دراسات في التطبيع مع الكيان الصهيوني

إعداد- وائل المبحوح:

في التعريف العام بالكتاب:

أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت مجلداً جديداً بعنوان “دراسات في التطبيع مع الكيان الصهيوني: الدراسات الفائزة في المسابقة البحثية الدولية.. لا للتطبيع”، جاء في 510 صفحات من القطع المتوسط، وهو عبارة عن 13 دراسة محكّمة مختارة من مجموعة دراسات تقدّم بها أكثر من 160 باحثاً من داخل فلسطين ومصر والعراق والجزائر وتونس والأردن إلى المسابقة، التي أُعلنت نتائجها النهائية في 14 يونيو 2021م، وقد صدر الكتاب بالتعاون مع مركز المبادرة الإستراتيجية فلسطين (ماليزيا)، والهيئة العامة للشباب والثقافة (غزة)، وأكاديمية المسيري للبحوث والدراسات (غزة)، وهي الجهات ذاتها التي أشرفت على المسابقة البحثية الدولية “لا للتطبيع”.

وقد قامت الجهة العلمية المختصة في مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت بانتقاء الأبحاث من بين 82 بحثاً تمّ تسلمها من الأبحاث الفائزة في المسابقة، ووزعت الأبحاث المختارة على صفحات الكتاب، وفق تصنيف موضوعي، وليس بالضرورة وفق الترتيب أو الدرجة التي حصل عليها في المسابقة، والأبحاث المنشورة هي أبحاث علميَّة محكَّمة، تمّ إجازتها من الجهة التي حكّمت المسابقة، حيث بلغ عدد الأساتذة المُحكّمين 28 أستاذاً، وقد غطّت الأبحاث بشكل متكامل الجوانب الشرعية، والتربوية، والثقافية، والحضارية، والسياسية، والاقتصادية، والإعلامية، والأمنية، والعسكرية المتعلقة بمقاومة التطبيع.

وعليه، يعدُّ الكتاب أحد أبرز المراجع العلمية المتعلقة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، التي لا غنى عنها للمعنيين والمتخصصين والباحثين في هذا المجال، وقد خضع الكتاب لإجراءات التحرير العلمي من مراجعة وتدقيق وضبط للنصوص والمصطلحات والتوثيق، التي أسهمت في إخراجه بحلته النهائية على الوجه المراد.

استعراض عام للفصول:

1- التطبيع من منظور ديني وأيديولوجي:

ركَّزت الدراسات الثلاث الأولى من المجلد على التطبيع مع العدو الصهيوني من المنظور الديني والأيديولوجي، حيث تناولت في مجملها التطبيع في الشريعة وأخطاره على القضية الفلسطينية والدول والشعوب العربية والإسلامية، والتطبيع في المخيال الديني اليهودي، ودور التطبيع مع الاحتلال الصهيوني في إذكاء عقيدة الاستعمار الاستيطاني، وبينت دراسات هذا الفصل حقيقة التطبيع ومعناه وحكمه، واستقرأت سطوة التناقضات القيمية الدينية في أنموذج التطبيع العربي “الإسرائيلي” الجديد من منظور المخيال الديني اليهودي للأغيار، عبر الإشارة إلى الذات الحلولية اليهودية والتطبيع: الأنا المقدس والآخر الممنوع بشقيها: اليهودي المقدس، والرفض الأزلي للأغيار، والإحلالية الإقصائية تجاه الأغيار في المخيال الديني اليهودي وفق قاعدة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وطرحت إشكالية رئيسة مفادها: هل يمكن، في هذه الحالة التطبيعية، للاعتبارات السياسية والأمنية وللمصالح الاقتصادية أن تتجاوز المركّب الديني؟

وخلصت الدراسات إلى أنه لا يمكن إطلاقاً بناء علاقات سوية في ظلّ خلفية دينية إقصائية إحلالية متجذرة، وأن الصراع الوجودي في الأنموذج “الإسرائيلي” العربي هو مسألة بقاء الذات وليس المصالح، وأن الخيار التطبيعي ما هو إلا انغماس في مأزق وجودي جديد، وأن هذا الهوس التطبيعي مجرد موجة جاءت في إطار وضع إقليمي اقتصادي وعسكري وسياسي متقلب وغير مستقر، وأن المطلوب هو تصفية أبدية للتطبيع.

