معايشة النهايات

 

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجْزِيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس»(1).

في ظلال الوصية

هذه وصية غالية وحكمة جليلة من الحكم الملائكية لأمين السماء جبريل عليه السلام إلى أمين الأرض صلى الله عليه وسلم.

حَوَت من المعاني الوجوه الحسان، وأسفرت عن جمال كحور مقصورات في الخيام، وتَبَدتْ عن جواهر كأنها العِقد الجُمان، واشتملت على جموم اللطائف وفخامة الأسرار ورقة الحواشي ما يعجز عن توضيحه لسان ولا يحيط به إنسان، كلماتها بلغت في الحسن الغاية وفي الإفادة النهاية.

قال الإمام الغزالي، رحمه الله: «جمعت هذه الكلمات حكم الأولين والآخرين، وهي كافية للمتأمل فيها طول العمر، إذ لو وقف على معانيها وغلبت على قلبه غلبة يقين اسغرقته وحالت بينه وبين النظر إلى الدنيا بالكلية والتلذذ بشهواتها، وقد أوتي المصطفى صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وكل كلمة من كلماته بحر من بحور علوم الحكمة»(2).

معنى المُعايشة

المُعايشة هي التفكر والتمعن والتدبر في هذه الوصية؛ لأن معايشة النهايات تُذهب الغفلات وتطرد الحسرات وتحفز الهمم وتجدد العزائم.

وأعني بذلك: أن يفكر الإنسان في هذه الوصية في يقظته ومنامه وحِله وترحاله في الخلوة والجلوة.. يفكر فيها وحده في خاصة نفسه وبين أهله وذويه.. يفكر في معانيها ومقاصدها الإيمانية والتربوية، وإن كانت معايشة الحقائق والواقع تحتاج إلى عمر طويل وعملٍ موصول، فتفكر وتدبر وانظر ماذا ترى؟ وحاول أن تتلمس ما فيها من خير عميم وعطاء جزيل.

الموت الحقيقة الراسخة

لا شك أن رأس المال الحقيقي هو العُمر، وما الإنسان في حقيقته إلا مجموعة من الأيام والليالي والدقائق والثواني، وإذا انفرط عِقد العُمر وآذنت شمسه بالمغيب انقطعت نفس الإنسان هنا حسرات؛ فالعمر كعِقد منظوم إذا سقطت منه واحدة تتابع الباقي كالسيل المنهمر؛ لذا كان أول الوصية أن يفكر الإنسان أنه مهما عاش فنهايته إلى الفناء، فتخيل الموت والقبر وإذهاب الحياة الدنيا وأنت تُحمل على الأعناق، لقد كتب أحد العقلاء على محمله هذه الكلمة الوجيزة البليغة «اُنْظُرْ إلَيَّ بِعَقْلِك فإني الْمُهَيَّأ لِنَقْلِك»، والأهم من هذا كله أن أعمارنا قصيرة، وأزوادنا قليلة، والنفوس التي لا تعايش هذه الحقائق تندم ولات حين مندم؛ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ {1} مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ {2} لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (الأنبياء).

ومن روائع «صيد الخاطر» هذه المعايشة للإنسان العاقل: «صور لنفسك قصر العمر، وكثرة الأشغال، وقوة الندم على التفريط عند الموت، وطول الحسرة على البدار بعد الفوت، وصوِّر ثواب الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل، ولا تخل نفسك من موعظة تسمعها، وفكرة تحادثها بها، فإن النفس كالفرس المتشيطن؛ إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك، وقد والله دنستك أهواؤك، وضيعت عمرك»(3).

الحب بين المنافع والدوافع

الحب ميل قلبي تجاه المحبوب، وأُنسٌ وفرح بذكره، والناس تتفاوت في الحب؛ فمنهم من يحب الأولاد حباً جماً، ومنهم من يأكل المال أكلاً لمّاً، ومنهم من يحب المنصب والجاه، وللناس فيما يعشقون مذاهب ولكن وقفة المعايشة هنا مطلوبة؛ بمعنى أن ينظر الإنسان إلى ولده وفلذة كبده ومحط فؤاده ويعلم أنه سيفارقه فيحسن تربيته على حميد الخصال وكريم الفعال؛ لأنه إذا حَسُن البدء حَسُنَ الختام، وينظر إلى ماله عند اللقاء ويتذكر أنه سيفارقه فيجمعه من حلال ويعرف حق الله فيه، وينظر إلى منصب ويعلم أنه سيفارقه حتماً حتماً فما يعدل خير المنصب في جناح البعوضة، فالإنسان ضيف وما يملكه عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردودة، قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف: 46).

