«الفيتو» التركي ضد انضمام السويد وفنلندا لـ«الناتو»

 

على هامش الحرب الروسية الأوكرانية، وخوفاً من تمدُّدها نحوهما.. تقدمت كل من السويد وفنلندا بطلب للانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ الأمر الذي يتطلب موافقة جميع أعضاء الحلف، وهو الطلب الذي اصطدم بمعارضة تركيا التي ترى أن الدولتين ترعيان منظمات إرهابية تعمل ضدها.

منذ انتهاء الحرب الباردة كان يفترض أن يتغير نسق العلاقة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو من جهة أخرى، وقد وقّع الجانبان عدة تفاهمات واتفاقات، كان من ضمن بنودها التزام الناتو بعدم التمدد شرقاً، لكن السنوات اللاحقة شهدت تراجعاً للحلف عن تلك التفاهمات؛ حيث ضم منذ تسعينيات القرن الماضي، على عدة مراحل، معظمَ دول الاتحاد السوفياتي السابق وشرق أوروبا.

مع بوتين، عادت روسيا لتبنيَ قوتها من جديد، وتعمل على رسم حدود مختلفة لتعامل الناتو معها. واستشعاراً منها لخطورة اقتراب الأخير من حدودها الغربية من خلال الإعلان عن احتمال انضمام كل من جورجيا وأوكرانيا له، تدخلت روسيا في الأولى عام 2008 دعماً للانفصاليين في أبخازيا وأوستيا الجنوبية، وفي أوكرانيا عام 2014 دعماً للانفصاليين في إقليم دونباس في الشرق، ثم نظمت لاحقاً استفتاء ضمت على إثره شبه جزيرة القرم لأراضيها.

ومنذ 2014 لم تهدأ العلاقات بين موسكو من جهة وكييف المدعومة غربياً من جهة ثانية، إلى أن تفجر الوضع بالحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير الفائت، التي ما زالت حتى اللحظة تنذر باحتمالات التوسع بانخراط أو استدراج أو إجبار أطراف أخرى على المشاركة بها، ودقت الحرب ناقوس الخطر بالنسبة لعدد من الدول الأوروبية خوفاً من وصول لهيب الحرب إلى أراضيها.

الفيتو التركي

طوال فترة الحرب الباردة وفي السنوات التي تلتها، حافظت كل من السويد وفنلندا على حالة الحياد، لكن خشيتهما من هجوم روسي محتمل في ظل التوتر بين موسكو والغرب دفعهما لتقديم طلب للانضمام للحلف، قوبل بحماسة من رئاسة الحلف والولايات المتحدة ومعظم الأعضاء؛ حيث دعا الأمين العام للناتو “ينس ستولتبيرغ” لتسريع خطوات العضوية، لكن الملف اصطدم بمعارضة كل من المجر وتركيا.

بالنسبة لأنقرة، ترعى الدولتان، أو على أقل تقدير، تغضان الطرف عن مؤسسات وشخصيات وأنشطة داعمة للمنظمات الإرهابية، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني على أراضيهما؛ ولذلك أعلنت (تركيا) أنها لن توافق على عضوية البلدين في الحلف، ما لم تقدما التزامات واضحة بخصوص مكافحة الإرهاب، فضلاً عن رفع حظر توريد السلاح لتركيا (على خلفية عملياتها العسكرية في سورية ضد الامتدادات السورية للعمال الكردستاني كذلك).

في يونيو الفائت، وقعت كل من تركيا والسويد وفنلندا مذكرة تفاهم ثلاثية برعاية الناتو تلتزم فيها الأخيرتان بإجراءات، وتتعهدان بخطوات إضافية، من بينها التعامل بجدِّية وسرعة مع مطالب تركيا المرتبطة بمكافحة الإرهاب، وربطت أنقرة موافقتها على مسار العضوية بمدى التزام كل من أستوكهولم وهلسنكي بمذكرة التفاهم.

خلال الشهور التي تلت توقيع الاتفاقية أرسلت الدولتان عدة وفود لأنقرة للتفاوض مع المسؤولين الأتراك، وتحدثتا عن رغبتهما في التعاون، رغم أن بعض ما هو منتظر منهما قد لا يحصل سريعاً بسبب التعقيدات التشريعية أو السياسية في البلدين، لكنهما تعاملتا بفاعلية أكثر مع المطالب التركية، وسلمتا لأنقرة بعض المطلوبين، وتحدث بعدها ستولتنبيرغ بإيجابية حول التزام الدولتين بالاتفاق، ودعا أنقرة للموافقة على انضمامهما للحلف.