وبالمجمل، فإن هذه الدراسات تحاجج بأن المقاومة ورفض التطبيع مَنْفذٌ لبناء سياسات خارجية اجتماعية، تُستدعى فيها محدّدات الهوية والمكانة والشرف، بخلاف ما هو سائدٌ في الخطاب الرسمي العربي، وما يترتّبُ عليه من صَيْرُورةٍ إلى التبعية والإذلال، كما أنها تشير إلى حكم التطبيع الذي يصل إلى درجة التحريم.

وقد أبدع هذا الفصل من المجلد في بيان أن هناك محاولات لتفكيك الصراع وتحييد مساره من خلال تجزيئه، بحيث ينتقل الصراع وفق هذه الحالة من عربي صهيوني إلى عربي فلسطيني على النحو التالي: من: عدو (إسرائيل) صديقي (فلسطين) عدوي (إسرائيل) إلى: عدو (إسرائيل) عدوي (فلسطين) صديقي (إسرائيل)، وصولاً في محاولات التفكيك إلى أن يتحول الصراع من الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” إلى الصراع الفلسطيني الفلسطيني.

2- التطبيع من منظور قانوني وحقوقي:

ركزت الدراسات الرابعة والخامسة والتاسعة من المجلد على آثار التطبيع على الحقوق الفلسطينية وفقاً للقانون الدولي؛ حيث هدفت إلى تقديم بيان شامل حول الأثر القانوني للتطبيع مع الاحتلال على حقوق الفلسطينيين المشروعة دولياً، والوقوف على الآليات العملية والقانونية لإحياء القضية الفلسطينية، واستجلاء الموقف القانوني من خطوات التطبيع عبر مناقشة تلك الخطوات على محك الشرعية في ضوء الالتزام القانوني والقومي والأخلاقي المفروض على الدول العربية تجاه القضية الفلسطينية، في إشارة إلى تصادم التطبيع مع “المبادرة العربية للسلام”، وتصادمه مع الشرعية الدولية.

إضافة إلى استجلاء موقف القانون الدولي من خطوات التطبيع الفردية التي تتنكر للحق الفلسطيني؛ عبر بيان المسؤولية الأصلية للمطبِّعين، والمسؤولية المشتركة للمطبِّعين مع الاحتلال، وتحديد وتحليل أحكام المسؤولية المدنية لدول التطبيع، مفترضة قيام المسؤولية الجنائية لتلك الدول؛ باعتبار التطبيع صورة من صور الاشتراك الإجرامي في جريمة قائمة ومستمرة منذ أكثر من 72 عاماً.

وقد خلصت الدراسات إلى أن التطبيع يجعل الاحتلال ذا سيادة معترف بها ويخرجه من دائرة العداوة مع الدول المطبّعة، كما أنه يشير إلى أن فلسطين لم تعد قضية العرب الأولى، علاوة على مخالفته الصريحة لقرارات جامعة الدول العربية، كما أنه يسهم في تقويض فرص الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه؛ لا سيّما حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة، وهذا ما تحاجج به دائماً المؤسسات التي تعمل في مجال المقاطعة ومناهضة التطبيع.

وخلصت إلى الحكم بانعدام شرعية التطبيع الفردي المجاني، وانعدام شرعية التطبيع لتعارضه مع القانون الدولي، ولا سيّما في ضوء استمرار جرائم الاحتلال “الإسرائيلي” بحق الإنسان والأرض الفلسطينية، إضافة إلى تحمل المطبِّعين المسؤولية الأخلاقية والقانونية في ظلّ تقديم مصالحهم الشخصية على حساب القضية الفلسطينية، وتحملهم المسؤولية المشتركة مع الاحتلال عن الجرائم التي يرتكبها بحق الفلسطينيين على اعتبار أن التطبيع مثّل تغطية لهذه الجرائم.