الأعمال بين القمة والقمامة

تمر بنا الأيام تَترا، وقلم التسجيل الإلهي لا يتوقف، وذهبت معه مشقة الطاعات وبقي ثوابها، ورحلت لذات المعاصي وبقي عقابها، وليت الذنوب إذا تخلت خلت، ولكنها تُدون وتُكتب وإن نسيها الإنسان فلقد تم تسجيلها عند الواحد الديان؛ (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة: 6)، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَاماً كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار).

ويبقى الميزان العدل يوم الجزاء، فمن زرع خيراً حصد رغداً، ومن زرع شراً حصد ندامة ورهقاً؛ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة).

فعايش قبل أن تعاين، واعلم بأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.

مظان الشرف الحقيقي

كلنا يبحث عن الشرف، ولكن في غير مظانه، فمنا من يبحث عن الشرف في المال، ومنا من يبحث عن الشرف في الانتساب إلى الرجال، لكن الشرف الحقيقي في الانتساب إلى الله بارئ الأكوان، والمؤمن ينبغي أن يكون له مع الله حال، ففي جنح الليل وعندما يخلو كل حبيب بحبيبه يخلو أهل الإيمان بربهم لمناجاته بصلاة ركعاتٍ وتدبر آيات واستغفار الله من الهفوات والزلات وصلاة وسلاماً على أشرف المخلوقات وسيد السادات صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {16} فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة).

إن معايشة الشرف الحقيقي لا تكون إلا مع الله تعالى رب البشر ومالك القوى والقدر، ومن حجب عن ذلك فهو في حرمان عظيم، خاصة إذا كان القلب لاهياً، والعقل ساهياً، ولسان حال المتعايشين مع هذا الشرف يقول: «لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف»، وقال آخر: «إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً»، وقال آخر: «إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب»(4).

النظارة.. الإمارة.. الإسارة

العِزة خلق عظيم يتوسط رذيلتين؛ الكِبْر والعُجب، ومن فضل الله تعالى أن جعل بين الناس تفاضلاً وتكاملاً في شتى مناحي الحياة، فالرئيس يحتاج إلى المرؤوس، والغني إلى الفقير، وذلك حتى يتعايش الناس في حب واتساق؛ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، وتبقى مرحلة التمايز؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وإياك أن تذل نفسك وأن تريق ماء وجهك إلا لله تعالى، فالحر الأبي يفضل أن يراق دمه ولا يراق ماء وجهه، فالعز كل العز في طاعة الله والاستغناء عن الناس، فكلنا يبغي الإمارة؛ والإمارة في الإحسان إلى الخلق، وكلنا لا يستغني عن النظارة؛ والنظارة في الاستغناء عن الخلق، وكلنا يبغي أن يفر من الإسارة؛ وذلك بعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس، ولذلك قيل: «استغنِ عمنّ شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره؛ وأحسن إلى من شئت تكن أميره»(5).

وبعد، فإن هذه الوصية تستحق أن تكتب بماء العين فهي زهرة جميلة من حديقة السُّنة المطهرة.

 

 

 

 

 

____________________________________________________________

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الأدب، باب كتاب الرقاق، (4/360، برقم: 7921)، والطبراني في المعجم الأوسط، (4/306، برقم: 4278)، وصححه الألباني في سلسلته الصحيحة، (2/ 483، برقم: 831).

(2) إحياء علوم الدين، (4/ 431).

(3) صيد الخاطر، (ص333).

(4) الجواب الكافي، (ص84).

(5) مجموع فتاوى ابن تيمية، (1/ 39).

Exit mobile version