لكن الأمور لم تسِرْ بشكل إيجابي بعد ذلك؛ ففي الشهر الفائت نُظمت مظاهرة في السويد من أنصار العمال الكردستاني ضد تركيا، أعدمت فيها دمية على هيئة الرئيس التركي، توترت بعدها العلاقات بين الجانبين كثيراً، وألغى رئيس البرلمان التركي زيارة كانت مقررة لنظيره السويدي لتركيا، وبعد ذلك بأيام سمحت الحكومة السويدية لمتطرف بإحراق نسخة من المصحف الشريف أمام سفارة تركيا في أستوكهولم، معللة ذلك بحرية التعبير والديمقراطية، وأن السماح بذلك لا يعني تأييده أو إقراره.

مجدداً، توترت العلاقات بين الجانبين، واستدعت الخارجية التركية السفير السويدي، وأبلغته رسالة احتجاج على ما حصل، وألغى وزير الدفاع التركي زيارة مقررة لنظيره السويدي، وقال الرئيس التركي: على السويد “ألا تنتظر منا الموافقة على انضمامها للناتو”، بعد سماحها بالعمل الاستفزازي.

الفرص

وهكذا، بات من الصعب جداً أن تحصل السويد –تحديداً- على موافقة تركيا على انضمامها للناتو بعد السماح بحادثة إحراق المصحف الشريف ومحاولة تبريرها؛ لأنه من غير المنتظر من أي سياسي -فضلاً عن أردوغان- أن يصادم الرأي العام التركي الذي بات يعارض بشدة موافقة بلاده على الأمر، وقد نظّم مظاهرات حاشدة للتنديد بالحكومة السويدية.

في الأصل، كانت أنقرة تدرك أنها لن تحصل على كل ما تريده من السويد وفنلندا، وأن بعض مطالبها قد لا يسعفها الوقت أو الإجراءات التشريعية في البلدين، لكنها كانت ستكتفي برغبة صادقة في التعاون وجدّية في التعامل، وبعض الإجراءات المدلِّلة على ذلك.

ورغم هذا، كان سيف الوقت مسلطاً على المسار برمته؛ فمن جهة باتت التطورات الميدانية والمواقف السياسية تنذر باحتمال توسع الحرب الروسية الأوكرانية، وأن تشمل دولاً إضافية في المستقبل القريب، وهي تخوفات عبَّر عنها أكثر من مسؤول أوروبي. ومن جهة ثانية فقد اقترب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا؛ وهو ما لا يتيح الكثير من الوقت لشؤون السياسة الخارجية الأقل أهمية.

ثم إن قرار الرئيس أردوغان تبكير الانتخابات حتى الرابع عشر من مايو المقبل قد ضيّق النافذة الزمنية المتاحة كثيراً، وربما لم يترك لها مجالاً. ومع الأحداث الأخيرة التي تسبَّبت بمواقف تركية متشددة، من غير المرجح أن توافق أنقرة على انضمام السويد للناتو؛ فقد يُنظر لذلك على أنه تحدٍّ لمشاعر الشعب التركي بعد حادثة الحرق، كما أن البرلمان سينشط فيما تبقى له من وقت لإنجاز مشاريع قوانين مهمة داخلياً، قبل أن يتوقف عمله مع القرار الرسمي لتبكير الانتخابات.

وهكذا، يظهر جلياً خطأ الحكومة السويدية بسماحها بالفعالية وحمايتها وتبريرها، وهو خطأ بحق نفسها قبل الآخرين؛ إذ كانت هي في مقدمة المتضريين منه كما يبدو؛ حيث ألقت بما فعلت بملف حيوي لها في مسار المجهول بانتظار نتائج الانتخابات التركية المقبلة.

لا يعني ذلك أن الأمر بات مستحيلاً، لكنه بات صعباً جداً ولا كثير من الوقت له. لكن نظرياً، ثمة إمكانية لموافقة تركيا إذا قدمت السويد التزامات عملية واضحة وصارمة بالاتفاق الموقّع والمطالب التركية (وربما ترفق ذلك باعتذار عما حصل)، أو إن كان الأمر ضمن تفاهم أوسع يشمل الحلف أو الولايات المتحدة، خصوصاً إتمام صفقة مقاتلات “إف16” الأمريكية لأنقرة.

لكنه يبقى بكل الأحوال احتمالاً ضعيفاً جداً، والأرجح أن يؤجل الأمر لما بعد الانتخابات المقبلة، وهو ما يترك مآلات الملف غامضة؛ إذ بافتراض استمرار الموافقة الرسمية التركية على مستوى الرئاسة؛ فلا يضمن أحد تركيبة البرلمان الجديد بعد الانتخابات وتوجهاته، فضلاً عن أن الرئاسة التركية ستكون أقوى موقفاً تفاوضياً بعد تمرير الانتخابات منها اليوم على الأرجح.

Exit mobile version