وخلص الباحثون إلى أن التطبيع يعدُّ انتهاكاً واضحاً وصارخاً لقرارات الشرعية الدولية والجامعة العربية والمنظمات الدولية والإقليمية، كما يعدُّ انتهاكاً مباشراً للحقوق الفلسطينية واعترافاً بشرعية الجرائم “الإسرائيلية” بحق الشعب الفلسطيني، وهو بحدّ ذاته جريمة مستقلة، ويعد اشتراكاً ولو ضمنياً مع “إسرائيل” في جرائمها وانتهاكاتها بحق الفلسطينيين، كما أشار هذا الفصل من المجلد إلى أن المسؤولية المدنية والجنائية قائمة ومكتملة الأركان ضدّ دول التطبيع كشريك، وضد “إسرائيل” كمجرم رئيس.

وقد وُفِّق الباحثون في عملية الربط بين المطبِّعين والاحتلال في تحمل مسؤولية الجرائم ضدّ الإنسانية التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين، وهو ما يؤكد خطورة جريمة التطبيع العربي مع الاحتلال.

3- التطبيع من منظور ثقافي وتربوي:

شكلت الدراسات السادسة والسابعة والثامنة من المجلد ما يمكن تسميته بالتطبيع من منظور ثقافي وتربوي، حيث تناولت الدراسات التطبيع الثقافي وتداعياته على القضية الفلسطينية، وانعكاسات التطبيع مع الاحتلال “الإسرائيلي” على الخطاب التربوي العربي، ودور الجامعات الفلسطينية في ترسيخ المسؤولية الاجتماعية وتعزيز الثوابت الوطنية لدى طلاب الجامعات في ظلّ التطبيع.

وقد خلصت الدراسات إلى أن التصدي للتطبيع الثقافي واجب قومي لا بدّ أن يقوم على إستراتيجية ثابتة لا تراجع عنها، وأن الخطاب التربوي العربي يتأثر بدرجة كبيرة بالقرارات السياسية، وأن أعمق انعكاسات التطبيع العربي جاءت في سياق الانبهار بالقوة “الإسرائيلية”.

يمكن القول هنا: لعل أخطر ما يمكن أن يروج له التطبيع الثقافي هو إظهار “اليهود” بأنهم أصحاب أرض في البلدان العربية كما حدث في مسلسل “أم هارون”، و”مخرج 7″، وكأنهم هنا يشيرون إلى حقهم التاريخي في المدينة المنورة مثلاً وفي الجزيرة العربية بشكل عام، مع التركيز على الجانب الإنساني لهم، وأنهم يستحقون التعاطف والنظر إليهم بعين الشفقة والرحمة.

4- التطبيع من منظور دور شعوب المنطقة في مواجهة التطبيع:

شكّلت الدراستان العاشرة والحادية عشرة من المجلد ما يمكن تسميته بالتطبيع من منظور دور شعوب المنطقة في مواجهة التطبيع، حيث تناولت مخاطر التطبيع على الدول والشعوب العربية والإسلامية المطبّعة في مختلف المستويات، ودور شعوب المنطقة في مواجهة التطبيع، كما بيَّنت الدراستان أهمية التطبيع بالنسبة لـ”إسرائيل”، حيث تهدف منه إلى انتزاع اعتراف بوجودها، وإنهاء حالة الحرب معها، وإنهاء مقاطعتها، وقرأت إحدى الدراستين التجربتين الشعبيتين المصرية والأردنية وموقف هذين الشعبين من اتفاقات “السلام” الموقَّعة بين حكومتيهما مع “إسرائيل”.

