القصة الهادفة دينية كانت أو أدبية، وفيرة الصوت، ولهجة الحديث التي ربما تبلغ عن القلوب ما لا يبلغه الحديث نفسه، فلا يقرر حديثه على وجه إلا المتأثر به قولاً وفعلاً، وفرق بين الحديث إلى الأحياء والحديث لسكان القبور.

وبعد أخي الخطيب الحبيب..

لقد أقامك الله تعالى في مقام تشرئب إليه الأعناق، وترنو إليه الأحداق، فبكلماتك تتشكل العقول، وبعباراتك الجهل يزول، فجاهد نفسك، وجدد نيتك، فهي أول مراتب القبول، واجعل الإخلاص لله لك مركباً، ورضا الله غاية ومطلباً، وتعليم الناس وهدايتهم هدفاً ومقصداً، فقد اصطفاك الله لمكان الأنبياء، ومقام الأصفياء.

 

 

 

 

___________________________________________

(1) فن الخطابة، د. أحمد الحوفي، ص5.

(2) يوم الجمعة وخطبته في موكب الدعوة، د. يسري هاني، ص115.

(3) فتح الباري (1/488).

(4) أخرجه مسلم (867).

Exit mobile version