وقد خلصت الدراستان إلى أن تقاليد المجتمع النضالية في بلدان الدراسة هي إنجازات تراكمية تمّ تحقيقها على مدار سنوات طويلة، نجحت في فرض حدّ أدنى من اعتراف النظم المسيطرة بحقوق المجتمع في التنظيم السياسي والنقابي، وإلى أهمية الرفض الشعبي للتطبيع، باعتباره الجدار الأخير في حصن الأمتين العربية والإسلامية، وإلى ضرورة توفير مساحة أوسع للنخب وعلماء الدِّين والفنانين؛ للتعبير عن إدانتهم لكل الخطوات التطبيعية العربية مع “إسرائيل”.

5- التطبيع من منظور أمني:

شكّلت الدراستان الثانية عشرة والثالثة عشرة من المجلد ما يمكن تسميته بالتطبيع من منظور أمني؛ حيث تناولت الدوافع الأمنية للتطبيع العربي “الإسرائيلي” وأثرها على القضية الفلسطينية، وإبراز الأثر العسكري والأمني للتطبيع العربي الصهيوني، وكيف تعمدت “إسرائيل” إلى استغلال ما يجري من تطبيع في البُعد الأمني والعسكري؛ بغية بناء إستراتيجية تستثمر من خلالها عملية التطبيع المتسارعة في ظلّ بيئة دولية وإقليمية متغيرة، في ضرب ثوابت الأمن القومي العربي والموقف من القضية الفلسطينية.

وخلص هذا الفصل إلى أن الدول العربية لم تعد مصدر تهديد لـ”إسرائيل”، وأن التطبيع يدعم وجود “إسرائيل” في الخليج العربي تحديداً، ويعظم مكانتها الإقليمية على حساب القضية الفلسطينية، كما يشدد الخناق على المقاومة الفلسطينية، وأن الأثر العسكري والأمني للتطبيع يعرّض الأمن القومي العربي لتهديدات جسيمة من خلال: الاستعاضة عن الأمن القومي العربي بإقامة نظام إقليمي جديد يحقق لـ”إسرائيل” التوسع على حساب الأمن القومي العربي، وضمان التفوق العسكري “الإسرائيلي” على الدول العربية مجتمعة، وأن “الموساد” سينشط في الدول العربية المطبّعة معه عبر أنشطة ظاهرة وخفية للتخريب الاجتماعي والإفساد الأخلاقي.

كلمة أخيرة:

– ما يميز هذه الأبحاث المنشورة في هذا المجلد أنها أبحاث علميَّة محكَّمة دخلت في تنافس من خلال المسابقة البحثية الدولية “لا للتطبيع”، وهو ما يعطيه القوة والصلابة، فهو ليس مجرد كتاب عن التطبيع.

– تنوع وتعدد المجالات التي تناولت التطبيع، ما يضفي على الكتاب قيمة إضافية تجعله في مصاف المراجع الأولى في مجال التطبيع.

– وعليه، يمكن ترجمة هذا المرجع إلى أكثر من لغة عالمية، ونشره على نطاق واسع لتحقيق الغاية العظمى من الاستفادة مما فيه من معلومات وتحليلات ونتائج وتوصيات.

– ركزت أغلب الدراسات الواردة في الكتاب على ضرورة التوافق على إستراتيجية عربية موحدة للتصدي للتطبيع، بما في ذلك تعبئة الرأي العام، ولكن هل يمكن أن ينجح العرب في ظلّ تناقضاتهم وآرائهم المتعددة تجاه التطبيع في بناء هذه الإستراتيجية؟

– أثبتت الشعوب العربية والإسلامية أصالتها ورفضها للتطبيع ودعمها للمقاومة، وحقّ الشعب الفلسطيني والأمة في أرض فلسطين المقدسة والمباركة، وبالرغم من أن حكومات الدول المطبّعة تسعى لتطويع شعوبها وتكييفهم مع التطبيع، إلا أن تجارب السنوات الماضية أثبتت أن التطبيع قشرة سطحية، وأن شعوب الأمة تسارع في دعم فلسطين ومقاومتها كلما حدثت انتفاضات، وكلما أتيح لهذه الشعوب أن تعبّر عن نفسها بحرية.

Exit mobile version